ارتبطت مدينة "جِبلة" التاريخية، فاتنة إب، بأهم مراحل ازدهار الحضارة الإسلامية في اليمن، وذاع صيتها إبان حكم الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، المرأة التي وحّدت اليمن وحَكمته، خلال الفترة بين عامي 1085 و1138 ميلادية، وترسخت في عهدها مفاهيم الحكم المتسامح.
تحيط بالمدينة سلسلة من المدرجات الخضراء والأودية والبساتين الغنّاء، التي تعد متنفسها الأوحد، في ظل استمرار الزحف العمراني على حساب الزراعة والمساحات الخضراء.
تبعد جبلة عن مركز محافظة إب، بحوالي سبعة كيلومترات غرباً، ويتوسطها جامعُ الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، وقصر "العز"- بيت الملكة أروى، المهدد بالخراب، وعددٌ كبير من المباني الأثرية التي تقاوم، بقوة تاريخِها ومعاني قيمة المكان، وحشيةَ الزحف العمراني وعشوائية البناء واللامبالاة تجاه النمط المعماري.
تعيش المدينة التاريخية، حالةَ اغتراب بفعل زحف قوالب الأسمنت والاستحداثات المعمارية في محيطها. الزائر لهذه المدينة تتجه عيناه مباشرة نحو جامع الملكة أروى، الذي ينتصب كشاهد عيان على حجم حضارة وتاريخ حقبة إسلامية مزدهرة. جبل "التعكر" يبدو كحارسٍ أمين لدرة أثرية تروي تاريخًا ناصعًا لمدينة كانت ذات يوم عاصمة للحكم المتسامح، إبان الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، التي سنت سلسلة من القوانين الاقتصادية الهامة في المجال الزراعي وتربية الثروة الحيوانية والعدل والقضاء والثقافة، وشهدت اليمن في عصرها تطورًا ملحوظًا في كافة مجالات الحياة .
تتميز جبلة بالجمع بين المعالم التاريخية والموقع الجغرافي، وتحيط بها المدرجات والمروج الخضراء، التي تواجه مخططات عمرانية تهدد جمال المدينة ورونقها
بيوت شبيهة بالأبراج
ترجع مصادر تاريخية، منها كتاب "طبقات فقهاء اليمن"، الذي ألفه عمر بن سمرة الجعدي، أن تسمية جبلة بهذا الاسم، نسبة إلى رجل برع في الصناعات الحرفية القديمة، التي كان يمارسها في المدينة قبل أن تتحول إلى أشهر مدن اليمن، منذ منتصف القرن الخامس الهجري، عندما اتخذها مؤسس الدولة الصليحية عبدالله بن محمد الصليحي عاصمة لدولته. كان ذلك في العام 458 هجرية، وهي الدولة التي دامت أكثر من 90 عامًا، تمكن خلالها أمراء الدولة الصليحية من تحويل جبلة إلى مركز حضري وديني وعلمي، خاصة في عهد الملكة أروى بنت أحمد، التي أنشئت في عهدها أهم المعالم التاريخية.
تتميز جبلة بالجمع بين المعالم التاريخية والموقع الجغرافي المميز، إذ تحيط بها المدرجات والمروج الخضراء، التي تواجه مخططات عمرانية تهدد جمال المدينة ورونقها. ويوجد في المدينة عدد من السواقي القديمة وقنوات الري، التي كانت شريانًا للزراعة في منطقة جبلة ومحيطها.
قديماً كانت تسمى "مدينة النهرين"؛ لأنها تقع بين نهرين، كان الأول يصب من منطقة وراف، والثاني من جبل التعكر، فضلًا عن مساجدها الأثرية، البالغ عددها أكثر من 16 مسجدًا، أهمها وأبرزها مسجد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، الذي يبلغ عمر بنائه أكثر من ألف عام.
بيوتها الأثرية المبنية من الحجر، تبدو كالأبراج، حيث يتكون بعضها من 6 إلى 7 طوابق، وعليها نقوش زخرفية بمثابة شواهد تاريخية على البناء الهندسي والمعماري المتميز لمدينة جبلة، ودليل على النهضة العمرانية التي ميزت تلك الحقبة من الزمن.
