تبرز الحرب كأهم سبب للزيادة المهولة في أعداد المتسولين في اليمن، وهذا لا يعني أن ظاهرة التسول كانت نتيجة للحرب فقط؛ إذ كانت منتشرة في مدن كثيرة من البلاد، نظرًا لتفشي ظاهرة الفساد في المؤسسات الحكومية المعنية بالرعاية الاجتماعية، وعدم تنظيم المسؤولية الاجتماعية في القطاع الخاص. إضافة إلى تضاؤل فرص العمل وتزايد معدل البطالة. أدّى ذلك إلى تدني الدخل عند المواطنين، حيث برزت طبقة من الأثرياء مقابل طبقة أخرى من المسحوقين، قذفت بهم أسباب كثيرة لامتهان التسول.
بصورة مستمرة تتزايد أعداد المتسولين يومًا بعد آخر، خصوصًا في ظل استمرار الحرب منذ ستة أعوام، حيث انخفض مستوى الدخل، وفقد عشرات الآلاف مصادر دخلهم الأساسي، جراء الانهيار الاقتصادي الذي تشهده البلاد.
ويُعدّ الفقر والبطالة أبرز سببين لتفشي ظاهرة التسول، وفي ظل التزايد الكبير لأعداد المتسولين، ظهر نوعان من المتسولين؛ الأول، من أجبرتهم الظروف الاقتصادية الصعبة التي أنتجتها الحرب، على مد أياديهم إلى الغير، أما النوع الآخر، فهم الذين جعلوا من التسول مهنة أساسية لكسب النقود.
أعداد كبيرة من المتسولين، ينتشرون على مداخل الأسواق والمساجد وجوار المطاعم، فيما تعتبر تقاطعات الشوارع الرئيسية أكثر الأماكن لتواجدهم.
ومع غياب البيانات التي تقدر عدد المتسولين في صنعاء وغيرها من المدن اليمنية، تؤكد الدكتورة سكينة هاشم، رئيسة قسم الخدمة الاجتماعية، في كلية الآداب بجامعة صنعاء لـ"خيوط"، عدم وجود أي إحصائيات أو دراسات في هذا الشأن، وبشكل خاص، منذ اندلاع الحرب في اليمن قبل ما يزيد عن خمس سنوات. وحتى الإحصائيات التي كانت متداولة قبل الحرب لم تكن دقيقة، حسبما أفادت رئيسة قسم الخدمة الاجتماعية في جامعة صنعاء.
أينما وليت وجهك في المدينة، ثمّة عشرات المتسولين، خصوصًا في الأوقات التي تزدحم فيها تقاطعات الشوارع الرئيسية.
شذى (50 سنة)، أم لأربعة أولاد، لجأت إلى التسول بعد وفاة زوجها الذي كان العائل الوحيد لها ولأولادهما. تقول شذى لـ"خيوط": "الحاجة أخرجتني وأطفالي من المنزل، لأبحث لهم عن لقمة عيش، نسد بها جوعنا". تقف شذى مع أولادها في تقاطع لأحد الشوارع الرئيسية في العاصمة صنعاء، تحت حرارة الشمس والرياح المحملة بالغبار.
شبكات للتسول
بعيدًا عن الحاجة المريرة التي تدفع الفرد إلى التسول، كفقدان عائل الأسرة، والتشرد، والإعاقة، هناك شبكات للتسول تدار من قبل محترفي هذه الظاهرة. وجد هؤلاء، التسول وسيلة سهلة للكسب السريع والمريح، حيث يدفعون بالأطفال المشرّدين لاستعطاف الناس من أجل المال. حسين، رجل طاعن في السن، يقول لـ"خيوط"، إنه يشرف على مجموعة من الأطفال يمارسون التسول، ويبرر ذلك بحمايتهم من الضياع. مع بداية كل يوم، يتجه الأطفال وفق خطة يضعها حسين، بما في ذلك أماكن التسول، وفي نهاية اليوم يلتقُون عنده ويجمعوا كل حصيلتهم، ثم يوزعها على أفراد شبكته "بالتساوي"، كما يقول.
يصف حسين الوضع الراهن لممارسة التسول بالجيّد، ذلك أن أفراد شبكته الذين يعملون لحسابه لا يتعرضون للاحتجاز، كما كانوا في السابق، مشيرًا إلى أنه كان يذهب ليتابع الإفراج عنهم، عندما كان يضبطهم أحيانًا مشروعُ مكافحة التسول.
غالبية اليمنيين ينظرون للمتسولين بعيون العطف والرحمة، خصوصًا مع صعوبة الأوضاع وقسوتها، التي ضاعفت أعدادهم بشكل ملحوظ، خاصة في زمن الحرب الدائرة في البلاد. لكنهم لا يدركون أن محترفي التسول يستغلون براءة الأطفال في هذه الظاهرة الاجتماعية الخطيرة. فهم يحددون للأطفال الأماكن المناسبة للتسول، ومنها أمام شركات الصرافة والتحويلات المالية، وأسواق القات، وجوار المطاعم، والبقالات الكبيرة، وبالطبع، تقاطعات الشوارع الرئيسية، سيما في أوقات ذروة الازدحام المروري.
