نفهم من التقديم المقتضب الذي صَدَّرَ به الدكتور أبوبكر السقاف، سنة 1988، الطبعة الأولى من كتابه المهم: الجمهورية بين السلطنة والقبيلة في اليمن الشمالي، بأنه كان قد جَمع حصيلة تحليلية دسمة لا تعوزها المنهجية بعد سلسلة نقاشات مُعَمَّقة حول شروط التطور الاجتماعي في اليمن الشمالي السابق وسياقه التاريخي، للوقوف على كُنه تلك الجمهورية التي جاءت بها ثورة سبتمبر/ أيلول 1962. ومن بين النخبة المثقفة التي شاركته النقاشات، لم نتوصل، للأسف، باسم أيّ منها عدا الدكتور السقاف نفسه، الذي، وكما قال، كان ذلك الشخص الواحد الذي أعاد بلورتها وصياغتها بشكل متسق من ناحيتي الأسلوب والمصطلح، فأفرغها في 205 صفحات، ونشرها في كتاب باسم شخصية وهمية؛ هي الدكتور محمد عبدالسلام، عن شركة الأمل للطباعة والنشر والتوزيع بمصر.
أصدر الدكتور السقاف، مؤخرًا، طبعة ثانية للكتاب، لكن باسمه الحقيقي هذه المرة، دون أن يجري أي تغييرات أو إضافات على طبعته الأولى، رغم مرور 32 سنة كانت حافلة بتحولات تاريخية هائلة على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية. ومن المذهل حقًّا أن يحافظ مُؤَلَّـفٌ ما، كُتب في زمن الحرب الباردة، على أهمية قراءته في الوقت الحاضر، وبشكل، ربما، أكثر إلحاحًا من ذي قبل، في عصر النيوليبرالية والعولمة والشركات متعددة الجنسيات.
فرغم الاختلاف الكلي في استراتيجية الصراع حول العالم، بعد زوال الاتحاد السوفيتي وانفراد الولايات المتحدة بقيادة العالم، والتأثير البالغ لثورة المعلومات الرقمية والإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وما شهدته خارطة العالم السياسية من تلاشٍ واستحداث في حدود الدول، لا يزال كتاب الدكتور السقاف، كما سنكتشف، قادرًا على تفسير ظواهر جديدة في بداية العقد الثالث من الألفية الثالثة، كانت قد أنتجت شروطَها تلك التحولات في أشكال الصراع الإنساني المنعكس في قضايا إشكالية، كالهُويّات والأقليّات والعنصرية والتطرف والانقسامات الدينية والطائفية والعرقية، وتصاعد موجات اليمين واليسار الشعبَويِّين.
إنَّ قراءتنا للطبعة الجديدة/ القديمة، تجعلنا نُقدّر للكتاب قيمةً أعلى بكثير من مجرد الحفاظ على حقوق المؤلف الفكرية، كما قد يُفهم من الأسطر القليلة، التي قَدَّم بها الطبعة الجديدة، تحت إلحاح أصدقائه الحريصين على عدم ضياع حقه المعنوي، على الأقل، في ذلك المجهود الجبّار. وسنحاول معًا إعادة إنتاج قراءة مختلفة للكتاب تساعدنا، ليس على تصفح الكتاب فقط، بل على فَهم موضوعاته واستيعاب منهجيته في تحليل أنساق التطور الاجتماعي اليمني المتشابكة، والبعيدة كل البعد عن المثالية الساكنة والرومنسيات الحالمة التي تجاوزها الواقع بحركته التي لا تتوقف.