حين تمتد قدم الزائر نحو أزقتها وأحيائها القديمة، تتكشف أهمية ذلك البناء، وكيفية رصف شوارعها وأزقتها، وحجم معاناة المدينة جراء الإهمال وعدم الترميم، بل وهجران بعض البيوت من السكان، وتدمير بعض القصور، مثلما هو حاصل لقصر "العز"، الذي كان مقر حكم الملكة أروى، والذي يعاني الخراب والإهمال حالياً. ويعد قصرها الشاهق والواسع، الذي ما زالت بعض معالمه قائمة، من العجائب الذي تحدثت عنها الكتب والمؤلفات، وقد تناقل الناس الروايات عنه أنه كان مكونًا من 360 غرفة بعدد أيام السنة.
جوامع تاريخية
أمّا مآذنها الشامخة وجوامعها التاريخية، فهي قصة تُشَدّ إليها رحال الزائرين، لما تتمتع به هذه الجوامع من جمال هندسي وبناء معماري فريد يعبر عن حضارة عظيمة.
يعود معظم هذه الجوامع إلى عهد الملكة أروى بنت أحمد الصليحي، المرأة التي وحدت اليمن وحكمته خلال الفترة بين 1085 و1138 ميلادية، وبها تجسدت شخصية المرأة اليمنية والعربية، كحاكمة تفوّقت على غيرها من الرجال الذين حكموا اليمن، وسادت بحكمها سياسيًّا، ولم تسُد به مذهبيًّا.
أصبحت الملكة أروى بنت أحمد مضربًا للأمثال في الحكم العادل، ما جعل منها رمزًا للحاكم المتسامح، واستطاعت خلال فترة حكمها أن تشيّد الكثير من المساجد ودُور العلم، وأنشأت السواقي الممتدة على عشرات الكيلومترات، مثل ساقية الجَنَد، التي كانت تمتد على مسافة أكثر من ثلاثين كيلومترا، مروراً بالكثير من المرتفعات.
مسجد الملكة أروى من المعالم، التي ما زالت شاخصة وشاهدة على الحضارة والسعة التي وصلتها عاصمة الدولة الصليحية، إذ يعد المسجد بما يحتويه من زخارف ونقوش إسلامية بديعة، واحدًا من العجائب الزخرفية.
لجامع الملكة أروى في جبلة مئذنتان؛ ووفقاً لتأكيدات ياسر الجرافي، قيِّم الجامع وأحد المهتمين بالتراث، فقد بنيت المئذنة البيضاء" في عصر حكم الملكة قبل ألف عام. على هذه المئذنة نقوش وزخارف إحداها عبارة "هذه لله والحمدلله"، بالإضافة إلى زخارف باللغة الحميرية. أما المئذنة الثانية، فعمرها أكثر من 600 عام، وبنيت في عهد والي مدينة إب، عبد الله محمد باسلامة. ويواصل "الجرافي" حديثه لـ"خيوط" عن الجامع، لافتاً إلى أنه يعاني من نقص في التمويل للحفاظ على مكوناته وملحقاته كمعلم أثري بارز.
وإذ يشير الجرافي إلى ضرورة الاهتمام بوقفية وملحقات الجامع، يشدد على أن أكثر مرفق يتطلب الترميم هي "البِركة"، إذ يخشى "الجرافي" -كما يؤكد- من تسرب المياه من البركة إلى تحت صومعة الجامع.
أما سطح الجامع والنقوش على "المصندقات" (الفواصل التي بين أخشاب السقف) الشبيهة بمصندقات الجامع الكبير بصنعاء، تعاني هي الأخرى من الإهمال. وخلال زيارتنا لـ"بهو" الجامع والعقود، لُوحِظ معاناتها من الإهمال، حتى أن هناك أشجارًا بدأت تنبت في أحد عقود الجامع، دون أن يُعرف مدى تأثير جذورها على البناء.
