في مقالته المنشورة في صحيفة الأيام بمناسبة ذكرى الاستقلال الوطني، التي أعيد نشرها في كتابه "آفاق فكرية وسياسية يمنية"، الصادر عن منتدى الجاوي الثقافي بصنعاء، يقول الفيلسوف الدكتور أبو بكر السقاف: "الخامس من نوفمبر عام 1967، ومارس وأغسطس 1968، محطات حاسمة في تاريخ وراثة الإمامة، وجاء اغتيال الشهيد إبراهيم الحمدي ليزيح آخر عقبة أمام الاستيلاء الكامل على السلطة، وإن لم يشكّل نظامه السياسي تحدّيًا كاملًا للمؤسسات التي يستندون إليها". كما جاء 21 سبتمبر 1914، كمحطة أخرى في تاريخ وراثة الإمامة المتناسلة باستلام السلطة مرة أخرى من يد ورثة الإمامة المزيّفون إلى يد الورثة الحقيقيون الذين تربطهم علاقات القربى وصلة الدم بالإمامة الأصلية.
وأيّ دعوة لاستعادة السلطة السابقة إنما هي دعوة لاستعادة سلطة الوراثة المزيفة، وأيّ دعم لسلطة 21 سبتمبر إنما هو إقرار بعودة الإمامة، وسواء تعلق الأمر بالمزيفين أو الحقيقيين، فإن السلطة المركزية والوظيفة العامة في اليمن لن يخرج انتشارها وقبولها عن الآلية التي اعتُمِدت في عهدَي الإمامة السابقين (عهدي يحيى وأحمد)، عبر نشر المفارز العسكرية والتعيين الشخصي، فمستقبل العمل الوطني في ظلّ أيٍّ من النموذجين السابقين لن يكون عبر التنافس وصراع البرامج، ولكنه سيكون عبر الاختيار والتعيين الشخصي لمن يُبدي الولاء الكامل لشخص الحاكم المطلق.
رغم ما يدعيه بعضهم، بأنه نموذج مختلف عن النظام السابق، فإننا لم نرَ فرقًا بين مختلف النماذج، لا في تدمير مؤسسات الدولة ولا في التخلي عن الحقوق المكتسبة للموظفين، وعدم الاعتراف بالتعددية الحزبية، وقمع حرية الإعلام والصحافة، وارتكاب الجرائم الوحشية بحق المواطنين في النطاق الجغرافي لكل جماعة.
سُلط اليوم إمامية المنبع
إن قوى السلطة التي تدَّعي أحقيتها اليوم بالحكم، سواء في صنعاء أو عدن، أو في تعز أو مأرب، أو في المخا -كما يصفها د. أبو بكر السقاف- "تكونت داخل مجتمع الإمامة، فهي نفسها كانت ممارسة تاريخية لهذا النوع من السياسة، وجزءٌ كبير من روحها وأسلوبها ونمط تفكيرها لا يزال حيًّا في الوراثة". وقد نجد أنّ بعضهم قد تكوَّن بصورة كاملة داخل مجتمع الإمامة، وبالإمكان أن نرى في سلوكه ما يسميه علماء النفس بفكرة "التوحد مع الجلاد أو التماهي مع الأقوى"، والمثال على ذلك نجده اليوم ماثلًا في كل ساحة الصراع القائم في مناطق مختلفة من اليمن.
ورغم ما يدعيه بعضهم، بأنه نموذج مختلف عن النظام السابق، فإننا لم نرَ فرقًا بين مختلف النماذج، لا في تدمير مؤسسات الدولة ولا في التخلي عن الحقوق المكتسبة للموظفين، وأولها عدم صرف رواتب الموظفين بانتظام، وصرف رواتب بعض موظفي الدولة وحرمان بعضهم الآخر من رواتبهم، وعدم الاعتراف بالتعددية الحزبية، وقمع حرية الإعلام والصحافة، وارتكاب الجرائم الوحشية بحق المواطنين في النطاق الجغرافي لكل جماعة، ومصادرة الحقوق الخاصة بدون أي شعور بالذنب.
