صحيفة (14 أكتوبر) صحيفةٌ رسمية تأسّست في 19 يناير 1968؛ أي بعد خمسين يومًا من نيل الاستقلال الوطني في الجنوب دولةُ جمهورية اليمن الجنوبية الشعبية، بقرار جمهوري أصدره الرئيس الأول لهذه الدولة الناشئة هو الرئيس الراحل قحطان الشعبي، لتكون هذه الصحيفة معبرة عن خط وتوجّه الدولة الجنوبية الناشئة سياسيًّا واقتصاديًّا واجتماعيًّا وثقافيًّا ودبلوماسيًّا.
ويعود شرف التأسيس لهذه الصحيفة، إلى السياسي القيادي في تنظيم الجبهة القومية الأستاذ الراحل عبدالباري قاسم، الذي كان له قصب السبق في وضع تصوراته الأولية حول اسم وبنية وهيكل الصحيفة، وقد عكسها في بدايات إدارته للصحيفة كأول مدير عام ورئيس تحرير لها بتكليف أو مبادرة منه. واستحقّ بذلك أن نعده المؤسس الفعلي للصحيفة.
وقد أثبتُّ -في تحقيق صحفي- هذه الفرضية من خلال نشر وثائق حصلتُ عليها شخصيًّا من أرشيف الراحل، زوّدني بها أبناؤه، لا تدع مجالًا للشكّ بأنه كان العقل المدبِّر لتأسيس الصحيفة تكوينًا بنائيًّا في الإدارة والسياسة التحريرية والنشر والإعلان والعمل التجاري والتوزيع والمطابع الصحفية وغيرها.
ومن المصادفات الثقافية الجديرة بالإشارة، أنّ الشهيد الراحل عبدالباري قاسم بقدر ما كان قياديًّا سياسيًّا في التنظيم السياسي الحاكم (تنظيم الجبهة القومية)، فإنّه في صورته الأخرى كان مثقفًا وأديبًا، بل كان كاتب قصة قصيرة وله قصص منشورة في الصحف المحلية التي كانت تصدر قبل الاستقلال، مثل الأيام والنهضة وغيرها، ولم يتَح لنا التعرفُ على الجانب الآخر من شخصية الشهيد عبدالباري قاسم، أول رئيس تحرير لصحيفة 14 أكتوبر.
ومن هذا المنطلق يمكن القول إنّ تأسيس الصحيفة لم يقم بنيانه على عقل سياسيّ محض، بل على قيادة مثقّفة وكان رئيس تحريرها أديبًا وقاصًّا، وربما انعكس هذا على مجرى تشكيل صفحات الصحيفة، ومنها التميز بإصدار الصفحة الثقافية من أول أيام التأسيس.
إذ تعتبر صحيفة (14 أكتوبر) الصحيفةَ الرسمية الأولى التي كانت الصفحة الثقافية من الصفحات الثابتة في الإصدار، بل إنّ إصدارها كان بصورة يومية.
إنّ هذا الالتزام المهني لإصدار صفحة يومية للثقافة، والحفاظ على تقليد نشرها دون توقف يدلّ على عقلية ثقافية كانت على رأس قيادتها، انعكس على سياستها التحريرية منذ التأسيس، وحتى يومنا هذا.
ولا شك أنّ مشاركةَ عددٍ من المثقفين العرب في إدارة الصحيفة في أيامها الأولى، أمثال القاصّ والروائيّ الفلسطينيّ يحيى يخلف، وآخرين، وكذا دخول عددٍ من المثقفين المحليين في هيئة تحرير الصحيفة، ساهمَ في تكوين هذه القناعة بأهمية نشر الصفحة الثقافية اليومية في صحيفة (14 أكتوبر).
وهذا الأمر يبدو مهمًّا الإشارة إليه، لا سيما أنّ تلك المرحلة من أيام الاستقلال كانت محفوفةً بكثير من الشطط والحماسة السياسيَّين وغلبة المدّ الثوري على ما عداه من اهتمامات ذات بعد ثقافي، وهي حال الأمور في الأيام الأولى من إنشاء الدولة الوطنية التي كان صوت البندقية والشعارات طاغيًا على المشهد العام، وربما لا يأبه للدور الثقافي في الحياة العامة، ومنها الصحافة.
