«ينظر بعض الناس في اليمن إلى "المعاق/ة" وكأنه كائن غريب أو مخلوق فضائي، وليس بشر مثلهم، حتى إنهم يجعلونك تشعر باليأس والإحباط من الحياة»، بهذه الكلمات تعبر الأربعينية "نوال إبراهيم" عن معاناتها، إذ تكالبت عليها القسوة والأحزان من إعاقة وفقدان للزوج والأخ، ونزوح وفقدان لمصادر الدخل.
الإعاقة الجسدية أو الحركية، ليست ذنبًا اقترفه الإنسان المعاق، بل خلقه الله بالشكل الذي هو عليه، أو سُلِب إحدى حواسه أو توقف عضو من أعضاء جسده عن العمل، وبدلًا من مساعدته ومساندته في تجاوز إعاقته وعيش حياة كريمة، يعاني ذوو الاحتياجات الخاصة في اليمن بشكلٍ كبير، من النظرة الدونية والحرمان من المشاركة في الحياة الاجتماعية مع الأسوياء.
ناهيك عن حرمانهم من حقوقهم، كونهم ذوي احتياجات خاصة، من الخدمات والامتيازات التي يجب على الدولة أن توفرها لهم، تعويضًا عمّا فقدوا من حواسهم أو أعضائهم.
نزحت "نوال" من محافظة تعز جنوب غربي اليمن في العام 2016، وتعيش مع ابنتها في العاصمة صنعاء، في حياةٍ تجسد كل أنواع المعاناة. تقول لـ"خيوط": «نزحتُ من منزلي وليس لديّ سوى ابنتي التي تدرس في الجامعة، نقتات على ما نحصل عليه من مساعدات إنسانية من الناس والمنظمات».
تعيش "نوال" وحيدة مع ابنتها الشابة في غرفة صغيرة، بحي شملان شمال غرب العاصمة صنعاء بإيجار شهري يبلغ ٢٠ ألف ريال (٣٥ دولارًا أمريكيًّا)، تضطر أحيانًا إلى بيع ما تملكه من أثاث ومقتنيات، بل وحتى تبيع القمح والأرز والزيت الذي تحصل عليه من بعض الجهات الخيرية، من أجل سداد الإيجارات وشراء العلاجات ودفع نفقات دراسة ابنتها في الجامعة.
إهمال وتوقف جمعيات الرعاية
على الرغم من المعاناة التي يواجهها ذوو الاحتياجات الخاصة في اليمن من إهمال حكوميّ ونقص في الغذاء والدواء، فضلًا عن توقف العشرات من الجمعيات المختصة برعاية ذوي الاحتياجات الخاصة، ضاعفت الحرب، التي تشهدها البلاد منذ العام ٢٠١٥، من أعدادهم بشكل كبير.
تصل نسبة ذوي الاحتياجاتالخاصة إلى 15% من إجمالي السكان في اليمن، المقدر عددهم بنحو 30 مليون نسمة، أيما يقارب أربعة ملايين ونصف المليون معاق في البلاد
وبسبب الحرب المستمرة في اليمن منذ نحو ست سنوات، اضطُر بعض الأهالي إلى بيع مدخراتهم من الذّهَب، من أجل سداد الإيجارات للمنازل وعربات النقل من منطقة إلى أخرى أو غيره من المتطلبات الحياتية الأساسية، وذلك لإعطاء الأولوية لسداد التكاليف المتعلقة برعاية أحد الأقارب من ذوي الاحتياجات الخاصة.
وتصل نسبة ذوي الاحتياجات الخاصة إلى 15 %من إجمالي السكان في اليمن المقدر عددهم بنحو 30 مليون نسمة، أي ما يقارب أربعة ملايين ونصف المليون معاق، وَفقَ منظمة العفو الدولية، إذ لا توجد إحصائية رسمية لدى السلطات المختصة في اليمن، فيما الحرب تسببت في تسجيل نحو 15 ألف معاق بشكل رسمي، إضافة إلى آلاف ذوي الاحتياجات الخاصة لم يتم تسجليهم.
