تتعدد المتاحات القابلة للقراءة لممهدات ثورة سبتمبر/ أيلول 1962، بتأسيساتها الباكرة، لكنها تتفق جميعها في الذهاب إلى القول إن تلك الممهدات لم تكن بمتوجّبات سياسية ضاغطة، مثل الحواضن الحزبية واشتراطاتها التنظيمية الناضجة، كما كان حاصلًا في بعض دول المركز. عفوية الفعل في أكثر الحالات تعيينًا لم تخلُ من حافزات ثقافية شديدة الوضوح لجهة أن رموز العمل الوطني منذ ثلاثينيات القرن العشرين هم في الأصل مثقفون مستنيرون، عملوا في ظروف شديدة القسوة لإحداث اختراق واعٍ في جدار العزلة والانغلاق الذي أنتجته وكرسته سلطة مستبدة ومتخلفة، وُلِدَت من رحم مظلم، ولم تسترشد بقبس قليل من نور العصر الذي عاشته.
على هذا المعطى يمكن القول إن الصوت الباكر للمعارضة السياسية تأسس، في الأصل، على رغبة كبيرة في إحداث تحولٍ ما في الواقع المتخلف، بعد أن تلبَّس أصحابُ هذا الصوت تفاؤلًا تعالى بهم إلى الاعتقاد بأن سلطة الإمام يحيى حميد الدين، التي استقلت عن الحكم العثماني غداة انتهاء الحرب العالمية الأولى 1918، وفرضت سيطرتها على اليمن بشقيه الجغرافيين "الأعلى" و"الأسفل"، تستطيع الذهاب بعيدًا نحو بناء دولة وطنية قوية وعصرية. لكن بعد عقد ونصف من قيام المملكة المتوكلية، صحوا ومعهم كثير من اليمنيين مِن وهمٍ كبير وقاتل، فالإمام يحيى أحال مشروع الدولة إلى إقطاعية خاصة به وبأبنائه، وبسبب عقليته التقليدية المحافظة، وتشدده الديني وشحّه الشديد، دمَّر كل شيء له علاقة ببناء دولة مواطنة وكفاية. ومع ذلك استطاع بعض من مثقفي عاصمة الحكم، والمدن الرئيسة مثل تعز وإب، الذين كانوا يقرؤون حالة النكوص هذه، من إنتاج فعل شديد الأهمية لتوصيل صوت معارضتهم الضعيف إلى المجتمع المغلق، وفي سبيل ذلك قدَّموا التضحيات الكبيرة، التي لم تقف عند حدود التسفيه والمطاردة، أو تصل للاعتقال، بل امتدت لتنتهي في حالات كثيرة إلى حبال المشانق. غير أن فعلًا مقاومًا مثل هذا، كان يفتح النافذة الأصعب لدخول النور القليل لفعل التغيير.
كان التعليم شرطًا مقرونًا بعملية التحول في المجتمع عند التنويريين الأوائل، ويتجسم الحال على سبيل المثال عند محمد المحلوي، وهو أحد أهالي مدينة صنعاء، واكتسب لقبه من المهنة التي كان يزاولها، وهي صناعة الحلوى، التي كانت، مثل بقية المهن، محتقرة. ومع ذلك لم تقف هذه الحمولة التمييزية العنصرية حائلًا أمام تحقيق هدفه الكبير، وهو إحداث الاختراق المهم في جدار التخلف الذي صلَّبته السلطة في الوعي الجمعي، وهذا الفعل تم بأدوات التعليم ووسائله، إذ كان ينقل كل معارفه التي اكتسبها من أصدقائه الأتراك المعارضين للسلطة العثمانية، الذين تم نفيهم إلى اليمن، وكذلك ما اكتسبه من معارف دينية، يصح نعتها اليوم بالدراسات الدينية المقارنة، بتعلّمه أصول الفقه والحديث والبلاغة إلى جانب تعلّمه للتوراة، ينقل كل ذلك إلى مجموعة كبيرة من تلامذته ومريديه في حلقات سرية وعلنية. فقد "حفظ الحديث والتفاسير ودرَّس التاريخ والرياضيات والطب وأحوال البلاد الشرقية والغربية، ولولعه بالبحث والاستطلاع درس العهدين القديم والجديد عند حاخام صنعاء الكبير "يحيى الأبيض"، كما يرد في كتاب "الطريق إلى الحرية" للعزي صالح السنيدار. وبحسب المصادر التاريخية، فقد كان "المُحَلْوِي"، شُجاعًا جَسورًا، لديه قدرةٌ فائقةٌ على المُناظرات العلمية، لَبِقًا، جذّابًا، استمال الكثير من رجال اليمن في عصره إلى معارضة الإمامة؛ مما جعل كثيرًا من أدبيات الثورة اليمنية تعده النواة الأولى للثورة على الحكم الإمامي في اليمن. كما يقول يحيى الحمادي.