على أنّني لا أستطيع أن أوفي المرحلة منذ تأسيس الصحيفة عام 1968 حتى العام 1977، وهو العام الذي ارتبطتُ فيه بهذه الصحيفة ارتباطًا مهنيًّا أستطيع فيه الحديث عنه بكل سلاسة، عكس المرحلة السابقة لهذا؛ لعدم توفر المعلومات أو التوثيق الذي يسمح بالحديث عنها.
ويمكنني أن أستذكر عددًا من الأدباء والكتّاب الذين ارتبطوا بالصفحة الثقافية، أمثال القرشي عبدالرحيم سلام، ومحمود الحاج، وفضل النقيب، ومحمد صالح حيدرة، وآخرين أعتذر عن عدم ذكرهم.
واستمرّت الصفحة الثقافية بالصدور اليوميّ معبرةً عن الإبداع الثقافي والأدبي بكافة أشكاله: الشعر - القصة – النقد - المسرح، والفعاليات الأدبية والثقافية، والعمود والمقالة الثقافية.
ولا يمكن اليومَ النظرُ إلى المنشور في الصفحة الثقافية خلال تلك المرحلة من نهاية الستينيات والسبعينيات إلا برؤية طبيعة المرحلة وشواغلها التي جسّدت في كثيرٍ منها حماسة ثورية استطاعت أن تجسّد في المقابل كتابة إبداعية لأدباء وكتّاب في الجنوب المستقل حديثًا، كما شهدت صفحاتها جدالات وحوارات ونقاشات كانت تعمل في الواقع الثقافي والأدبي، ومنه الجدال حول الشعر الكلاسيكي والشعر الحديث، ومفهومات أدبية جديدة حول الحداثة والمدرسة الواقعية في الأدب، ولعلّ أكثر هذه الجدالات ما كان حول أدب الشباب بين الأدباء الكلاسيكيين والأدباء المحدثين، وغيرها من الموضوعات الأدبية ومدارسها، وكان السائد فيها غلبة الفكر التقدمي الذي بدأت الدولة تتبناه على حساب الفكر الكلاسيكي لأدباء من جيل الآباء.
تجربتي مع الشأن الثقافي في (14 أكتوبر)
أول علاقة لي مع صحيفة (14 أكتوبر) كان في أغسطس 1976، عندما نشرت لي الصحيفة قصيدة باسم (عنقود الكَرْم الأسود) احتفى بها الأديب والقاصّ محمد عمر بحاح مدير التحرير -كما قال لي لاحقًا- ونشرها في الصفحة الأخيرة، وهو شرف كبير لشاعر شابٍّ مغمور مثلي. وكانت هذه البداية على دخولي عالم الصحافة، رغم اتجاهي التعليمي العلمي المجافي لعالم الصحافة، وكينونتي الأدبية الشعرية التي لا تؤشر لهذا الاحتمال.
وفي صيف عام 1977، كانت خطوتي الثانية لإقامة عالم الصحافة، ولوج قصر صاحبة الجلالة (قصر السلطان) في منطقة الرزميت بكريتر، حين تم قبولي مساهِمًا في الصفحة الثقافية بتوجيهات من البحاح. وقد ذكرت تفاصيل هذا اللقاء مطوّلًا في مقالة منشورة تحت عنوان: (تسعون يومًا في قصر السلطان).
مدير التحرير يومها، الأستاذ محمد عمر بحاح، ذلك الرجل النحيل، كان على قدر من المسحة الثقافية والأدبية في هذا اللقاء، ومنها تذكره نشر قصيدتي الأولى، ترسخت معالمها في ذاكرتي الشخصية إلى يومنا هذا، وكانت أصدق تعبير عن ثقافية قيادة الصحيفة -على الأقل مدير التحرير- المسؤول التنفيذيّ للسياسة الخبرية والتحريرية، وامتلاكه لهكذا رؤية إبداعية سبقت الرؤية السياسية والصحفية، وأنا أتقدم خجولًا في عالم الصحافة.
وعندما قلت له: أريد أن أعمل في الصحيفة.
سألني عن مؤهلي لهذا الطلب، فما كان منّي إلّا أن أقدّم له مخطوطة ديوان شعر لقصائدي الأولى.
