يشكو "توفيق طاهر" بمرارة من معاناة تتجدد معه كل عام مع المؤجر، الذي أبلغه قبل فترة وجيزة بإضافة مبلغ في الإيجار الشهري يزيد عن خمسة آلاف ريال .
"توفيق" كموظف من الدرجة العاشرة، -كما يقول- لا يستطيع التعامل مع هذا الأمر، ليس لكونه موظفًا حكوميًّا دخله محدود وراتبه ثابت لا تطرأ عليه أي زيادة، بل لأنه فقد هذا الدخل المحدود بعد توقفه منذ نحو أربعة أعوام، وبالتالي هناك صعوبة في مواجهة هذه الأعباء التي يلقيها المؤجرون على كاهلهم .
ويضيف لـ"خيوط"، أن هناك ارتفاعات كبيرة في الإيجارات وتكاليف توفير المياه والكهرباء، وصعوبة بالغة يعيشها المواطن تتطلب تدخل السلطات الرسمية، لوضع حدٍّ لهذا التدهور الحاصل في الحالة المعيشية مع تضخم هذه المتطلبات بدون أي مبرر.
لا تزال مسألة الحصول على منزل خاص والتخلص من أعباء الإيجارات حُلُمًا بخرته الحرب في الهواء لدى غالبية شرائح المجتمع اليمني، التي تزداد معاناتها من عام لآخر؛ نتيجة الأعباء الثقيلة والتكاليف الباهظة للمساكن والإيجارات التي تلتهم النسبة الأكبر من الدخل، في وضع لم تترك فيه الحرب أي مصدر لسبل العيش لدى ملايين من اليمنيين.
ويعاني المواطن اليمني صعوبة بالغة في الحياة المعيشية، أهم أسبابها، إلى جانب تدني الدخل، معضلة توفير السكن الذي يؤرقهم ويقض مضاجعهم ويلتهم كل ما يحاولون بجهد بالغ توفيره من دخل ضئيل.
يصل الحد الأدنى لإيجار شقة مكونة من ثلاث غرف، ما يقارب 70 ألف ريال، بينما ما يزيد عن ذلك يتجاوز إيجارها المئة ألف ريال في بعض المناطق الحيوية في العاصمة صنعاء، وتزيد في عدن عن 180 ألف ريال.
ونتيجة لجشع المؤجرين، فقد شهدت الإيجارات ارتفاعات متواصلة منذ نهاية العام 2019، والشهور الماضية من 2020، بدون أي مبرر يستدعي هذا الإصرار على استغلال حاجة الناس للمساكن وتحميلهم ما لا يطاق، في ظل ظروف وأوضاع معيشية صعبة وحرب متواصلة ومستعرة على كافة الأصعدة، ومع تحول الاقتصاد ومعيشة الناس إلى ورقة في الصراع الدائر الذي يرافق هذه الحرب.
استمرار الحرب وعدم وجود أي أفق لتوقفها وإحلال السلام، تتصاعد بموازاتها الأزمات المعيشية في بلد يعاني معظم سكانه من فقر وبطالة مزمنة وندرة المساكن الخاصة لدى غالبية الأسر اليمنية، الأمر الذي جعل مواطنين يصفون هؤلاء المؤجرين بتجار الحرب الحقيقيين في اليمن.
ويصل الحد الأدنى لإيجار شقة لا تزيد عن غرفتين إلى نحو 50 ألف ريال، بينما ثلاث غرف ومطبخ وحمام، والتي لم يكن إيجارها يتجاوز 40 ألف ريال قبل ثلاث سنوات، أصبحت بما يقارب 70 ألف ريال. أما الشقق المكونة من أربع غرف، فيتجاوز إيجارها الـ100 ألف ريال، خاصة في بعض المناطق الحيوية في العاصمة صنعاء.
وتستمر السوق العقارية بالاشتعال، وتحولت إيجارات المساكن إلى أزمة خانقة، يواجه العديد من المستأجرين مشقةً كبيرة في تسديدها، في ظل تراجع الدخل والأعمال وسط أزمات معيشية طاحنة، تتركز في صنعاء وعدن ومعظم المدن اليمنية باختلافات بسيطة، في ظل بقاء عدن الأكثر اشتعالًا مع وصول متوسط إيجار العقار فيها المكون من ثلاث غرف ومرافقها، إلى أكثر من 150 ألف ريال، فيما يستمر ارتفاع الدولار مقابل الريال اليمني، وهو ما أدّى بمؤجرين إلى مطالبة المستأجرين بدفع الإيجار بالدولار أو الريال السعودي.
