على هامش حادث سير

اليمنيون بخير رغم أنف الحرب
د. نجيب الورافي
February 1, 2021

على هامش حادث سير

اليمنيون بخير رغم أنف الحرب
د. نجيب الورافي
February 1, 2021
الصورة ل: البراء منصور

تخيل نفسك وأنت من يقود سيارة الهايلوكس بحمولتها الضخمة، وهي تهرول، وعلى إطاراتها، نازلة عرض الجبل، وفي نقيل، مثل "سمارة"، قبل أن تطير من حافة الحاجز الحجري الذي أنشأه الصينيون (خط صنعاء - تعز) بتلك الدقة والمتانة للحيلولة دون انهيارات على المسايل أو عرض الطريق الرئيسي! ثم تنقلب وترتطم على الأسفلت في الأسفل! 

بدا المشهد مهولًا بالنسبة إلى كل من شاهده! السيارة أحدث موديل، وهي كما يبدو لأحد المغتربين العائدين من المهجر، ومحملة بعفش كثير والسائق وعائلته وأطفاله، وقد كانوا أربع نساء وطفلين. الرجل أصيب في جبهته ويده ورجله، فيما نجا كل أفراد عائلته. بعد إخراجه من مقدم السيارة بدا منهكًا منهارًا يكرر سؤاله المذهول: هل عيالي بخير؟ فالتمّ المنقذون من حوله وراحوا يطمئنونه أنهم جميعًا بخير وأغراضه وحقائبه بأمان ثم حملوه ليتم إسعافه. 

بقدر ما يهيل مشهد الحادث المريع، إلا أنه ما لبث أن تخفف وقعه بسلامة من في السيارة أولًا، ثم برؤية ما أبداه الآخرون من إنسانية رفيعة تجاه الحادث ثانيًا، فقد انقطع الخط وهرع الناس من المركبات التي يستقلونها. هبوا جميعًا لإخراج العائلة والرجل، وجمع ما تناثر في الجبل من حقائب وأغراض وحمايتها. سائق الباص الذي نستقله أراد إرجاع الأجرة لنا ليتطوع بإسعاف الرجل المصاب والنساء والطفلين إلى إب، لولا أن نقله على بودي هايلوكس كان الأسلم بإجماع الحاضرين.

لم ينتظروا أحدًا ليأتي؛ لأنهم يدركون أنه لا أحد يرعى شؤونهم ويقف إلى جانب معاناتهم الطويلة في الوقت الحالي، لا أحد يأبه إن كانوا أحياء أو أمواتًا، سعداء أم أشقياء لديهم ما يقيم أودهم ويساعدهم على البقاء أحياء أم غارقين في الفاقة والإدقاع، حد الهلاك.

مشهد تتجلى فيه روح التآخي ووحدة المشاعر في ذروة ما نعيشه من فرقة وشتات بسبب الساسة، فهم هذا الداء العضال وهم بلاؤنا وبلوانا، فيما نفوس اليمنيين بخير، وقيم اليمنيين بخير، ودنيانا بألف خير، مهما أخذتنا الرياح واتجهنا وجهات متباينة، فسيأتي يوم وتحن في دمائنا أواصر القربى، فننزف ذلك الحنين دموعًا مُحِبة وتناهيد حانية:

إذا احتربت يومًا وسالت دماؤها

تذكرت القربى فسالت دموعها

كنت أنا أحد شهود الحادث وموقف الناس تجاهه، ورأيت بأم عيني تلك اللحمة الوطنية والمشروع الوحدوي الأسطوري، يتجلى بأروع صوره، مشروعٌ نظامه قيم مجتمعية عفوية جادت بها نفوس البسطاء الأنقياء، بلا إعلام ولا خطب ولا مؤتمرات، حوار وطني كتلك التي عقدها ونظمها ساسة افتقدوا قيم البسطاء، فافتقدوا الطهر والنقاء وما خلفوا سوى الكوارث. نجحوا في حوارهم من أجل أن يحاربوا لا من أجل السلام والبناء.