بعدها لم يتردد في قبول طلبي في الصفحة الثقافية.
خلاصة هذه الواقعة:
- أنّ صكّ قبولي للدخول إلى عالمها، كان نشر قصيدة وتصفح مخطوطة قصائد.
- كان لهذه المصيدة الأدبية والثقافية ظروف خاصة لانتقال قسري لثلة من النخبة الثقافية والصحافية ودمجهم وظيفيًّا في عمالة صحيفة 14 أكتوبر بعد إلغاء عمل دار الهمداني للطباعة والنشر.
بسبب هذين العاملين، وقعت أسيرًا لعالمٍ لم أتصور أن يكونَ لي فيه انتماء وهُوية.
وقد قيل لي إنّ الظرف الذي عايشته مع البحاح، كان هو نفس الموقف الذي عاشه البحاح لدى تقدُّمه للعمل صحفيًّا في الصحيفة، واختياره للولوج إلى عالم الصحافة كان من باب الثقافة والإبداع ومن مؤهلات ومرجعية الشاب المبدع، ومن صك القصص التي كان ينشرها في صحيفة (الثوري).
قد لا تنطبق هذه الحال مع قياديِّين آخرين في الصحيفة، ولكن قدر هذه الصحيفة أن يكون على رأس إدارة تحريرها مثقف، بل أديب وقاصّ محترف.
الحال كذلك كان مع أول رئيس تحرير للصحيفة ومؤسسها الشهيد عبدالباري قاسم، والقاصّ إبراهيم الكاف مديرًا للتحرير، ثم رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير (2005-1998)، وأحمد الحبيشي رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير (2013-2005) الذي بدأ حياته شاعرًا، والكاتبة الأدبية نادرة عبدالقدوس القائمة بأعمال رئيس مجلس الإدارة رئيس التحرير (2015-2014)، والشاعر والقاصّ والكاتب نجيب مقبل، القائم بأعمال رئيس التحرير (2022-2016)، والكاتب شكيب عوض، نائب رئيس مجلس الإدارة نائب رئيس التحرير (1994-1990م)، والقاصّ والكاتب محمد عمر بحاح، مدير التحرير في فترة السبعينيات حتى أوائل الثمانينيات، ويحيى يخلف، القاصّ والروائيّ الفلسطينيّ الذي كلف في سنوات التأسيس الأولى للصحيفة، بالعمل كمدير للتحرير.
كل هؤلاء دخلوا عالم الصحافة من باب الثقافة والإبداع، وجالوا وصالوا في دهاليز وأروقة هيئة تحرير صحيفة (14 أكتوبر) بروح المبدع وبقلم الأديب وبثقافية المبدع التي تقدّمت قليلًا أو كثيرًا على المؤهل السياسي الذي يتطلبه هذا المنصب الرفيع في أعلى صحيفة حكومية من التزام سياسي بخط الدولة وتنفيذ سياسة تحريرية رسمية مرتبطة بسياسة الدولة في مختلف المراحل.
يجوز أن يكون التقييم مباشرًا، وربما حادًّا في اختيار طبيعة المنشور الثقافي وإجازته للنشر، كما في الأشكال الفنية الصحفية والثقافية، مثل مقالات الرأي والأعمدة الصحفية والتحقيق والاستطلاع الصحفي الثقافي، حيث يكون مجال اختيار النشر أو إجازته قابلًا للقبول أو الرفض أو المراجعة من حيث وجهة نظر الصحيفة عمومًا أو مسؤول الصفحة الثقافية.
ومن هذا المنظور يتّضح جليًّا لماذا كان هاجس تلك القيادات الصحفية المثقفة في ألَّا يُديروا ظهورهم عن الشأن الثقافي في سياسة النشر، وكانوا هم وغيرهم من القيادات الصحفية الآخرين ممّن ساهموا في عدم مخاصمة أو التقليل من أهمية النشر الثقافي في صفحة ثقافية مستقلة أصبحت يومية النشر، أو في نشر الملاحق الثقافية الأسبوعية التي بدأت أوائل التسعينيات على يد القاصّ إبراهيم الكاف ثم استمرت مع الشاعر نجيب مقبل، الذي طور هذا الملحق واستطاع نشر أول ملحق ثقافي (جريدة) مستقل عن الصحيفة، تحت اسم (14 أكتوبر الثقافي)، وأُصدر منه عددان بإخراج إلكترونيّ لأول مرة، ولكن هذا الملحق، أُوقِف بقرارِ مَن كان على رأس قيادة الصحيفة، يبدو أنّه كان على خصومة أو كراهة مع الثقافة والإبداع ومع المثقفين والمبدعين، رغم محاولاته الادّعاء بذلك.