وتطالب منظمةُ العفو الدولية باستمرار الأممَ المتحدة والمنظمات الإنسانية أن "تبذل مزيدًا من الجهد، للتغلب على المحددات التي تحول دون حصول الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة حتى على أبسط احتياجاتهم الأساسية".
فكرت "عواطف" (40 سنة)، بالانتحار نتيجة الضغوط النفسية ونظرة المجتمع السيّئة. "عواطف عبده" معاقة، تجلس على كرسي متحرك، ومطلقة أيضًا، نزحت من الحرب في محافظة الحديدة غربي البلاد، وتعيش مع أمها المعاقة وأختيها، في العاصمة صنعاء.
كانت الغارات وأصوات الانفجارات تسبب لها حالة نفسية سيئة، وكانت عندما تسمع أصوات الغارات تفكر بكيفية الهرب وهي عاجزة عن الحركة.
تقول عواطف لـ"خيوط": «شكّلَ موت أبي صدمة كبيرة لي، حيث كان يمنحني الحنان الذي كنت أفتقده، لكن رحيله جعل حياتي سيّئة، فلا يمكن الوصف ولا التعبير عنه حيث إن أمي هي أيضًا معاقة، مما زاد من تدهور حالتي النفسية».
فضلًا عن الاضطهاد الذي كانت تتعرض له في عملها وفق حديثها، تتابع: «كان الناس ينظرون لي نظرة دونية مستفزة، مما جعلني أفكر في مرات كثيرة بالانتحار، لكن فقط إيماني بالله هو من يجعلني دائمًا أتغلب على كل شيء».
وعندما تتذكر "عواطف" حنان والدها ومعاملة زملائها لها في العمل، لا تتمالك من أن تجهش بالبكاء والدموع، وهو السبيل الوحيد للتعبير عن معاناتها وشدة قسوة الحياة التي تعصر سنوات عمرها.
كان لدى "عواطف" تجربة مريرة من الحرب، حيث عانت بسبب النزوح لأكثر من مرة، فقد انتقلت إلى محافظة تعز خلال عام 2015، وما إن وصلت إلى هناك حتى تفاجأت بوجود المواجهات بالقرب من المكان الذي نزحت إليه، لتعود أدراجها إلى محافظة الحديدة، لكنها بمجرد أن لبثت بعض الوقت حتى وصلت نيران الحرب إلى محافظة الحديدة، لتواصل مسلسل نزوحها مستقرةً أخيرًا في العاصمة صنعاء.
كوارث الحرب والصراع
تسببت الحرب والصواريخ والألغام الأرضية والمواجهات الميدانية في إلحاق أضرار بالغة بالحياة العامة المعيشية في اليمن، نال منها ذوو الاحتياجات الخاصة نصيبًا كبيرًا من نزوح وتشرد وارتفاع أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة.
تسجيل 15 ألف معاق منذ بداية الحرب، ونحو 185 منظمة ومؤسسة أغلقت أبوابها أمام ذوي الاحتياجات الخاصة، في مختلف المحافظات اليمنية، لعدم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاههم
"تسجيل 15 ألف معاق بسبب الحرب" تسببت القنابل العنقودية والصواريخ الباليستية والألغام الأرضية، بالإضافة إلى المواجهات الميدانية، في ارتفاع أعداد ذوي الاحتياجات الخاصة في اليمن.
"عبدالله أحمد بنيان" رئيس الإقليم العربي للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، ومدير عام مركز ذوي الاحتياجات الخاصة بالعاصمة صنعاء يشير في حديث لـ"خيوط" إلى أن هناك أكثر من 15 ألف معاق، وفدوا إلى الاتحاد اليمني للمعاقين لتسجيل أسمائهم، بخلاف الآلاف من ذوي الاحتياجات الخاصة الآخرين الذين لم يتم تسجيل أسمائهم.
يضيف أن الحرب أثرت بشكل كبير على ذوي الاحتياجات الخاصة، ما فاقم من معاناتهم، فتأثير الحرب عليهم أشدّ مرارة من تأثير الإعاقة.