حين أنهت سواعد الرجال رفع السيارة المحملة المنقلبة عاليها سافلها وإزاحتها عن الطريق لمرور المركبات المزدحمة الواقفة على الجانبين الطالعين والنازلين، عبرنا بالباص مواصلين طلوع نقيل سمارة، خيم الصمت علينا، لعل كل من في الباص كان شارد الذهن وغارقاً في التفكير، حتى أذنيه، في الحادث مذهولًا من هول ما حدث، ثم ما لبث ذلك الفضاء الساكن أن خرج عن الصمت وتداعى الحديث وسوق التكهنات عن طبيعة ما حدث وأسبابه التي جعلت السيارة تحيد عن خط سيرها رغم أمانه النسبي وعدم خطورته!

من منا لم يسافر ويعبر تلك النقاط الواقعة في مرمى المتحاربين، وتعرض للامتهان والتفتيش المذل للأغراض في نقاط التفتيش، فنحن نعيش حالة حرب على مدار الوقت، وفي كل مكان نتجه إليه الحرب في حلنا وترحالنا

 فمن الركاب من أرجع السبب إلى السهر الطويل لسائق المركبة وعائلته لطول ما سافروا من الحدود، وما قد يكونون تعرضوا له من امتهان وإذلال وتفتيش لأغراضهم، ونبش لِما تحويه تلك الحقائب والصرر والحزم المحملة، ثم من تفتيش لتلفوناتهم والبحث في ملفاتها وانتهاك خصوصياتهم.

بالفعل من منا لم يسافر ويعبر تلك النقاط الواقعة في مرمى المتحاربين، وتعرض لمثل هذا وأكثر، فنحن نعيش حالة حرب على مدار الوقت، وفي كل مكان نتجه إليه الحرب في حلنا وترحالنا ومنامنا وصحونا وسائر معاشنا اليومي! حرب غرست أنيابها فينا فمزقتنا وجذت وشائج الرحم وصلة القربى، شتّتَتْنا في وطننا وفي مهاجر الأرض شرقًا وغربًا! 

ظل الجدل دائرًا عما حدث للسيارة. قال شاب إنه طيش السواقة، وأنه كان ينوي اقتناء سيارة وتعلم السواقة، لكنها من اليوم صارت محرمة مثل أمه، فيما رد عليه من بجانبه أن المسألة قضاء وقدر، ولا رادّ لقضاء الله! 

سرعان ما أجمع الركاب على قدرة الله ولطفه وتدخل المولى في الوقت المناسب، وكيف حالت دون مصرع السائق ونسائه وطفليه، رغم خطورة ما كانوا فيه، فكأن يد القدرة قد أمدتهم بحبل النجاة وقادتهم إلى بر الأمان. لطف الله حاضر في وعي الغالب الأعم من اليمنيين، حتى فيما يحاك عمدًا وعن سوء نية، وفيما يدبر لهم خارجيًّا وداخليًّا يرجعونه إلى إرادة عليا، ويتجنبونه بلطف تلك الإرادة ورأفتها بهم! 

كلنا أخذ يشكر موقف مالك الباص النبيل، يثني عليه فيما بدا هو منتشيًا مأخوذًا بحماسه ونخوته، متذمرًا من باصه الصغير الذي منعه من أداء الواجب كما يجب: "لولا هذا الدبدبي -صانك الله- كان يقدر واحد يقدم حاجة".

تحول الباص إلى خلية حديث ومجابرة وبوح وشكوى ومزاح وتبادل طرائف، كأنما نحن أسرة واحدة في جلسة مقيل، هذه أيضًا إحدى خصال الشخصية اليمنية، التي ربما نتميز بها ولا يشبهنا فيها شعب من الشعوب! تجد نفسك وأنت في باص أو بيجو أو حتى طائرة مجبرًا على انفتاح تلقائي وحديث بساطة يحاصرك من هذا وذاك ممن حولك من أبناء وطنك، لا بد أن تنساق مع هذا الوضع المجتمعي العابر، تنسجم تلقائيًّا وبلا محاذير مع من تعرفه ومن لا تعرفه، وسرعان ما تربطك بالآخر وشائج صلة وقربى. بينما قد تركب قطارًا أو حافلة في دولة من الدول وتسافر آلاف الأميال وعشرات الساعات، لكن كأنما كل ما يحيط بك من الآخرين على رؤوسهم الطير يغرقون بصمت مطبق عكس ما تجده في اليمنيين أينما رحلت!