في منتصف الجدار الشمالي للجامع، يقع المحراب، وهو عبارة عن تجويف بسيط يبلغ عمقه حوالي (85 سم)، يعلوه عقد مدبب محمول على عمودين، عليهما زخارف نباتية وهندسية، ويحيط بالمحراب نقوش وكتابات عربية بالخط الكوفي
أبواب ونقوش
هذا الجامع التاريخي يعد، كغيره من جوامع جبلة وصوامعها ومآذنها، شاهد عيان على حقبة تاريخية مهمة في تاريخ اليمن، سادت فيها مفاهيم التسامح بصورة نموذجية. للجامع أربعة أبواب؛ "باب الخلافة"، وهو المؤدي إلى السوق القديم وإلى القصر، لكن حسب القائمين على الجامع، فإن هناك تسرباً للمياه من بركة قصر "العز إلى" الجامع.
هناك أيضاً "باب الرحمة" ويطل على سوق الفخار، و"باب البِرْكة" ويطل على بركة المياه الخاصة بالجامع والحمامات التابعة له. أما الرابع، فهو الباب الرئيسي للجامع، وعليه زخارف تاريخية. ويظهر تاج الملكة أروى بنت أحمد الصليحي على بوابة الجامع، ويقال إنه كان عليه عدد من الياقوت والمرجان والعقيق اليماني، ولكنها اختفت مع مرور الزمن.
في منتصف الجدار الشمالي للجامع، يقع المحراب، وهو عبارة عن تجويف بسيط يبلغ عمقه حوالي (85 سم)، يعلوه عقد مدبب محمول على عمودين، عليهما زخارف نباتية وهندسية، ويحيط بالمحراب نقوش وكتابات عربية بالخط الكوفي. وغير بعيد منه، توجد "مسبحة" الملكة أروى، التي يقول القائمين على الجامع إن عدد حباتها كان يبلغ الألف حبة من الحجم الكبير، وتمتد إلى حوالي 6 أمتار، وهي بحاجة إلى "متن" (خيط) بجودة عالية، حتى لا تتآكل، كما تحتاج إلى صندوق زجاجي للحفاظ عليها.
وأمرت الملكة حسب المصادر التاريخية عندما انتقلت إلى مدينة جبلة عام (480 هجرية/ 1087 ميلادية)، بتحويل "دار العز" الأول إلى الجامع الذي ينسب إليها حالياً، حيث لا يزال قائمًا ومحتفظًا بعناصره المعمارية والزخرفية، التي يتبين من خلالها مدى تأثره بطراز العمارة الفاطمية؛ نتيجة العلاقات التي كانت بين الدولة الصليحية باليمن والدولة الفاطمية في مصر.
وصية الملكة أروى
يعتبر ضريح الملكة أروى من أهم أضرحة القرن السادس الهجري، باعتباره الأثر الباقي من أضرحة الدولة الصليحية. وحسب ما تشير إليه المصادر والأبحاث التاريخية منها كتاب زكريا محمد "مساجد اليمن: نشائتها وتطورها" فقد بني، كما أمرت الملكة، في الركن الشمالي الغربي من الجامع، وأنها استثنت موضع ضريحها من بناء الجامع. كما أشارت في وصيتها وعاينها الشهود والقضاة، وقد دفنت في جامعها بذي جِبلة، أيسرَ القِبلة، في منزل متصل بالجامع، وكانت هي التي تولت عملية تشييده، وهيأت موضع ضريحها بنفسها. لكن هذا الضريح تعرض للاعتداء عام 1993، من قبل متطرفين، وتم إعادة بنائه لاحقاً. وبالمجمل، فإن مدينة جبلة التاريخية تعد متحفًا مفتوحًا ومكانًا ذا قيمة تاريخية وحضارية مهمة، حريٌّ بالجهات المعنية بهيئة الآثار والمدن التاريخية، ووزارات الثقافة والأوقاف، والسلطة المحلية، الاهتمام بهذه المدينة التاريخية، وإنقاذ معالمها من الاندثار.