هذا الاستقصاء للهُويات الثقافية الأدبية لمعظم قيادات الصحيفة على مرّ العقود الماضية، يعطي دلالة على الروح الثقافية التي كانت تجد لها استجابة وتعاطفًا ورعاية لأي نشر ثقافي في الصحيفة اليومية، دون ممانعة أو تلكُّؤ أو إهمال لدورها وأهميتها في مجرى الحياة العامة، حتى في أسوأ ظروف التحول السياسي والمجتمعي، مثل ظل ظروف الحرب الحالية.
رافَقَ تأسيسَ الصحيفةِ صفحةٌ ثقافية يوميّة مخفورة بها، وهو أمر له دلالته في وقت كانت شعلة الحماسة السياسة والنضال متّقدة، وثقافة (العنف الثوري المنظم) رائدة وسائدة، والشأن الأدبي والثقافي كان ترفًا ونافلًا أمام حاجة الشعب للعمل الحماسي والنضال السياسي لبناء الدولة الوطنية الوليدة.
ومع ذلك، كان لفسحة الثقافة والأدب أن تكون رديفة النشر في صفحات الأعداد الأولى من الصحيفة، في باب مستقل هو (الصفحة الثقافية) اليومية التي ظلّت على مدى أكثر من 54 عامًا حتى يومنا، تشع بنورها ولا يخبو نورها في أي الأعداد إلا لسبب طارئ أو قاهر. ولعل أكثر أعداء الصفحة الثقافية هو إما زحمة الإعلانات أو زحمة المواد السياسية المفروضة. ومع ذلك، لا يمكن القول جزافًا إنّ الصفحة الثقافية كانت فردوسًا كامل الأوصاف، فبقدر ما كان هنالك مساحة لحرية الإبداع، فقد كان هنالك مقصٌّ للرقيب السياسي على المنشور الثقافي، ودائمًا ما كانت الأسباب سياسية.
ومن الأمانة القول إنّ حرية التعبير الإبداعي للنشر الثقافي والإبداعي، ربما كانت واسعة المدى والاتجاه نسبيًّا، لأنّ السلطة في الجنوب (اليمن الديمقراطية)، كانت تتبنى النهج التقدمي والمنهج الاشتراكي، وتحثّ وتُناصر الحداثة، وتؤيّد توجهات المدرسة الواقعية، وبخاصة الواقعية الاشتراكية في الأدب والثقافة والفنون، وتدعو إلى الأدب الملتزم، وبرغم ذلك فإنّ ساحة الأدب المنشور في الصفحة الثقافية لم تكن ضيقةً في حدود هذا التوجه السياسي والأيديولوجي، لأنّ طبيعة وحدود الإبداع والأدب كان أكبر من هذا التحديد، فالقصيدة التفعيلية والنثرية تجاورها القصيدة العمودية والشعبية، والصور الفنّية في النصّ الأدبي صعُب تأويلُه تأويلًا سياسيًّا جامدًا، إلا في حالات خاصة جدًّا.
ولذا فإنّ مقصّ الرقيب في الشأن الثقافي كان حالة نادرة جدًّا، ولا يكون جاهزًا للجزّ أو القصّ إلا في حالات تقاطع الإبداع مع السياسة في ظرف سياسي معين أو حول شخصية سياسية مستهدفة أو ما شابه من الحالات.
إلّا أنّ ما يمكن الجزم به، أنه طوال عمر الصفحة الثقافية في صحيفة (14 أكتوبر)، لم يُسجن أديب أو مثقف، ولم يُكفّر أو يهدّد في حياته على نشر قصيدة أو قصة أو مقالة معارِضة في الصحيفة.
وهذه حقيقة واقعة، والسبب كما يبدو لي أنّ النشر الثقافي والإبداعي أعلى وأعمق وأوسع تأويلًا من أن يهدّد سلطة أو يفضي إلى انقلاب!