ولسنا هنا بحاجة إلى الاستشهاد بما يقوم به القادة الصهاينة ضد الشعب الفلسطيني، وهم الذين عانوا كثيرًا من الاضطهاد في أوروبا والمجازر النازية، قبل أن يتم إنشاء ما يسمى بالوطن القومي لهم في فلسطين، ودفعهم للهجرة إليه، ليجعلوا من فلسطين شعبًا وأرضًا ضحية لجرائمهم ضد الإنسانية، بل وصل بهم الحد إلى اتهام المنظمات الأممية بالإرهاب، كمنظمة الأونروا الدولية، ومنظمة الصحة العالمية، والمحكمة الجنائية الدولية، ومحكمة العدل الدولية، وذلك في ظلّ صمت عربي وإسلامي، وصمت أممي لا نظير له عبر التاريخ؛ فما تمارسه الأنظمة العربية والإسلامية ضد المختلفين معها، لا يقل بشاعة وإجرامًا عمّا تفعله الصهيونية ضد الشعب الفلسطيني بكل فئاته، بل إن القيادات الإسرائيلية لا تكف عن التباهي بالحديث عن التحالف الصهيوني مع بعض الأنظمة العربية ضد فصائل المقاومة الفلسطينية، وهذا ما يجعل إسرائيل أكثر ثقة وتوحشًا ضد الفلسطينيين والشعوب العربية.
ولكن كيف علينا أن نناضل من أجل تخليص سلطة الشعب في بلدنا من وَهْم الوراثة أيًّا كان شكلها أو نوعها؟!
يجب الكف عن السير في مواكب الزاعقين والصارخين لاستعادة أو تثبيت سلطات الوراثة المنهارة، والعمل بجد على إيجاد سلطة وطنية مدنية مستقلة لتكون التجسيد الحقيقي لسلطة الشعب كل الشعب، وليست سلطة الوراثة المزيفة، أو سلطة الأدعياء بالحق الإلهي، أو سلطة بالوكالة للقوى الخارجية.
من أجل سلطة الشعب وحده
يحتم الواجب الوطني علينا -القوى الوطنية- النضال ضد نموذجي الوراثة المزيفون والحقيقيون، ودعاة الانفصال، واستعادة النظام السابق، فأولئك يفرضون سلطاتهم على أجزاء متعددة من البلاد، ويتلقون الدعم الخارجي من أكثر من طرف، فيما هم يستولون على مخرجات ثروات البلاد ومواردها الأساسية بما في ذلك المرتبات، ليخوضوا حروبًا يومية لا نهاية لها بأبناء البلاد، شمالها والجنوب.
فيما يجب على القوى الوطنية أن تخوض النضال لصالح إيجاد وتثبيت سلطة المؤسسات العامة والمدنية، سلطة الشعب، لا سلطة الوراثة. وهذه الخطوات لن تتم قبل أن تحدد الحركة الوطنية اليمنية موقفها المبدئي الثابت والمعلن من دعم قضايا الأمة، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، باعتبارها القضية المركزية لكل القوى الوطنية والديمقراطية في المنطقة العربية.
أصبح أبناء اليمن مجرد مرتزقة يقاتلون بالأجر اليومي لاستعادة وتثبيت سلطات الدعاة المزيفين والمُدّعين على مختلف أشكالهم، بينما الهدف الذي يجب أن تعمل عليه الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني اليمني -إن كان لا يزال هناك أحزاب سياسية حقيقية ومنظمات مجتمع مدني ناهضة- هو الكف عن السير في مواكب الزاعقين والصارخين لاستعادة أو تثبيت سلطات الوراثة المنهارة، والعمل بجد على إيجاد سلطة وطنية مدنية مستقلة، لتكون التجسيد الحقيقي لسلطة الشعب كل الشعب، وليست سلطة الوراثة المزيفة، أو سلطة الأدعياء بالحق الإلهي، أو سلطة بالوكالة للقوى الخارجية، أيًّا كان شكل التدخل الخارجي، سواء كان إقليميًّا أو دوليًّا، والإقرار بحق التعامل المتكافئ مع الدول المجاورة والأجنبية التي توافق على دعم نضال الحركة الوطنية الديمقراطية اليمنية بدون تدخل في نهجها وسياستها أو محاولة الحدّ من علاقاتها مع الحركات الوطنية والديمقراطية على المستويين، الإقليمي والدولي، وبدون التأثير على مواقفها من دعم قضايا حقوق الإنسان ودعم قضايا التحرر الوطني الديمقراطي على المستويين العربي والدولي.
