منذ 13 عامًا، يطل علينا شهر فبراير برمزيته الكبيرة لنستعيد فيه واحدة من أبرز تجلياته السياسية في تاريخ اليمن المعاصر، ففيه بلغت رغبة المجتمع في التغيير مداها الأقصى، بعد أن وصلت الاحتقانات السياسية والاقتصادية والأمنية إلى حالة ما قبل الانفجار الكبير.
أما الحادي عشر من فبراير -وهو التاريخ الذي نُصبت فيه أول خيمة احتجاج، أمام البوابة الشرقية لجامعة صنعاء الجديدة، وصارت تُعرف توالداتها في المحيط لاحقًا بساحة التغيير- فلم يكن وليد لحظته، بل كان هو الامتداد الطبيعي لحركة الاحتجاجات والوقفات الجماهيرية التي شهدتها المدن وبدأت من انتخابات العام 2006 الرئاسية، مرورًا بحركة الاحتجاج السلمي في المحافظات الجنوبية (الحراك الجنوبي)، وصولًا إلى المسيرات الطلابية التي جابت شوارع العاصمة صنعاء متضامنة مع الثورتين التونسية والمصرية في ذروتهما.
كان الملاحظ الجليّ قبل فبراير، هو اشتغال السلطة على استدامة الحكم وتوريثه، من خلال ماكينتين مؤثرتين، هما: الفساد، والإدارة بالأزمات، وعلى هذه الموضوعات بدأت الاحتجاجات السلمية بطابعها الشعبي العفوي، تشق طريقها في قلب المجتمع، وكانت بفعلها هذا تسبق مناورات الأحزاب وحساباتها البرجماتية بخطوات، ولأن الثورة كانت لا تزال في حالة المخاض، ولم تفرز قيادتها من قلب الاحتجاجات؛ كانت الأحزاب تعد العدة للانقضاض عليها ومصادرة مشروعها الأخلاقي الكبير. لعب التنظيم والإمكانيات المالية والتنسيق الإقليمي دورًا حاسمًا في تجيير مشروع الثورة لصالح الأحزاب، وعلى وجه الخصوص التيار الديني، الذي ظهر أكثر تنظيمًا وخبرة تحشيدية وإعلامية مؤثرة.
كانت سلطة صالح تترنح تمامًا، خصوصًا بعد إفراطها في استخدام القوة وقتل المحتجين في 18 مارس 2011 (جُمعة الكرامة)، لهذا وجد بعض أركانها الفاعلين في حركة الاحتجاج مناسبةً كبرى للتطهر، والهروب من سفينة مثقوبة نحو القيامة الوطنية.
صارت حركة الشارع مرهونة بسياسات الأحزاب وحساباتها، فاستطاعت المزايدة بشعارات التغيير، وذهبت إلى تسوية لاقتسام السلطة بمبادرة سياسية عُرفت بالمبادرة الخليجية، التي منحت حمايةً لبنية النظام واستدامته، وأعادت تقسيم المنافع بين الفرقاء الشكليين.
ما شهدته الفترة الانتقالية -انتقال الحكم الصوري من الرئيس إلى النائب- من فوضى وفساد وتفكيك للمؤسسات وهيكلة الجيش، وصياغة التحالفات على قواعد لا وطنية، مكّنت الميليشيات والاتجاهات المتطرفة من احتلال البلاد شمالًا وجنوبًا في ظرف ثلاثة أعوام. فقد تمدّد الحوثيون في قرى صعدة المعزولة ثم إلى مركزها الإداريّ مرورًا بعمران، التي قاومت قليلًا، وصولًا إلى صنعاء، دون أن يجدوا أدنى مقاومة، بعد أن سُلّمت لهم مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية بتواطؤ غير مفهوم من أطراف داخل السلطة وخارجها. وبالمقابل، كانت التنظيمات المتشددة (القاعدة ومتناسلاتها) تتمدد من البيضاء إلى أبين وحضرموت، وتُقيم إماراتها الدينية ومحاكمها التنكيلية. وقبل ذلك، كان مؤتمر الحوار يحاول إعادة بعض الأمل برسم أحلام وردية أمام اليمنيين، غير أنّ مخطط التفكيك كان يمضي بسلاسة، وبأدوات محلية ورعاية إقليمية ومباركة أممية. فجاءت الحرب تتويجًا لهذا المخطط المهندَس بعناية، لإغراق اليمن وشعبه في جحيم حقيقي، انتفعَت منه في قرابة عقد من الزمن أطرافُ الحرب، التي بنَت سلطاتها بحكم الأمر الواقع في جهات البلاد الأربع، هذه السلطات اليومَ هي من تستنفع وتتاجر، ليس فقط بمقدرات البلاد، بل بدم اليمنيين وأقواتهم.