تستمر العملة الوطنية بالانهيار في المحافظات اليمنية الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، بصورة أشد تسارعاً من انهيارها في المحافظات الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين). ومع استمرار هذا الانهيار، ارتفعت وتيرة التحذيرات من تبعات ذلك على ارتفاع معدل التضخم وأسعار السلع الغذائية والاستهلاكية، وتفاقم أزمات الوقود وانعكاس ذلك على مختلف القطاعات، وبالتالي ارتفاع نسبة الجوع على مساحة أوسع من البلاد التي تشهد حرباً متعددة الأسباب منذ ست سنوات.
ومنذ مطلع سبتمبر/ أيلول 2020، تجاوز سعر الصرف حاجز 800 ريال مقابل الدولار الواحد في عدن ومناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، وذلك لأول مرة منذ سنتين. ووصل سعر صرف الريال مقابل الدولار إلى هذا المستوى في العام 2018، قبل أن يتم رفد البنك المركزي في عدن بوديعة سعودية بنحو 2 مليار دولار.
ورجحت مصادر مصرفية مطلعة لـ"خيوط"، نفاد هذه الوديعة السعودية، ومواجهة البنك المركزي في عدن أزمة خانقة في توفير الدولار لاستيراد السلع الغذائية المدعومة التي كانت الوديعة تغطيها، وتساعد في ضبط هيجان السوق المصرفية.
هذا الانحدار في العملة وتبعاته على مختلف نواحي الحياة المعيشية للمواطنين اليمنيين، دفع الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في اليمن إلى توقيع اتفاقية تم وصفها بأكبر اتفاقية لتحسين الوضع الاقتصادي والاجتماعي في اليمن، مع تركيز الجهود تجاه السكان الأشد فقراً والأكثر ضعفاً.
الاتفاقية التي حصلت "خيوط" على نسخة من بيان الإعلان عنها، والذي أشار إلى أنها ستعمل على تعزيز دور السلطات المحلية، ومد جسور العمل الإنساني الحيوي والعمل التنموي على المدى البعيد، بالإضافة إلى إشراك القطاع الخاص اليمني في جهود مكافحة الفقر. وأضاف البيان أن الشراكة بين الاتحاد الأوروبي وبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي، في هذه الاتفاقية، يقدر بـ69.8 مليون يورو (ما يقارب 82.4 مليون دولار أمريكي).
وجاء في البيان أن "مبادرة تعزيز المرونة المؤسسية والاقتصادية في اليمن (SIERY) كما تم تسميتها، لمدة ثلاث سنوات، تهدف إلى إعادة بناء ثقة المجتمع في الدولة اليمنية والمساعدة في إعادة تحديد العلاقات ما بين المركز والمستوى المحلي". كما ورد فيه أيضاً أنه "سيتم تقديم المساعدة لتوسيع نطاق الدعم المقدم إلى نظام الحكم المحلي اليمني الرسمي" بتحقيق أربعة أهداف للاتفاقية، تتمثل في "المساعدة في الحفاظ وضمان وصول المواطنين إلى الخدمات الأساسية الحيوية، الحد من الصراعات، تعزيز التماسك الاجتماعي على مستوى المجتمع المحلي، وكذلك العمل على تهيئة الظروف لانتعاش اقتصادي مستدام في المجتمعات".
غير أن خبراء ومراقبون يعتقدون أن وضعية الانهيار الاقتصادي وانحدار العملة الذي تعيشه اليمن، يتطلب جهوداً أكبر مما تضمنه الإعلان عن هذه الاتفاقية، كما يتطلب أدوات فعالة أخرى لإنجاح مثل هذه المبادرات وغيرها. إذ أن النزاع الراهن بين أطراف الحرب أصبح يتركز في الاقتصاد الذي يتم استخدامه كورقة رئيسية في النزاع، ما يوسّع هوة الأزمة الاقتصادية، ويجعل من أية حلول لتلافيها أمراً في غاية الصعوبة.
وحسب الخبير المصرفي رضوان الحميري، فإن أية حلول أو تدخلات لإيقاف تهاوي العملة الوطنية ومكافحة تبعاتها في تفاقم الأوضاع المعيشية مع زيادة التضخم وتفشي الجوع، تتطلب في المقام الأول وجود مؤسسات مالية ومصرفية موحدة تعمل باستقلالية، بعيداً عن تدخلات أطراف النزاع الرئيسية.