وتدرس السلطات المحلية في صنعاء- بعد ارتفاع أصوات معاناة المواطنين المستأجرين- اتخاذَ خطوات تهدف إلى تحديد إيجار الشقق بما يلائم ظروف المستأجرين، وفرض غرامات على مالكي الشقق الذين استغلوا حاجة الناس عبر رفع الإيجارات، مع وصول الوضع إلى انعدام كافة خيارات السكن، وسط تزايد سكاني كثيف يلتهم كل ما هو متوفر من مساكن في مدن عشوائية وغير مخططة.
انفلات بدون حماية
تفاجأ أحد المواطنين ببلاغ من مالك البيت الذي يستأجره منذ ما يقارب سبعة أعوام في منطقة "جَدِر" شمال صنعاء، التي معظم مساكنها شعبية، بحوالي 30 ألف ريال، مفيداً بأنه قد قرر رفع الإيجار إلى 50 ألف ريال.
المواطن "عماد" (50 سنة)، يتحدث لـ"خيوط"، عن الهمّ الذي يشترك فيه غالبية المواطنين اليمنيين في المدن، خصوصًا الذين لا يمتلكون مساكن خاصة، وهو همٌّ يرافق أعباء دفع الإيجارات، المتمثل في تكاليف الكهرباء والماء أيضًا، فلم يعد باستطاعته -كما يقول هذا المواطن- التعاملَ معها وتوفيرها، مضافًا إليها أعباء أخرى، إذ وصل الأمر إلى التعليم، الذي يتطلب أموالًا طائلة من قبل الأسر لتعليم أبنائها.
هذا التعنت والصلف المعيشي الذي يعاني منه "عماد" وأمثاله من اليمنيين، خلق هوّة واسعة في المجتمع؛ نتيجة الطوفان المعيشي الكاسح، وتوقف الرواتب في الوظائف الحكومية، وما تبقى من الدخول لم يعد يفي بالغرض المناسب، لمواجهة هذه الأعباء المتضاعفة من فترة لأخرى.
وبحسب الخبير والمستشار القانوني "فهد العلي"، يجب تدخل الجهات الحكومية المعنية لوضع حد لهذا السجال الدائر بين شرائح رئيسية في المجتمع، بحيث لا يتضرر أحد سواء كان المستأجر أو المؤجر .
ويشير إلى أن العملية تحتاج لاعتماد آلية تنظم هذه العلاقة، ترتكز على العقد المبرم بين الجانبين، وتوضح كل الجوانب في القيمة الإيجارية، والحالات التي تستدعي رفعها، والنسبة التي يمكن وضعها في الإيجار إذا اقتضت الضرورة ذلك، خلال فترة لا تقل عن 6 سنوات بمبلغ يتفق عليه الطرفان، وبشرط أن تكون الأوضاع المعيشية مستقرةً وتسمح بهذا الأمر .
يطالب مراقبون باستحداث قانون خاص للمساكن والإيجارات في اليمن بموجب عقود رسمية، تراعي ظروف الأوضاع الراهنة، وتحدد الفئات الأكثر تضررًا، ووضع حدود متوسطة للإيجار الشهري
وبخصوص القانون الذي كان معروضًا على البرلمان خلال السنوات الماضية، يلفت "العلي" في حديث لـ"خيوط" إلى أن وجود مثل هذا القانون لا يفي بحل هذه المعضلة؛ لأن أي مسوغ قانوني يجب أن يأخذ في الاعتبار كل التفاصيل المتعلقة بالمسكن، ومساحته، وموقعه، والخدمات المتوفرة، ونوعية السكن حديث أم قديم .
كما يؤكد على ضرورة حماية المستأجر في ظل هذه الأوضاع التي فرضتها الحرب؛ لأنه هو الضحية في نهاية المطاف، حيث لا يجب مثلًا مطالبته بإخلاء العقار إلا إذا أراد صاحب الشأن الانتفاع بها شخصيًّا، وعدم تأجيرها لشخص آخر، فإن خالف ذلك يعاقب. ويضيف أنه لإخلاء العقار، يجب أن يبلَّغ المستأجر قبل نهاية عقد الإيجار بثلاثة أشهر، وهذه من الأمور التي ينبغي مراعاتها، طبقًا لهذا الخبير القانوني، وليست في أي توجهات لإصدار قانون خاص بذلك، بل في العقد الذي يتم توقيعه بين المؤجر والمستأجر.
ويطالب مراقبون باستحداث قانونٍ خاص للمساكن والإيجارات في اليمن، بموجب عقود رسمية، تراعي ظروف الأوضاع الراهنة، وتحدّد الفئات الأكثر تضررًا، ووضع حدود متوسطة للإيجار الشهري؛ بحيث لا يقل عن 10 ألف ريال ولا يزيد عن 30 ألف، وذلك لضبط جشع المؤجرين وملّاك العقارات، وحماية حق المستأجر (الطرف الأكثر أهمية بين هذه الحقوق)، والذي يشكل الفئة الأكبر من السكان في اليمن
يستند المطالبون بالقانون، إلى ما تمر به اليمن من أوضاعٍ صعبة تتطلب حماية حق المستأجر (القطاع العامل والمنتج)، وأنه لذلك يتطلب الأمر توفير المسكن الملائم له بما يناسب مستواه المادي، وينعكس إيجابيًّا على استقراره؛ إذ يضيع عمر الإنسان بين التنقلات، وتتغير حياته بين شقة وأخرى.