اعتدنا من الدكتور السقاف أن يأتينا بمواقفه القوية متسقة وتحليلاته النقدية وبلغته البارعة في تمثيل أفكاره وانفعالاته بشجاعة. بَيد أنه اضطر للتخفي باسم مستعار عند إصدار الطبعة الأولى بسبب القبضة الأمنية والعسكرية والقبلية والدينية، التي، وفي تماهٍ سلطوي مدهش، كانت قد أتمت بسط هيمنتها بنجاح على العقد الأخير مما كان يُسمى بالجمهورية العربية اليمنية. ولم يسلم الرجل رغم ذلك - مثلما لم يسلم معظم مثقفي التيارات اليسارية والقومية- من المضايقات والممارسات القمعية، بسبب هذا الكتاب أو غيره من الإصدارات والإنتاجات الفكرية والإبداعية، على ندرتها، التي كانت تثير، بتقدميتها وحداثتها، القلق لدى تحالف السلطة المحافظ، وجهازها الأمني المتغلغل في الحياة الاجتماعية والسياسية وفي مرافق الوظيفة العامة. ولا يزال من وعوا ثمانينات القرن العشرين الفائت، يتذكرون جيّدًا ذلك الاشتراط المتعلق بضرورة استيفاء ملفات الالتحاق بالقطاع العام، وهو تَلَقِّي أسماء المتقدمين لشغر الوظائف ضوءًا أخضر من جهاز الأمن الوطني- سيِّئ الذكر.
كان النظام المحافظ يعبئ المجتمع، آنذاك، ويربي أفراده على ممارسة أمنية تكرس سطوة أقطاب المركز في "اليمن الأعلى" وأتباعهم، وهيمنة ثقافتهم التي عُمد إلى فرضها وترسيخها في الوعي، بشتى الطرق، كنقطة مرجعية لا يحق لليمنيين مناقشتها أو الانحراف عنها، بغض النظر عن كونها قامت على إلغاء صارخ للآخرين، دون مراعاة التنوع الثقافي القابل للتناغم بين أنداد متكافئين، بحقوق مواطنة متساوية في بلد كان عليه أن يسع الجميع.
يعزز الاستبداد والهيمنة كلٌّ منهما الآخر، حدَّ الترادف. لنعرج على رؤية المفكر الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، للعلاقة التي أرادتها بريطانيا العظمى مع مصر لتمرير مصالحها: "مركز استعماري متحضر وأطراف متخلفة". إذ قررت الدولة الاستعمارية الكبرى أن الشعب المصري بحاجة إلى الوصاية والتحديث، وأنها ستقوم بهذا دونما حاجة إلى أن يطلب منها المصريون ذلك. رأت مصر بعيونها، وقررت لها ما تراه مناسبًا، وعلى مصر الموافقة والامتنان على الخير الذي ستحمله إليها! تمامًا كالخبير الدولي والمرأة القروية ودجاجاتها، في كتاب "أبناء الأيام" لجاليانو.
تمرر الهيمنة نفسها وتغلف مطامعها التوسعية بمبررات إنسانية تتنقل مع حركة جيوشها وأساطيلها وشركاتها التجارية، حول العالم. وتستطيع سلطات الأمر الواقع، بالغلبة، تزييفَ الوعي على المدى الطويل وصناعة ما أسماه جرامشي بالحس العام، الذي يؤمّن للهيمنة الثقافية بيئة خصبة، تؤدي إلى أن يعمل الناس ضد مصالحهم. فيتوهمون حول ذلك الحس العام، هُوية لا تمثل مصالحهم أو تعبر عن حقيقتهم. يحدث، أولًا، استبعاد المختلف وإقصاؤه من المركز، الذي سيصبح مقدّسًا كالشمس؛ تدور في فلكه الكواكب بمدارات تراتبية غير متساوية، على النحو الذي أصبح راسخًا في الأذهان -الآن- بعد ممارسة ثقافية متراكمة، نجحت في تسويق هيمنة أقطاب "اليمن الأعلى"، وما تنطوي عليه من استبداد. فإما والحيلة انطلت على الناس، أو أن حالة ضعفهم أو مزاجهم المسالم -دون إغفال عوامل خنوعهم الذاتية- قد أوجدا في نفوسهم ما يدعوهم بحسب التعبير الشعبي إلى "تَقَرُّص العافية" حفظًا لماء الوجه من إحراجات المواجهة التي لا قبل لهم بها.