وجففت الحرب مصادر الدخل لذوي الاحتياجات الخاصة، وأدّت إلى نزوحهم من منازلهم، حيث لا يجدون حتى الحد الأدنى من الخدمات.
حسب "بنيان" فإن هناك 185 منظمة ومؤسسة أغلقت أبوابها أمام ذوي الاحتياجات الخاصة، في مختلف المحافظات اليمنية، لعدم قدرتها على الإيفاء بالتزاماتها تجاههم، إضافة إلى ما تسببت به الحرب من إيقاف موارد صندوق رعاية وتأهيل المعاقين.
صعوبات تعليمية وصحية
كان هناك مسح ميداني في 2004، لتسجيل ذوي الاحتياجات الخاصة، لكنه توقف بسبب أحداث أدّت إلى توقف العملية، حسب الناشط الإعلامي بقضايا ذوي الاحتياجات الخاصة، وأمين عام جمعية المعاقين حركيًّا في اليمن، "فهيم القدسي".
يؤكد "القدسي" لـ"خيوط" أن هناك إغفالًا في تطبيق الأنظمة والاتفاقيات الدولية لحماية ذوي الاحتياجات الخاصة، التي صادقت عليها اليمن في 2008، حيث لا يتم تفعيل موادها بالشكل المطلوب، لافتًا إلى أن الحرب أزاحت السلطات نحو اهتمامات أخرى، ما أدّى إلى إهمال الأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة.
كما أن هناك صعوبات كبيرة يواجهها ذوو الاحتياجات الخاصة في الجوانب التعليمية والصحية، وفي تهيئة الأماكن وتسهيل الوصول في كثير من المرافق والمراكز، والتنقل من مكان إلى آخر، حيث لا توجد تسهيلات لذوي الاحتياجات الخاصة، في التنقل في المدارس والمستشفيات والحدائق.
وبيّنَ "القدسي" أن "الصُّمّ" يواجهون صعوبة كبيرة في التفاهم والتواصل مع الأشخاص من حولهم، حيث توجد لديهم صعوبة في فهم لغة الإشارة وتوصيلها، كما أن المكفوفين يواجهون صعوبة كبيرة في التنقل بسبب وعورة الطريق وعدم وجود تسهيلات لتنقلاتهم.
وهناك طريقة لتعليم المكفوفين تسمى طريقة "بَرَيل"، لكنها غير متوافرة في اليمن، ولا يحصل عليها سوى عدد ضئيل منهم.
الوضع الاقتصادي ألقى بتبعاته على اليمنيين بشكل عام، وذوي الاحتياجات الخاصة بشكل خاص، حيث فَقَدَ ذوو الاحتياجات الخاصة مصادر الدخل الخاصة ووظائفهم والمساعدات.
حسب أمين عام جمعية المعاقين حركيًّا، فإن الصندوق اليمني للمعاقين كان يقدم معونات بنسبة 80% لذوي الاحتياجات الخاصة، لكن الحرب جففت موارد الصندوق بشكل كبير، حيث يعتمد الصندوق في عائداته على مؤسسات حكومية وخاصة، منها: نسبة من مصنع التبغ والكبريت "كمران"، ومصانع الأسمنت، ونسبة من تذاكر الطيران، وأيضًا نسبة من عائدات المخالفات المرورية، وجهات أخرى، لكن معظم الجهات توقفت أو انخفضت نسبة ما تقدمه للمركز بسبب تراجع مستوى الواردات.
ويحتاج ذوو الاحتياجات الخاصة إلى أجهزة تعويضية، مثل السيقان والأيادي الإلكترونية التعويضية، وأجهزة مساعدة، مثل السماعات والنظارات والعربات، بالإضافة إلى أجهزة تعليمية، غير أن هناك صعوبة في الحصول عليها بسبب الحصار والحرب، والتدهور الاقتصادي.
التأثير النفسي للحرب وتوقف الأنشطة
للحروب تأثيرات سلبية صحية ونفسية واجتماعية واقتصادية على الدول والحكومات وعلى جميع فئات المجتمع، وهي بالنسبة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة أكثر تأثيرًا، فترتفع نسبة الإعاقة ويزداد عدد ذوي الاحتياجات الخاصة، كما تزداد الضغوط النفسية على ذوي الاحتياجات الخاصة، بسبب توقف الخدمات التي كانت تُقدَّم لهم، سواءً علاجية أو تأهيلية أو ترفيهية أو مادية.