يشير المهندس أحمد السعيدي، مالك مكتب عقاري، إلى عدم وجود أي آلية قانونية تنظم العلاقة بين المؤجر والمستأجر، بالإضافة إلى عدم قيام الجهات المختصة بإعداد قانونٍ أفضل مما تم إعداده سابقًا، وبالمثل، إيجاد آلية تحدد قيمة الإيجار؛ بحيث تستند إلى كل ما يتعلق بالمسكن والموقع وفترة السكن.
يتطلب الأمر وجود دولة وبيئة استثمارية مناسبة لنمو الأنشطة العقارية، وحل مشاكل الأراضي، وإيجاد قوانين نافذة تسمح بتطور الاستثمارات العقارية؛ وبالتالي إيجاد السبل الكفيلة بحصول المواطن والموظف على المسكن بيُسر، خاصة مع تدهور الوضع العام للبلاد بين سنة وأخرى.
ويتحدث السعيدي لـ"خيوط"، حول تنامي سوق العقار في بعض المناطق السكنية بالعاصمة صنعاء، كمنطقة "حَدّة" ومعظم مناطق جنوب صنعاء، التي تشهد نهمًا استثماريًّا كبيرًا في العقارات، وخصوصًا من قبل المغتربين، وأيضًا من قبل رجال أعمال ونافذين؛ لأن هناك سوق رائجة ومربحة؛ نتيجة للطلب الكبير عليها واستعداد المستأجرين لدفع مبالغ كبيرة.
طبقات ثرية وانفلات العداد
يعدّ القطاع العقاري من أبرز القطاعات المتضررة جراء الأوضاع الراهنة؛ حيث تم القضاء على بصيص الأمل الذي لاح منذ فترة بالتوقيع على مجموعة من المشاريع الهامة والكبيرة في هذا المجال، واستبشر معها الناس خيرًا في إمكانية أن تحل أهم مشكلة تؤرقهم والمتمثلة بمشكلة السكن، لكن أغلب هذه المشاريع التي استمرت عملية تدفقها، كما يشخصها العديد من الخبراء والمواطنين، هي أشبه بالمثل القائل: "أسمع جعجعة ولا أرى طحيناً".
ويُرجِع خبراء، ارتفاع إيجارات العقار إلى أسباب عديدة ترتبط بمستوى توفر الخدمات في العقار المراد بيعه أو شراؤه أو استئجاره، وكذلك التخطيط؛ فالعقار المخطط أغلى من غير المخطط.
كما تشمل أسباب الارتفاعات بعض الجوانب المتعلقة بنوعية البناء، سواءً أكان شعبيًّا أم مسلحًا، وأيضًا الهجرة الداخلية إلى عواصم المدن والمحافظات، وهذا يؤدي إلى زيادة الطلب على العقارات وبيوت الإيجار، إلا أن الشخص البائع يبقى هو المتحكم الوحيد في تحديد السعر، كما يرى وحسبما يريد.
الخبير في السوق العقارية عبدالرحمن السماوي يتحدث لـ"خيوط"، عن ارتفاع أسعار العقارات والأراضي بصورة قياسية عما كانت عليها قبل الحرب، ويشير إلى النمو السكاني، وحركة النزوح نتيجة الحرب والصراع إلى المدن المستقرة نوعًا ما، مثل صنعاء وحضرموت وغيرها من المدن التي كانت مستقرة، لكنها أصبحت مضطربة مؤخرًا، مثل عدن ومارب.
عمليات النزوح والتكدس السكاني في مساحات جغرافية محدودة، بالتزامن مع تشكل طبقة ميسورة ثرية، أفرزتها الحرب والسوق السوداء في الوقود والعملة والكهرباء والسلع الغذائية، ساهمت في ارتفاع إيجارات العقارات والأراضي، وزيادة منسوب الجشع بشكل مفرط لدى غالبية المؤجرين، واختلال السوق العقارية وتصاعد الإيجارات إلى مستويات قياسية تزيد عن 500% عما كانت عليه قبل الحرب الدائرة في اليمن، منذ ما يزيد عن خمس سنوات.
وتتضاعف معاناة المستأجرين، مع غياب السلطات الرسمية عن تنظيم هذه الفوضى التي تتصاعد وسط مجتمع شتته الحرب وأثقلته الفاقة، والأهم تواجد السلطات لحماية المستأجرين، مع انفلات عداد الإيجارات، وعدم وجود أي سقف محدد لها.