الأستاذ أحمد محمد نعمان، بدأ حياته معلِّمًا في مدرسة ذبحان مطلع الثلاثينيات بعد عودته من مدينة زبِيد، وكان لم يزل مشدودًا للتعليم التقليدي، الذي لم يبصر الأشياء ويسائلها، لا بمدركات المسلّمات العتيقة البالية التي عشّشت في وعيه. هذا المعلم الآتي من حاضنة ثقافية محافِظة وتقليدية سيتحول بعد سبعة أعوام، إلى قائد بارزٍ في حركة الأحرار الذي تشكلت في عدن في العام 1944، وكان أكثرهم إيمانًا بالعلم كمدخل للتحول؛ لأنه رأى، خلال رحلة تعلّمه التي ابتدأها في العشرينيات في مدينة زبيد، وأتمّها في الأزهر أواخر الثلاثينيات، أنه لا مناص أمام هذا الشعب للخروج من بؤسه وشقائه إلا بالعلم.
كان الشيخ الحكيمي صوفي وثوري مقاوم، انخرط في تيار حركة التحرر الوطني العربية والقومية في بلدان المغرب العربي من أجل استقلال المنطقة من الاستبداد والاستعمار، ومن أوجهه البارزة دعوته المبكرة لحوار الأديان والثقافات والحضارات
قضى النعمان سنوات كثيرة في تعليم الآخرين، ابتداء من عمله في مدرسة "ذبحان الأهلية"، حيث عاش الصدمة المعرفية الأولى مع الأستاذ محمد أحمد حيدرة. وحين قرَّبه الإمام أحمد، حينما كان وليًّا للعهد في تعز، أوكل إليه تدريس ابنه البدر، وإدارة المعارف. وفي حجة، حيث كان مسجونًا بعد فشل ثورة 1948، أنشأ "المدرسة المتوسطة" لتعليم الأطفال، أما في ندائه للشعب اليمني لدعم إنشاء "كلية بلقيس" التي افتتحت في العام 1961، في الشيخ عثمان بعدن، كان قد صار في مرحلة متقدمة من الوعي، حين قال:
"لا بد أن تُعدّ مجموعة من الشباب نفسها لتحمل مهمات التعليم بعقلية متفتحة، تعي جيدًا أحوال شعبها، وتدرك المهالك التي طُرح فيها بالمواطنين"، لهذا عُدّ النعمان مثقّفًا عضويًّا "اتخذ التعليم مدخلًا للإصلاح السياسي، ورأى أن تنوير العقول هو أساس تطوير المجتمع والإنسان"، كما يرى هشام علي في كتابه "المثقفون اليمنيون والنهضة".