فتيات متسولات
فادية (اسم مستعار) فتاة عشرينية، تتسول في أحد أسواق القات في صنعاء، قالت لـ"خيوط"، إنها تأتي يوميًّا لتتسول في السوق، ومعها قرابة 10 فتيات أخريات، بعضهن قريباتها، وأخريات من بنات جيرانهم.
تضيف فادية أنهن يتجهن كل يوم عند الساعة الـ11 صباحًا إلى السوق كي يتسولن، إما نقودًا أو أغصان قات، ثم يغادرن السوق عند الرابعة عصرًا، بعد أن تتضاءل حركة السوق. وعن سبب خروجهن للتسول، تقول فادية، أن والدها معاق، أما الأخريات، فبعضهن بلا عائل، وقد لجأن إلى التسول كوسيلة لتوفير مصاريف عائلاتهن.
كثير من مدمني التسول، يعتبرونه وسيلة سهلة للكسب السريع، وصاروا يجيدون أساليب التمثيل والتظاهر بأنهم من ذوي العاهات الجسدية، وباحترافية عالية يؤدّون دور المصاب بعاهة
رأي علم الاجتماع
تقول الأخصائية الاجتماعية فاتن سمير لـ"خيوط": "إن لظاهرة التسول أضرارًا سلبية متعددة على المتسول وعلى المجتمع على حدّ سواء". وإلى ذلك، تؤكد على شدة الضرر الشخصي والاجتماعي بالنسبة للفتيات المتسولات في سن الشباب، حيث يتعرضن للتحرش بنوعيه اللفظي والجسدي.
وتضيف أن غالبية الفتيات المتسولات يكتسبن ما وصفتها بـ"الأساليب السوقية" غير المرغوبة في المجتمع اليمني، من أجل الحصول على المال، كما أنهن يتعودن على مضغ القات من التسول. وتشدّد الأخصائية الاجتماعية، على ضرورة قيام "السلطات المعنية" "بتأسيس مراكز إيواء، وإقامة برامج إعادة تأهيل للفتيات المتسولات، والاستفادة من قدراتهن، لما فيه مصلحتهن ومصالح عائلاتهن، ثم إعادة دمجهن في المجتمع".
وترى فاتن أن الحرب فاقمت الوضع المعيشي المتردي في اليمن، وأنتجت الآلاف من المتسولين، خصوصًا من الأطفال والفتيات، بينما تخلّت كثير من الأسر عن تعليم أطفالها؛ نتيجة لسوء الأوضاع المعيشية التي تمر بها.
اختفاء مشروع المكافحة
كثير من مدمني التسول، اعتبروه وسيلة سهلة للكسب السريع، وصاروا يُجيدون أساليب التمثيل والتظاهر بأنهم من ذوي العاهات الجسدية، وباحترافية عالية يؤدّون دور المصاب بعاهة، أو يحملون أطفالًا يدّعون إصابتهم بأمراض مزمنة، أو بأن لديهم عاهات، وذلك لكسب عطف المحسنين عليهم. هذا النوع من المتسولين لديهم أماكن معينة لعرض حالاتهم، كالمساجد والجولات الرئيسية داخل المدن.
في قانون الجرائم والعقوبات اليمني، خُصّص الباب السابع من القانون لتجريم التسول، حيث نصت المادة 203: "يعاقب بالحبس مدة لا تزيد عن ستة أشهر من اعتاد ممارسة التسول في أي مكان إذا كان لديه أو في إمكانه الحصول على وسائل مشروعة للتعيش، وتكون العقوبة الحبس الذي لا يزيد عن سنة إذا رافق الفعل التهديد أو ادعاء عاهة أو اصطحاب طفل صغير".
لكنه نصّ قانوني مع وقف العقوبات، حتى عندما كان هناك مشروعٌ لمكافحة التسول. وهو المشروع الذي أنشأته أمانة العاصمة صنعاء في العام 1999، بمنطقة "صَرِف" شرق صنعاء، لمكافحة التسول وتأهيل المتسولين. أغلق المشروع أبوابه في العام 2012، وفي حين كان من المفترض أن يكون مركزًا لإيواء وتأهيل المتسولين، كان مركزًا للمختلين نفسيًّا طيلة فترة عمله.
خديجة (اسم مستعار) تمتهن التسول منذ سنوات، تذكر في حديثها لـ"خيوط"، أن الفريق الذي كان تابعًا لمشروع مكافحة التسول، عادةً ما كان يقوم بالنزول الميداني يوم الخميس، لكثرة تواجد المتسولين في الشوارع حينها. وتضيف أن فريق المشروع كان يلقي القبض على مجموعة من المتسولين، وخلال ساعات كان يتم الإفراج عنهم، وأحيانًا يطلق سراحهم قبل أن يصلوا مقر المشروع، مقابل مبالغ معينة. وتؤكد خديجة أن إحدى تلك الفرق اعترضتها مرتين، لكنها تعهدت بعدم ممارسة التسول مجدَّدًا، ودفعت مبلغًا ماليًّا مقابل إطلاق سراحها. كان ذلك عندما كانت الأوضاع شبه مستقرة إلى حدٍّ ما، أما الآن، فقد وسّعت الحرب ظاهرة التسول أكثر مما يمكن تصوره، وما من "سلطات معنية" تتكفل بإطعام الجياع، وتكافح التسول.