مارس علية القوم في "اليمن الأعلى" مقدارًا عاليًّا من الهيمنة الثقافية؛ مستبدين بالسياسة والاقتصاد، ومتسببين في حرف مسار التطور الاجتماعي، وعرقلة تشكّل أي طبقات على أساس علاقات العمل والإنتاج
يشير الدكتور السقاف بوضوح إلى حقيقة تقسيم سلطة اليمن الشمالي السابق لمواطنيه إلى ثلاث درجات، أرفعها درجة أهالي شمال الشمال ثم جنوبه، وفي أدناها أهالي اليمن الجنوبي السابق. ويجادل بجدارة على ضرورة إسقاط أقنعة الوعي الزائف، الذي يضاعف، منذ وقت طويل، حمولة معوقات التطور الاجتماعي في اليمن. وحين يختار مفكر ماركسي عتيد، كالدكتور السقاف، ألّا يصمت، فذلك لن يعني بالنسبة إليه، على الإطلاق، الدعوةَ إلى تقوقع مناطق "الأطراف" في شكل مستقل (ساكن) ودخولها صراعًا حدّيًّا على الهوية مع يمني آخر في المركز- كما قد يُساء فَهم الأمر أو تزييفه.
كما أنَّ ذلك لا يعني أيضًا، رفض الاشتراك في تأسيس مرجعية مركزية واحدة يلتئم بها الجميع. فمؤدّى إسقاط الأقنعة، من قراءتنا بين سطور الكتاب، ودون عناء يذكر في فهمه: المطالبة بعدم الاحتكار الثقافي لذلك المركز، الذي يفترض به قَبول التنوع في الإطار الواحد، دونما هيمنة لمنطقة بعينها، بثقافتها ورؤيتها وتعريفاتها للأشياء على آخرين، جرى غَلبُهم ومعاملتهم بتمييز ودونية (لا يخلوان من تهكم وتنمر، ينطويان على قمع واستبداد)، ومعاقبتهم على مجرد اختلافهم الطبيعي (الذي وُلِدوا به)، وثقافتهم المكتسبة في سياق وجودهم الاجتماعي - بغض النظر عن درجة تطور ذلك الوجود.
ننوع على هامش متن الدكتور السقاف باستكشاف خطابات الهيمنة الثقافية، وما يتواءم وحالتنا اليمنية من مقولات مفكري المدارس الثقافية المناوئة للإمبريالية وكافة أشكال الهيمنة والاستبداد والممارسات السلطوية القمعية. إذ تورد الدكتورة يمنى طريف في كتابها الصغير، ركائز الفلسفة السياسية عن الناشطة النسوية ماك كلينتوك مقولتي: الزمان المنطوي على مفارقة مكانية، والمكان المنطوي على مفارقة زمانية. فنستدل بالأولى على قيام محتكري المركز من أقطاب "اليمن الأعلى" بتمثيل تاريخ اليمن بأسره، قياسًا بمنطقتهم وثقافتهم حصرًا. ذلك أن تلك القلة تُظهِر التاريخ اليمني، وما أنجزته المناطق اليمنية الأخرى بصورة مشوهة، تسفّه فيها خصوصيتها الثقافية والبيئية وبُناها الاجتماعية؛ فيصبح التاريخ اليمني ما أنجزته ثقافة وبيئة "اليمن الأعلى" وحده.
أما دلالة المقولة الثانية، فتكمن في الحق الحصري لكبراء "اليمن الأعلى" (أصحاب فكرة جمهورية عيال الناس) برؤية الآخرين خارج المكان المتحضّر الذي هم فيه، والحكم بأنهم يفتقدون التقاليد. وللمفارقة فالتحضر والرقيّ، اللذَين يرى البعض نفسه عليهما، ليس فيهما بالضرورة ما يُلزم الآخرين على اعتبارهما أكثر من مجرد تراث وأصالة، جرى توظيفهما في منظومة قيم تؤمن مصالح أصحابها، وتجعلهم يستميتون في قسر الآخرين عليها، وتبني تشكيلةً من التقاليد لم تعد تخصهم البتة، كالحفاظ على التركيبة الاجتماعية البالية، وأعراف القبيلة وثقافتها ومعياريتها؛ دون المساس بمركزية "اليمن الأعلى" الموروثة من زمن المملكة المتوكلية، التي كانت في تحالف وثيق وأقطابه، قبل أن تفترق المصالح وتبلغ التناقضات حد التناحر، كما يجادل الدكتور السقاف في الفصل الأول من الكتاب.