إنّ سلطة النصّ تأويلية في كشف المعنى، وفي صناعة المعرفة، بينما الساسة والعسكر والوجهاء لا يفقهون درجات هذا التأويل. إنّ حدود تضييق النشر في المجالين الثقافي والإبداعي في الصفحة الثقافية كان أقل سطوة في كل الأحوال.
حراس البوابة للنشر الثقافي
رؤساء الصفحات الثقافية والأدبية في الصحف السيّارة، هم، بالمصطلح العلمي لعلم الإعلام: (حراس البوابة) للنشر الثقافيّ والأدبيّ. إنهم مفاتيح الفتح أو الإغلاق للنشر الصحفي في الشأن الثقافي والأدبي، وينطبق الأمر على مشرفي الملحقات الثقافية والأدبية التابعة لهذه الصحف.
أي إنّ مسؤول الصفحة الثقافية والأدبية، بقدر ارتباطه بسياسة النشر في الصحيفة، هو أيضًا باعتباره (حارس البوابة)، المكلفُ من الصحيفة في هذا الشأن المخصوص بقضايا الإبداع والفكر والثقافة والأدب، يضفي شيئًا من عنديّاته بخصوص تلوين الصفحة الثقافية والأدبية في أي صحيفة، بما يراه يخدم الصحيفة في تحقيق سياستها، من جهة، وبما يتمتع من رؤية خاصة به تسمح له بخلق حالات انغلاق أو انفتاح على طبيعة نشر المنتوج الأدبي، وفي تحديد شكل ومساحة وترتيب موقع النشر الصحفي له.
وكل ذلك يرجع إلى طبيعة سياسة النشر العام للصحيفة وممارسة المسؤول الثقافي في تنفيذ هذه السياسة، وفي إسقاط بعضٍ من مكوناته الشخصية على النشر الثقافي.
صحيح أنّ الإبداع الأدبي والثقافي والفنّي عالم متسع الآفاق، وله خصوصية التصوير الفني والصياغة المجردة المرمّزة التي تتجاوز التفسير المباشر، المغايرة عن تلك الكتابة السياسية أو الاقتصادية والاجتماعية التي لا تحتمل إلا التفسير الواحد والمباشر، فيسهل فيه التقييم وتحديد المواقف من طبيعة اختيار النشر أو إجازته أو تلوينه مكانيًّا وموضوعيًّا في صفحة النشر.
ويجوز أن يكون التقييم مباشرًا وربما حادًّا في اختيار طبيعة المنشور الثقافي وإجازته للنشر، كما في الأشكال الفنية الصحفية والثقافية، مثل مقالات الرأي والأعمدة الصحفية والتحقيق والاستطلاع الصحفي الثقافي، حيث يكون مجال اختيار النشر أو إجازته قابلًا للقَبول أو الرفض أو المراجعة من حيث وجهة نظر الصحيفة عمومًا أو مسؤول الصفحة الثقافية، أما نصوص الإبداع الأدبي والثقافي والفنّي فعكس ذلك تمامًا، حيث مجال الرؤية والتقييم والإجازة لا تكون في نفس مستوى تقييم وإجازة الكتابة في الرأي وأشكال العمل الصحفي الأخرى للنشر، إلّا من زاوية النظر الفكرية والسياسية للصحيفة، والصفحة الثقافية التي تنتمي فكريًّا وثقافيًّا إلى لون أو مدرسة دون أخرى.
إذن، الصفحات الثقافية ومسؤوليها أكثر تحررًا في مسألة اختيار وتقييم وإجازة النشر الثقافي والأدبي والفني، لأنّ طبيعة الأدب والثقافة والفنّ والإبداع عمومًا عالمٌ منفتح ومرمّز فنيًّا، يتيح لمسؤول الصفحة الثقافة حريةً أكبر في اختيار وإجازة المنتوج المرشح للنشر مقارنة بمسؤولي الصفحات الإخبارية والسياسية التي يكون (حارس البوابة) أكثر يقظة وأشد حذرًا في اختيار وإجازة ما تحت يديه من مواد للنشر، وكذا في رسم وتنفيذ سياسة نشر إخبارية وسياسة مواتية لسياسة الصحيفة أو الوسيلة الإعلامية المعينة. فالإبداع يتمتع بحرية نشر أوسع نسبيًّا من أشكال العمل الصحفي الأخرى، ولكنه لا يمنع من حدوث حالات جفاء أو منع وتوقيف نشر لنصوص إبداعية ولمبدعين في حالات خاصة ومحدودة يكون سببها الناشر وسياسة النشر أو مواقف شخصية أو عامة مناهضة للمكتوب وللكاتب أو ما يرى أنه اختراق للتابوهات المعروفة.