سوق بيع البترول يملكها تجار الحرب وأساطينه، ومراكز القوى النافذة يحتكرون كل شيء ليبيعوا هم حصريًّا كل شيء، لا شك أن صاحب الباص المسكين يعلم من يحتكر قوته ويزابن في خدماته

تلاشت عقدتي المزمنة من أصحاب الباصات لما فيهم من ثقل دم ومن طمع في ملء كل شبر من باصه بالبشر والمتاع والآنية والبضائع، حتى لا تجد نافذة تستطيع التنفس منها، صاحب باصنا كان في مشوار فقط إلى صنعاء لشراء قطعة غيار والعودة، لكنه كما قال، "طز"، بقطعة الغيار والمشوار إذا منعه من الواجب. تود أن تقبل شهامته ونخوته، لا سيما وقبل ذلك كان قد جمع منا الأجرة ليعبئ دبة بترول تكفي لمشوار صنعاء، كنا 6 ركاب فقط ولأمكنة متفاوتة وبالكاد جمعنا ثمن الدبة 10000 ريال!

مثل هذا المواطن الشهم يستحق التكريم والعيش الكريم، لا المعاناة والحرمان. صار مجبرًا بظرف الحرب على شراء الـ20 لترًا من البترول بهذا المبلغ من السوق البيضاء التي ازدهرت في زمن الحرب بالبيع على الأرصفة وبمحطات متنقلة، بما يساوي 3 أضعاف السعر الرسمي للبترول في اليمن!

سوق بيع البترول يملكها تجار الحرب وأساطينه، ومراكز القوى النافذة يحتكرون كل شيء ليبيعوا هم حصريًّا كل شيء، لا شك أن صاحب الباص المسكين يعلم من يحتكر قوته ويزابن في خدماته، ومع ذلك لم يعكر ذلك صفو نفسه، ولم يعطل إرادته أنه نسخة استثنائية للشعب الحقيقي الذي لا يمت إليه صناع الحروب وأساطين التدمير بصلة. إنها النسخة الخام التي لا تظهر في وسائل الإعلام، ولا تطلق الخطابات، ولا تباهي بما تفعل على طريقة زعماء الهباء وقادة الغباء نسخة مكنوزة هي الرهان الأول والأخير والعملاق الذي سيغادر قمقم الهامش، ليصنع الحياة من قلب الحياة نفسها.

إنه شعب المدرس والتربوي والموظف والمهندس وعامل النظافة الذي يصحو مع الطيور ليباشر مهامه، وهو يعلم علم اليقين أنه يعمل دون أجر على مدى خمس سنوات كارثية من انقطاع راتبه الشهري واستحقاقه المعيشي قوته وقوت أطفاله يعمل سخرة منظمة غير معلنة وهو عرضة للاستغلال والابتزاز والترهيب، مثلما هو عرضة للحرمان والفاقة!

رغم أنف الظروف التي صنعتها الحرب وأساطينها نحن بخير، ونحن بخير أكثر ما دامت حية فينا تلك النسخة المخبوءة الأصيلة بما تمتلكه من قيم نبل وعطاء وبساطة وتسامح وسعة صدر ووحدة، ومن قوة إرادة وقوة فعل، فقط نحتاج إلى من يستكشفها وينميها ويتعهدها بزاد المعرفة والحكمة واستنهاض ما تمتلكه من رصيد حضاري متجذر في الروح اليمنية آلاف السنين، عندها سنكون قادرين لا محالة على اجتياز مأزقنا الراهن لنصنع المستقبل مستقبل الحكمة والقوة ومغادرة هذا الشتات، لنبدأ "من باب الذي ما ابتدا" مصداقًا لنبوءة حكيم اليمن ورائيه الأكبر:

من أين؟ من باب الذي ما ابتدا

طلعت أرمي بي دما أو ندى 

بداية من آخر المنتهى

شبيبة من خلف شيب الردى

أقتاد جنا من حليب السهى

يبيضون العنسي الأسودا

أعرى من الصحرا فإن عضهم

برد ترى هذا بذاك ارتدى.



إقـــرأ المــزيــــد

شكراً لإشتراكك في القائمة البريدية.
نعتذر، حدث خطأ ما! نرجوا المحاولة لاحقاً
English
English