تتهم عدن صنعاء بالمساهمة في انحدار العملة وتوسع فوارق الصرف بسبب رفض العملة المطبوعة خلال الحرب، بينما ترجعه صنعاء إلى طباعة كميات كبيرة من العملة، خارج نطاق القوانين اليمنية، والقوانين النقدية والمصرفية الدولية
ويرى الحميري في حديث لـ"خيوط"، أن البنك المركزي اليمني أصبح برأسين؛ أحدهما في صنعاء والآخر في عدن، لافتاً إلى أنه بالنظر إلى فروع البنك المركزي في مأرب- شمال شرقي اليمن، وحضرموت والمهرة- جنوب شرق، فإن البنك صار بأكثر من رأس. إذ ساهم هذا الانقسام في توجه كل طرف لتأسيس اقتصاد خاص به الأمر، الذي يقلل من فعالية منظومة التدخلات النقدية والحلول الاقتصادية أو الاجتماعية، سواء المحلية أو الدولية.
انهيار وفارق صرف
تتهم الحكومة المعترف بها دولياً، سلطة أنصار الله (الحوثيين) بالمساهمة في الانهيار المستمر للعملة الوطنية وتجزئتها من خلال منع ومصادرة تداولها في مناطق سيطرتهم، فيما ترى حكومة صنعاء أن ما يجري للعملة الوطنية من انهيار متسارع أمام الدولار والعملات الأجنبية الأخرى، سببه الرئيسي، طباعة كميات كبيرة من النقد المحلي.
مصدر رفيع بوزارة المالية في الحكومة التابعة لسلطة أنصار الله (الحوثيين)، قال إن النقد الذي طبعته الحكومة المعترف بها دولياً خلال سنوات الحرب، يعتبر "بحكم القوانين اليمنية، بل والقوانين النقدية والمصرفية الدولية، نقداً غير رسمي". وأشار في حديث لـ"خيوط"، إلى ما وصفه بالفشل في "اتخاذ مثل هذه الخطوة الكارثية والتي تسببت بالعمل على استبدال هذه الكتلة النقدية الضخمة وغير الرسمية بنقد أجنبي".
ويعتبر هذا المصدر أن النشاط الاقتصادي في مناطق سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، "لا يمثّل المحرك الرئيسي للاقتصاد اليمني"، وأن هذه "نقطة مهمة يغفل عنها كثيرون". وأضاف أن "ما يقارب 80% من النشاط الاقتصادي" يحدث خارج إطار سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، مشيراً إلى أن "ما يتم إدارته من أنشطة اقتصادية تحت سيطرتهم (حكومة عدن) لا تتجاوز نسبة 25%". وبالتالي، وفق حديثه، فإن حجم النشاط الاقتصاد المحدود في المناطق التابعة للحكومة المعترف بها دولياً، مقارنة بالكتلة النقدية الكبيرة، "عمل على توفير كمية كبيرة من النقد المحلي مقابل كمية قليلة من النقد الأجنبي". وإضافة لذلك، بحسب المصدر الرفيع في مالية صنعاء، فإن ما يتوفر من نقد أجنبي في مناطق سيطرة حكومة عدن، "لا يتم تدويره في القنوات النقدية الرسمية المحلية، بل يتم تهريبه إلى الخارج". وذلك من وجهة نظره، "أدى إلى شحة النقد الأجنبي، بالتوازي مع توسع مضطرد في الكتلة النقدية المحلية".
بخصوص الانتقادات الواسعة لرفض حكومة صنعاء التعامل بالعملة المطبوعة خلال الحرب، والتسبب في تجزئة العملة الوطنية وتدهورها، تطابقت تصريحات أكثر من مسؤول في وزارة المالية التابعة لحكومة صنعاء، أنه في حال قبلت صنعاء بتداول النقد المحلي الجديد، فسوف ينتج عنه "ثلاثة تداعيات هامة ومفصلية"؛ أولها أن قبول تداول العملة الجديدة، يعني الاعتراف الضمني بالبنك المركزي في عدن، وبالتالي الانصياع لسياساته النقدية بالكامل، وهو ما لا تريد حكومة صنعاء الإقدام عليه، نتيجة لخضوع البنك في عدن لسلطات التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات. كما أن الاعتراف بالنقد الجديد، سيعني إلغاء النقد القديم المتداول بشكل رسمي منذ ما قبل الحرب، كون العملة الجديدة تمت طباعتها بشكل مختلف عن طباعة العملة القديمة، وهذا بدوره، سيكلف خسائر باهظة وحرمان الاقتصاد من كتلة نقدية مهمة في التداول، وفق تفسيرات مسؤولي المالية في حكومة صنعاء. كما تضمنت أحاديثهم المتفرقة لـ"خيوط"، أنه في حال تم اعتماد تداول النقد الجديد، فسوف يتم ضخه بكميات كبيرة جداً إلى السوق المحلية، وبالتالي، ارتفاع سعر الصرف في كافة مناطق الجمهورية اليمنية، إلى نفس مستوى سعر الصرف في عدن. واعتبروا أن السماح بتداول المطبوع الجديد من العملة، قراراً كارثياً سيؤدي إلى انهيار اقتصادي متسارع ومجاعة شاملة في البلاد.