هذه وجهة نظر خاصة أو خلاصة تجربة شخصية كما أطرحها، وقد استقيتها من تجربتي الخاصة في العمل الصحفي الذي امتدّ لأكثر من (45) عامًا، وأكثرها في العمل التحريري والمسؤولية في الصحافة الثقافية، ومن بعدها الارتقاء في المجال الصحفي إلى إدارة ورئاسة التحرير الصحيفة عمومًا، حيث كما سبق لي القول إنّ النشر الثقافي في الصفحات الثقافية والأدبية أقل حدة في التقييم والإجازة للعمل المكتوب والمطلوب للنشر، وأكثر انفتاحًا في التوجهات والرؤى في رسم سياسة نشر ثقافي تتجاوز سياسة النشر والتحرير الخاصة بالصحيفة.
وقد أرى من يخالفني الرأي في ذلك، وكلٌّ له وجهة نظره الخاصة من واقع معايشته وربما معاناته، وواقعه المحيط وبيئة النشر الصحفي وتجاربه الشخصية في دروب صاحبة الجلالة.
شكيب عوض.. الأب الروحي للصفحة الثقافية في (14 أكتوبر)
يمكن اعتبار الأستاذ الراحل شكيب عوض سعد الأبَ الروحي للصفحة الثقافية في صحيفة (14 أكتوبر). ومن أسباب هذا التوصيف الذي أتجرأ في طرحه، ما يلي من وقائع ومواصفات شخصية ومهارات مهنية وسمت مسيرته الطويلة على رأس الصفحة الثقافية، ويمكن إيجازها بالتالي:
- الصحفي شكيب عوض، هو -زمنيًّا- أطولُ من ترأّسَ قيادة هذه الصفحة اليومية (الثقافية)؛ امتدت من منتصف السبعينيات حتى نهاية الثمانينيات.
- أنه خلال فترته الممتدة تلك ترك بصمة خاصة وروحًا من شخصيته المهنية على شكل ونوع المادة الثقافية المتنوعة المنشورة وطريقة نشرها، من دون إغفال الخط العام للسياسة التحريرية للصحيفة، باعتبارها صحيفة حكومية.
- أنه بحكم طبيعة تكوينه المهني السابق لترؤّسه الصفحة الثقافية بكونه (مدرِّسًا) منتدبًا في الصحيفة في أوائل أيام علاقته بالصحيفة، هذه الخاصية (المدرسية) منحته كاريزما أبوية جامعة غير مفرقة في التعامل مع الأدباء والكتّاب مختلفي التوجهات والنزعات الفردية والنرجسيات الإبداعية التي يحملها المثقفون والمبدعون، ولا ننسى التصادمات الفكرية والأيديولوجية والأدبية التي كانت تعج بها الساحة الثقافية في السبعينيات والثمانينيات وانتماءات الأدباء والشعراء والنقّاد والكتّاب عمومًا، وبالخصوص صراع الأجيال بين جيل الآباء وجيل الأبناء التي كانت حادّة في الاختيارات بين الكلاسيكية والحداثية، فكان شكيب عوض كناشر ثقافي في منطقة وسطى، بل ومحايدة في قرارات النشر من عدمه التي لا تعطي مجالًا للغلبة، وإنما للتوازن في حدود الإبداع.