مراجعة المواقف وتصحيح الأخطاء
إذا كانت القوى الوطنية اليمنية قد فشلت في تجربتها السابقة، ولم تستطع أن تنهض بدورها الحقيقي منذ قيام ثورة الــ26 من سبتمبر 1962، وتخلت في لحظة فاصلة من الزمن عن إرث ونظام ثورة الــ14 من أكتوبر 1963، وتراجعت عن مواصلة السير في نهج الثورة مع مراجعة المواقف وتصحيح الأخطاء بما يضمن استمرار المكاسب الوطنية التي حققتها الثورة، فليست مسيرات الشعوب كلها صحيحة، وليست كلها خاطئة، وعلى قيادة الحركة الوطنية الجديدة أن تستوعب هذا الوضع وتسارع إلى مراجعة تجربتها، وعليها أولًا أن تكف عن السير والهتاف في مواكب الزاعقين والصارخين، وإنما عليها أن تستفيد من ماضيها، وهو ماضٍ مليء بالنجاحات والإخفاقات على السواء، ويفترض الاستفادة من نتائج المراجعة والتقييم، بالعمل على تحديد استراتيجياتها وتكتيكاتها الصائبة، للنضال من أجل القضاء على كل إخفاقات الماضي، ودعم وتعزيز النجاحات، والتخلي عن العمل بالوكالة لصالح القوى الإقليمية والدولية، أو العمل مع ورثة سلطات الإمامة، والعمل بجد وصدق من أجل بناء الدولة الوطنية الديمقراطية القائمة على المواطنة الحقيقية، بعيدًا عن رفع وترديد الشعارات الانفصالية، والدعوات الانقسامية والعنصرية، التي لن تنتج سوى مجتمع منقسم على نفسه، ومشتت حول صراعات مستمدة من سجلات التاريخ، ولا علاقة لها بمشكلاتنا الحقيقية التي نعاني منها يوميًّا وتحتاج إلى تفكيرنا وتحليلنا لأسبابها الحقيقية، ونتائجها المدمرة، وكيفية التعامل معها؛ لحلّها بما يحقّق مستقبل أولادنا، وتطوُّر وطننا، الذي لا يزال يرزح في ظل العمران البدوي، والعصبية المدفوعة بالأنانية والانتقام، التي لم تتغير أو تتطور رغم مرور السنين على المستويين التاريخي والاجتماعي.
الوحدة والديمقراطية والتقدم
على القوى الوطنية الحقيقية التي يهمّها النضال بصدق من أجل حرية الشعب اليمني واستقلاله وتقدمه الاجتماعي، أن تغادر مواقعها المتخاذلة ومواقفها الأنانية، وعليها أن تلتمّ على بعضها لتناضل بتجرد، من أجل الوحدة والديمقراطية والتقدم الاجتماعي، ومن أجل استعادة استقلال الدولة اليمنية المستقلة، التي لن تكون إلا بلَمّ شتات الشعب اليمني وقواه الديمقراطية المؤمنة بالتحرر والحرية والتقدم والاستقلال، بعيدًا عن الارتباط بالدوائر الإقليمية والدولية، ذات الأهداف الاستحواذية والهيمنة الاستعمارية، التي ترى أنّ أهدافها غير المشروعة، لن تتحقق إلا بتدمير علاقات التضامن الاجتماعي، بين أفراد وفئات الشعب اليمني، والعمل على خلق علاقات صراعية وعدائية غير حقيقية بين الهُويات المتعددة، داخل الشعب اليمني، وربطها بمصالح ضيقة وأنانية، على حساب المصالح الوطنية العليا للشعب اليمني بكل فئاته وهوياته المتعددة، وهي المتمثلة بالوحدة والديمقراطية والمواطنة الحقة والنضال الجماعي من أجل التحرر والاستقلال، والتطور والتقدم الاجتماعي الشامل، وهذا لن يكون إلا باستعادة وحدة القوى الوطنية والديمقراطية على مستوى الوطن اليمني عمومًا. ولن تحافظ اليمن على وحدتها واستقلالها وتقدمها الاجتماعي، في ظل سلطة المؤسسات والمواطنة الحقة، ما لم تتوحد حركتها الوطنية الديمقراطية.