وخلال السنوات الأخيرة تقلّصت خدمات صندوق الدعم الخاص بذوي الاحتياجات الخاصة؛ نتيجةً لشحّة الإيرادات، وتم تقليص الأنشطة وإغلاق العديد من الجمعيات والمراكز الحكومية والخاصة، التي كان المعاق يجد فيها المتنفس والترفيه والتعليم والتأهيل، ويشغل فيها جزءًا كبيرًا من الوقت.
الأخصائي النفسي والأكاديمي اليمنيّ الدكتور "أمين الزقار" يؤكد في حديثه لـ"خيوط"، أن ذوي الاحتياجات الخاصة يفتقرون إلى مدرسين وأخصائيين للتربية الخاصة والإرشاد النفسي، الذين كانوا يعملون على تخفيف آثار الإعاقة، والتخفيف من الضغوط التي تقع على كاهل الأسرة.
ويرى "الزقاز" أن المعاق أصبح في الوقت الحالي يشكل عبئًا كبيرًا على كاهل أسرته، مع انعدام الخدمات العلاجية والإعانات المادية؛ حيث باتت الأسر تعاني من الأمرين معًا، وانعكس ذلك على تعاملها مع أبنائها ذوي الاحتياجات الخاصة، سواء بقصد أم بدون قصد، وأثّر على الحالة النفسية للمعاق.
وقدّرَ الدكتور "أمين الزقار" أن ذوي الاحتياجات الخاصة الذين يتلقون التأهيل النفسي والمهني، لا يتجاوزون الـ 10% من إجمالي عددهم في اليمن، وهو عدد ضئيل جدًّا.
يرجع ذلك لعدم وجود اهتمام رسمي أو مجتمعي بالدعم النفسي، بسبب ارتفاع تكاليف التردد على المعالجين النفسيين وقلتهم في المجتمع، ولوجود اهتمامات أكثر إلحاحًا من وجهة نظرهم، وهو توفير لقمة العيش الأساسية، وينظرون للعلاج النفسي أنه من باب الرفاهية.
ونكّصت الحرب من الأنشطة التدريبية والتعليمية خلال السنوات الأخيرة للأشخاص ذوي الاحتياجات الخاصة، إذ يشير "ياسر الصهباني" رئيس "نادي المستقبل الرياضي والثقافي للمعاقين حركيًّا"، في حديث لـ"خيوط"، إلى أن هناك أنشطة رياضية للمعاقين، تقام بين الحين والآخر في الشطرنج وكرة السلة والتنس، بالإضافة الى أنشطة اجتماعية تقوم بها الجمعيات والمنظمات المعنية، أغلبها تتركز في الجانب الإغاثي الإنساني.
كثير من ذوي الاحتياجات الخاصة يرون أن السكان لا يتقبلون بوجود المعاق كفرد منهم، بل إنّ العلاقةَ قائمةٌ على التمييز، فالإعاقة الجسدية باتت تشكّل فارقًا مجتمعيًّا بين الأسوياء والمعاقين.
وتحاول بعض الجمعيات والمؤسسات دمج ذوي الاحتياجات الخاصة مع غيرهم، لكن تلك المحاولات عشوائية وبسيطة وفردية، ووَفق رؤية الجمعيات وإمكاناتها، حسب حديث "ياسر الصهباني".
ويشدّد على أن عمليات الدمج تواجه صعوبات كثيرة ومتعددة، منها عوامل إدارية وعوامل ثقافية واقتصادية وتعليمية واجتماعية وأيضًا العمرانية، لافتًا إلى أن قضية الدمج تعتبر قضية شائكة ومعقدة.
وتتطلب العملية إعداد دراسة إحصائية تحليلية تشخص واقع الدمج بالشكل الصحيح، ومن ثَمّ التخطيط الاستراتيجي لذلك، وتنفيذه على مراحل زمنية مخططة.