- أنّ طبيعة انتماء الراحل شكيب عوض إلى مجالٍ خارج الإطار الأدبي والثقافي باعتباره كاتبًا فنيًّا وليس مبدعًا أديبًا، شاعرًا أو قاصًّا أو ناقدًا، هذه الميزة سمحت له بأن يتحرر من داء النرجسية الإبداعية التي هي عادة الشعراء والأدباء في اختيارات النشر، ممّا ساعده في نشر المواد الثقافية دون أن يكون له رغبة في تغليب ما يحب وما لا يحب، وما يميل إليه من مدرسةٍ إبداعيةٍ ما على حساب أخرى، فجاءت إدارته في النشر الثقافي في الصفحة الثقافية تتسع للجميع دون أي اشتراطات الانتماء لأي مدرسة (كلاسيكية أم حداثية)، الشعر العمودي أم الشعر الحديث، الشعر الشعبي أم الشعر الفصيح.
فقد كان سقف حرية النشر إبداعيًّا عاليًا، بالرغم أنّ الرقيب السياسي قد يكون حاضرًا لتحديد ما يُنشر أو يحجب، وهي حالات نادرة جدًّا لم تحدث إلا لمامًا.
- كما أنّ طبيعة المكوّن الثقافي للأستاذ شكيب عوض لعالم الفنّ والسينما، سمح له أن يعدِّد تبويب الصفحة بحيث لا تكون أدبية صِرْفة، بل احتوت أبوابًا وأخبارًا فنية وسينمائية وغيرها، ممّا ساعد على توسيع وتنويع أبواب الصفحة الثقافية لتتجاوز التبويب المغلق للأدب والأدباء.
- على الرغم من أنّ شكيب عوض كان عضوًا في الحزب الاشتراكي، فإنّنا لا يمكن إلا أنّ نراها عضوية شكلية لكادر تكنوقراطي لا يغلب الرؤية الأيديولوجية والالتزامات الحزبية القامعة المنضبطة حزبيًّا وعكسها على عمله في رئاسة الصفحة الثقافية لصحيفة رسمية وليست حزبية، كصحيفة (الثوري)، ممّا يتطلب الأريحية والمرونة في التعامل مع شرائح الأدباء والفنّانين الذين يجدون في الصفحة الثقافية واحتَهم للنشر دون أي تصنيف حزبي أو أيديولوجي للكاتب أو الموضوع المرشح للنشر.
- شخصية الراحل شكيب عوض، وكاريزما علاقاته الإنسانية باعتباره شخصية مجاملة وتوافقية، جعلته لا يحوز أدنى وصف للحدّية أو الجمود في الرؤية والتعامل، ولا يبدو عليه أي صفات البيروقراطية الإدارية التي تنفر القادمين إلى الصفحة الثقافية، بل إنّ الرجل كان بشوشًا وترحيبيًّا ومتواضعًا في صنع العلاقات مع الوسط الأدبي والثقافي والفنّي، وهو ما ساهم في خلق علاقة مباشرة وغير متكلفة بينه وبين كافة المبدعين، كبارًا أو صغارًا، في العمر، أو في المكانة الإبداعية أو الاجتماعية أو السياسية.
كل هذه السمات الشخصية والإدارية والمهنية تمتع بها الصحفي المخضرم الراحل شكيب، وعكَسَها على أسلوب إدارته للصفحة الثقافية في صحيفة (14 أكتوبر) وتعامله مع قطاع المبدعين الذين قد لا يخلو أحدهم من روح نرجسية مبدعة أو متناقضة في السلوك أو مخالفة ومختلفة في الانتماءات، فكان أمامهم جميعًا روحًا متقبلة وغير متمنعة أو مُكابِرة.
كما كان شكيب عوض من الصحفيين الذين ينأى بنفسه عن الدخول في صراعات أو اصطفافات سياسية أو أدبية أو شخصية لصالح هذا الشخص أو الطرف أو المجموعة على حساب شخص أو طرف آخر، بل كان معروفًا عنه الالتزامُ بسلوك حياتي ملتزم ونظام عائلي منضبط، حيث ترى حركة علاقاته محدودة بين المنزل والصحيفة، إلّا لتحرك عملي إلى مقرَّي منظمة الصحفيين أو اتحاد الفنّانين وغيرهما من الأماكن العملية. ولذلك خلت علاقاته الخاصة والحياتية من أي صداقات قد تؤثّر على مجرى عمله في الصحيفة.