كان الشيخ عبدالله علي الحكيمي مهاجرًا جائلًا بين أوروبا ومدن شمال أفريقيا، وكان تأثيره كرجل دين مستنير كبيرًا، ليس على المهاجرين اليمنيين فقط، ولكن على المهاجرين العرب وغير العرب. أما صحيفة "السلام" التي أصدرها في "كارديف" بعد فشل حركة الأحرار الدستوريين في صنعاء عام 1948، فقد كانت أول صحيفة عربية تصدر في المملكة المتحدة. والشيخ الحكيمي أحد رواد مدرسة الأحرار اليمنيين ومنوّريها، وترأس الاتحاد اليمني في أحلك الظروف مطلع الخمسينيات، وأصبحت "السلام" صوتًا جديدًا للمعارضة، يوجه بعناية للمهاجرين اليمنيين المشتتين في الأصقاع، وقد التزمت منذ أعدادها الأولى بحرية الرأي والتعبير، لتكون فضاءً ثقافيًّا إنسانيًّا مفتوحًا. وبحسب قادري أحمد حيدر، فقد كان صاحبها "صوفي وثوري مقاوم، انخرط في تيار حركة التحرر الوطني العربية والقومية في بلدان المغرب العربي من أجل استقلال المنطقة من الاستبداد والاستعمار، ومن أوجهه البارزة دعوته المبكرة لحوار الأديان والثقافات والحضارات"، ويصف عبدالباري طاهر صحيفة "السلام" بأنها تنويرية نشرت منذ أعدادها الأولى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، بينما يقول المناضل الراحل محمد عبده ناشر العريقي في سيرته، التي كتبها بخطه عن الشيخ الحكيمي: "كان زعيمًا فذًّا مخلصًا متفانيًا في خدمة الأمة والوطن، وقد ضحّى كثيرًا من أجل إصدار الجريدة، حتى أنه اضطر إلى بيع أملاكه بالأحكوم (إحدى مناطق الحُجَرية- جنوب مدينة تعز)، بل ووصل به الحال إلى رهن بيته الذي كان يسكن فيه أولاده بالشيخ عثمان في عدن. فبعد فشل انقلاب سنة 1948، تراجع كثيرٌ من الأحرار عن الدعم نتيجة اليأس ولم يبقَ بجانب الشيخ الحكيمي إلا أفرادٌ قليلون يتعاونون معه، وبذلك حمل على عاتقه أكثر صرفيات جريدة السلام، واستمر في نشرها حتى آخر عدد صدر في 25 مايو سنة 1952، وقد كان الأحرار تحصّلوا على إذن من سلطة عدن لمزاولة نشاطهم السياسي، بيد أنهم كانوا مفتقرين لشخصية قوية تتولى رئاسة الحركة، فاختارت الهيئة الإدارية الشيخ الحكيمي، واتصلتُ به فوافق على الخروج إلى عدن ويتولى مسؤولية رئاسة الاتحاد اليمني، فغادر بريطانيا في 2 سبتمبر 1952، مارًّا بمصر والسودان والحبشة، ووصل عدن في 15 يناير 1953، وقبل وصوله عدن كان أعداء الحركة قد دبروا له مكيدة بدس مسدس وعدّة حبوب رصاص في صندوق كان فيه بعض أجزاء ماكينة المطبعة، التي نقلها من كارديف إلى عدن. وبعد وصوله عدن بشهر تقريبًا، استُدعي من قبل إدارة أمن عدن، وحدّدوا له يومًا للحضور إلى إدارة جمارك ميناء عدن لاستلام محتويات الصناديق المرسلة من كارديف إلى عدن باسمه، وعندما حضر إلى مخازن جمارك عدن، وجد بانتظاره مدير الأمن وغيره من الضباط، فاستأذنوه بفتح الصناديق، فأذن لهم فبدَؤُوا بالصندوق الذي هو معروف معهم بأن فيه المسدس والرصاص، ثم فتحوه فأخرجوا منه ذلك، فاندهش واستغرب كيف وصل هذا المسدس والرصاص إلى الصندوق، فأنكر ذلك وقال لهم إن الصناديق التي فيها أجزاء من المطبعة عُبئت في كارديف، وهو في مصر، وأنها عبئت بعد خروجه بثلاثة أشهر، فأُخِذت أقواله وبقيت الصناديق محجوزة لمدة شهرين تقريبًا، ثم سمحت السلطة بإخراجها من مخازن جمارك ميناء عدن، وأشعروه بتقديمه إلى المحكمة، وقد بدأت محاكمته في 28 مايو 1953، ولم تستمر المحاكمة لأكثر من عدة أيام، فصدر الحكم عليه في 2 إبريل 1953، بالحبس لمدة سنة والأشغال الشاقّة، وقبل أن يُصدِر الحاكم حكمه نودي من قبل الوالي بالتليفون عدة مرات، وآخر مرة رجع وجلس فوق كرسي الحكم وأصدر حكمه".