تحديات تنموية عصيبة
الاتحاد الأوروبي اعتبر مبادرته المشتركة مع برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في اليمن، "استجابة لتحديات تنموية عصيبة"، وأنها "تتماشى بالكامل مع استراتيجية الاتحاد الأوروبي العالمية لبناء المرونة من خلال دعم الحكم الرشيد، تعزيز العلاقة بين التنمية الإنسانية، ودعم تنمية القطاع الخاص". وتضمن بيان الإعلان عن الاتفاقية المشتركة، تصريحاً لسفير الاتحاد الأوروبي في اليمن، هانز جروندبرج، أشار فيه إلى وقوف الاتحاد الأوروبي "إلى جانب اليمنيين، ليس فقط لمواجهة التحديات العاجلة، ولكن أيضًا لبناء مستقبلهم".
باحث اقتصادي: مشكلة اليمنيين حالياً تتمثل في توفير سبل العيش في ظل تزايد مخاطر الأمن الغذائي والبطالة واستمرار العملة بالانهيار بالتوازي مع تهاوي قطاعات اقتصادية أخرى، وارتفاع حدة المعارك في مأرب والجوف والتوترات في أبين
وأضاف جروندبرج، أن "المبادرة الجديدة ستركز بشكل خاص على القطاعات الحيوية للسكان المعرضة للخطر، مثل الصحة والمياه والغذاء والتعليم، كما ستعمل على تحسين سبل عيش الناس من خلال خلق الوظائف وفرص التعلم". وتابع أن ذلك "سيساعد على تعزيز القدرة على التحمل لدى أولئك الذين يواجهون بالفعل ظروفاً قاهرة وتمكينهم من مواجهة التحديات العديدة والمرتبطة بالنزاع ووباء فيروس كورونا بشكل أفضل".
كما تضمن البيان تصريحاً للممثل المقيم لبرنامج الأمم المتحدة الإنمائي في اليمن، أوك لوتسما، اعتبر فيه أن طول فترة النزاع المسلح في اليمن، "خلق قصوراً اقتصادياً ومؤسسياً أدى إلى عواقب وخيمة على المواطنين". وقال إن ذلك "يتطلب مساعدة اليمنيين في صياغة مسارات تنموية جديدة لتحقيق نمو شامل ومستدام في المستقبل".
مسؤولو الأمم المتحدة "متحمسون" للعمل مع الاتحاد الأوروبي عبر هذه الاتفاقية، "لدعم أنظمة الحكم المحلي" من أجل "تعزيز وتوسيع تقديم الخدمات الأساسية لليمنيين في جميع أنحاء البلاد"، بحسب تصريح لوتسما، الذي قال إن ذلك سيتم من خلال التركيز على بعض القطاعات الواعدة، واصفاً "الدور الذي تلعبه الشركات الصغيرة والمتوسطة ورواد الأعمال اليمنيين، بـ"الحاسم". كما اعتبر هذه الشركات "عموداً فقرياً اقتصادياً للبلاد"، وأن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، سوف يتواصل مع هذه القطاعات "بشكل مباشر من خلال هذا المشروع".
ويعتقد هؤلاء المسؤولين بأن المشروع بإمكانه أن "يساهم في ضمان تقديم الخدمات الأساسية، مثل إعادة تأهيل البنية التحتية والحيوية للمجتمع، كالمدارس ومرافق الصرف الصحي والمياه والنظافة، ومعالجة الاحتياجات الناشئة، مثل حل النزاعات والمساعدة في تجنب الكوارث، من خلال تدريب السلطات المحلية وافراد المجتمع؛ والمساعدة في الاستقرار الاقتصادي من خلال وضع خطط تعافي معقولة على المستوى المحلي؛ والعمل مع النازحين داخليًا".
وفي السياق ذاته، يرى الباحث الاقتصادي هشام عبدالولي، في حديث لـ"خيوط"، أن مشكلة اليمنيين حالياً تتمثل في توفير سبل العيش، خاصة في ظل توسّع رقعة مخاطر الأمن الغذائي، البطالة، واستمرار العملة الوطنية بالانحدار في مسارات متوازية مع تهاوي قطاعات اقتصادية أخرى، وتصاعد حدة المعارك على تخوم مدينة مأرب، وفي محافظتي الجوف والبيضاء، شمال اليمن، وبالمثل، التوترات المتصاعدة في "شُقْرَة" بمحافظة أبين جنوباً. ويضيف عبدالمولى أن تصاعد وتيرة هذه المعارك "يدفع باتجاه الانهيارات الاقتصادية والمعيشية، لأن الأطراف المتقاتلة تخوض صراعاً مالياً واقتصادياً آخر"، يتعلق بتوفير التمويلات المالية اللازمة لهذه المعارك.