إنّ اصطباغ الصفحة الثقافية لصحيفة (14 أكتوبر) بالسلوك المهني والصحفي لأكبر رئيس للقسم الثقافي عمرًا وتجربة، ونقصد الأستاذ الراحل شكيب عوض، ذلك الصحفي التوافقي والمنفتح في النشر على الجميع باختلاف انتماءاتهم للمدارس الأدبية والفكرية- قد صبغ سياسة الصفحة الثقافية في صحيفة (14 أكتوبر) ببصمته تلك، وتركت أثرها في كل من أتى بعده في رئاسة القسم الثقافي، ومنهم كاتب المقال؛ حيث أُدينُ له باتباع هذا السلوك المهني الصحفي والأريحية في التعامل والانفتاح، وأنا الشاعر الذي يكتب القصيدة التفعيلية والنثرية ومن أبناء جيل التجديد والحداثة، لكن هذا الانتماء الإبداعي والتحيز الأدبي لم ينعكس على طبيعة اختيار مواد النشر الثقافية، فقد جعلت مسافة بين ما أنتمي وأحبّذ من مدرسة إبداعية، وبين سياسة النشر المنفتحة على جميع المدارس الأدبية وأشكال الإبداع، كلاسيكيًّا كان أو حداثيًّا.
لقد تعلمت منه ومن جيل الصحفيين المخضرمين، درسًا في الإدارة الصحيفة، وهو أن يُحيّد المسؤول الصحفي أهواءه ورغباته النرجسية في اختيارات النشر، وأن ينحّي الصحفي المبدع والمنتمي لأيِّ شكلٍ إبداعي، نرجسيّتَه، التي هي أصلٌ أصيل في أي مبدع، حينَ يمارس الإدارة الصحفية ويرسم سياسة النشر، فالصحيفة ملك للجميع ومعبرة عن مختلف الانتماءات وتخاطب جميع الأطياف، بحسب ما يرغبون وما يتشكّل في دواخلهم وما يعبّر عن واقعهم وملكاتهم.
فالصحفي المسؤول عن إدارة صحفية هو فرد واحد من ضمن مجموعة لا متناهية من البشر من ذوي الرغبات والأهواء، ولا يمكن أن يفرض توجهه ويعكسها بصورة قسرية على ما ينشر أو ما لا ينشر، إلا في حدود التابوهات القيمية والأخلاقية والدينية التي تستوجب وقوفًا حازمًا إزاء سياسة النشر حولها.
سياسة ثقافية متوازنة
إذن، (14 أكتوبر) صحيفة حكومية رسمية، وهي غير حزبية أو أهلية منتمية لأي جهة مهنية أو سياسية أو قطاعية، وهذا الوصف لطبيعة الصحيفة قد ساهم في رسم سياسة إدارية وصحفية للصفحة الثقافية متوازنة وتوافقية غير متحزبة أو منتمية لأي اتجاه فكري أو أيديولوجي، رغم ما ساد الحياة السياسية في الجنوب (اليمن الديمقراطية) من نظام شمولي يحكمه الحزب الواحد وما ساد في البلاد من منعطفات ودورات عنف وصراعات سياسية وحزبية قد يكون انعكاسها على سياسة النشر واردًا، لكن يمكن الجزم بأن تأثيره على نشاط الصفحة الثقافية لم يكن بذلك القدر من الانعكاس الميكانيكي.
إذ إنّ روّاد الصفحة الثقافية هم من نخبة المجتمع الإبداعية، ودخولهم معترك الصراعات التي كانت سائدة، محدودٌ بعددٍ نزير من الأدباء المتحزبين، ولكن يمكن القول إنّ تأثير هذه الصراعات والمنعطفات الحادّة تعكس نفسها على مضامين الإبداع المكتوب شعرًا أو قصصًا أو نقدًا أو مقالات ثقافية أو فنّية منشورة.
إلّا أنّ طبيعة الأدب والفنّ والإبداع عمومًا باعتباره فنًّا تجريديًّا ورمزيًّا وعالمًا فنيًّا موازيًا للواقع، جعل سياسة النشر الثقافي تبدو على الأرجح منفتحة مقارنة مع الانغلاق الحاصل في الواقع، عكس ما يحصل إزاء نشر المقالات والأعمدة الصحفية التي يكون مضمونها مباشرًا وملامسًا للواقع المصطرع، فيكون سقف حرية النشر فيه أدنى مقارنة بالنشر الثقافي.