الآن وبعد قرن من ذلك التاريخ، لم تزل حافزات إنتاج الأسئلة هي ذاتها، وإن بصيغ أكثر تخففًا من حمولاتها الأخلاقية؛ لأن مثقفي تلك الحقبة كانت تقطرهم يقظة ضمير ومشقة طريق وعر طويل، والاستبداد يعاد اليوم إنتاجه برغبة سياسية واضحة، كون اصطفافات متارس الحرب تعيد تمثله في لا وعي المجتمع
دسُّ المسدس والرصاص كان عملًا مدبرًا؛ للحدّ من نشاط الشيخ الحكيمي وإضعاف حركة الأحرار، التي كانت بدأت تتقوى بعد وصوله إلى عدن، الأمر الذي جعل الإمام أحمد يقدّم الاحتجاج تلو الاحتجاج، ويرسل الوفود إلى حكومة عدن، ومطالبتها بتسليم الشيخ الحكيمي؛ لأنه "رعوي الإمام". والأمر الذي حيَّر الكثيرين هو "أين ومن وضع هذا المسدس والرصاص، وهل وضعه أحد مأجوري الإمام عند تعبئة الصناديق بكارديف أم وضعته مخابرات حكومة عدن بعدن؟!".
هذه الشهادة، بمجتزئها الطويل، وكما وردت بخط أحد رموز حركة الأحرار، تعيد تقديم الشيخ الحكيمي بصفته القائد الذي ورث تركة حركة الأحرار اليمنيين، بما فيها العداء المستحكم ضدها من الإمام والإنجليز معًا، وأنه ترك مستقره ومسجده في عاصمة ويلز؛ حيث كان يعطي دروسه لعشرات الطلاب من المهاجرين اليمنيين والعرب وأبنائهم، وعاد إلى الداخل اليمني لأداء رسالته المقدسة في تثوير المضطهدين ضد سلطة الاستبداد الإمامية وحليفتها سلطة مستعمرة عدن.
هذه الوجوه الثلاثة من أعلام مدرسة الأحرار اليمنيين الذين رأوا أن التحول في المجتمع لا يمكن أن يكون إلّا بوسيلة وحيدة وهي التعليم، وأن الاستنارة ليست خطابًا نخبويًّا متعاليًا، بل هي فعل للتضحية من أجل المجتمع، فالمحلوي مات بعد خروجه من سجن الإمام في صنعاء مطلع الأربعينيات، وهو الذي رفض مساومة الإمام له بالإفراج مقابل مغادرته صنعاء، والشيخ الحكيمي مات مسمومًا بعد خروجه من سجن الإنجليز بعدن في أغسطس 1954، أما الأستاذ النعمان فقد جرّدته سلطة صنعاء من جنسيته مطلع السبعينيات في فعل لم يراعِ تاريخه النضالي الطويل، ومات في منفاه عام 1996.
الآن وبعد قرن من ذلك التاريخ، لم تزل حافزات إنتاج الأسئلة هي ذاتها، وإن بصيغ أكثر تخففًا من حمولاتها الأخلاقية؛ لأن مثقفي تلك الحقبة كانت تقطرهم يقظة ضمير ومشقة طريق وعر طويل. الاستبداد يعاد اليوم إنتاجه برغبة سياسية واضحة، كون اصطفافات متارس الحرب تعيد تمثله في لا وعي المجتمع، من باب احتكار الحقيقة، بمطلقها الديني ويقينها السياسي. ويعاد إنتاج العزلة في العالم المفتوح بتعظيم الصورة الرثة للمواطن اليمني الذي لا يسمح له بحرية السفر والتنقل وحتى العمل في بلدان تجاور جغرافية أرضه، وهو من عمَّرها خلال الخمسين سنة الماضية.