اختنق أفقنا العروبي بغياب المشروع المستقل عن الهيمنة الغربية والمؤسسات الأممية والرأسمالية الجديدة وشركاتها العملاقة العابرة للحدود والمحيطات، في الوقت الذي اتجهت أمم أخرى إلى استعادة صلابتها والتوسع في مناطقنا الحيوية، للوصول إلى نقاط توازن استراتيجية، معقولة، في مواجهة تلك الهيمنة
سنتساءل، إن جاز التعبير: هل نحن أمام "استشراق بلدي"؟ يبدو الأمر كذلك؛ إذ مارس علية القوم في "اليمن الأعلى" مقدارًا عاليًّا من الهيمنة الثقافية؛ مستبدين بالسياسة والاقتصاد، ومتسببين في حرف مسار التطور الاجتماعي، وعرقلة تشكّل أي طبقات على أساس علاقات العمل والإنتاج. فوضعوا المجتمع كله في حالة تأهّب للانقسام العمودي، وخوض الصراعات الحدية، والتّفتت على الهُويات والمشاريع متناهية الصغر. وها نحن في وقتنا الحاضر، نواجه خطر التمزق على مستوى القطر الواحد، وسطَ الغبار الذي خلّفته تبعيتنا الشديدة، كأقطار عربية، لمشاريع الآخرين في صراعاتهم التي يقتصر فيها بعضنا على لعب دور الشرطي أو المقاول مع هذا الطرف أو ذاك. ومن هنا تتكشف أمامنا مخاوف الراحل الأستاذ أحمد قاسم دماج، في حواره المهم، مع صحيفة الشارع عام 2007. إذ يصرح، وهو المثقف الجهبذ، والمناضل السبتمبري الجسور، بما يفيد تفضيله أن يُعَد وحدويًّا شعبويًّا على أن يكون نخبويًّا انفصاليًّا، أو "مش انفصالي بس يحترمهم". علينا في هذا الصدد، فَهمَ المرتكزات التي يستند عليها موقف الأستاذ أحمد، الوحدويّ. إذ، وبنظرة تحليلية بسيطة لموقعه القطري (اليمني) وأفقه العروبي والمدى الإنساني الواسع، الذي ينحاز فيه لطبقة الكادحين من الضعفاء والمحرومين - بغض النظر عن هوياتهم وعرقياتهم- سنفهم أنه لا يتخذ من الوحدة ذلك المثال المتعالي، الذي قد نتخيله، على حبه وولعه الشديدين بها.
ولمؤسس الحزب الاشتراكي اليمني، عبد الفتاح إسماعيل، تعقيبًا قديمًا، غاية في الأهمية، على تضارب رؤى قيادة الجبهة القومية للعلاقة بين الجنوب والشمال والوحدة بين الشطرين. إذ ذهب البعض إلى ضرورة تحقيق الوحدة بالقوة، واقترح البعض الآخر التركيز، فقط، على استكمال بناء اشتراكية اليمن الجنوبي، والذهاب إلى طريق الأممية مباشرة، خصوصًا مع صعوبة تحقيق الشمال الرجعي لمعايير الوحدة، وانسداد الأفق العروبي بسبب الجوار الدائر في فلك الإمبريالية. فكان تعقيبه لاذعًا للطرفين؛ إذ يستندان إلى مواقف مثالية ساكنة، لا تراعي العلاقة الجدلية التي تبتدئ بتهيئة التحولات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية اللازمة لاستكمال إنتاج الهُوية اليمنية الحديثة في طريق الوحدة الطوعية. وعبر الضغط (الضغط فقط) على نظام صنعاء بتنظيمات الجبهة المسلحة، ليس للإطاحة بنظام صنعاء أو احتلال اليمن الشمالي، بل لاستكمال تلك التحولات، والقيام بالإصلاحات الضرورية داخل النظام نفسه. فالأممية إنما تؤطر مصالح الشعوب في مواجهة الإمبريالية، وليست هوية مركزية، بذاتها، تُحيل هُويات الشعوب الوطنية بآفاقها القومية إلى الصفر.
اختنق أفقنا العروبي بغياب المشروع المستقل عن الهيمنة الغربية والمؤسسات الأممية والرأسمالية الجديدة وشركاتها العملاقة العابرة للحدود والمحيطات، في الوقت الذي اتجهت أمم أخرى إلى استعادة صلابتها والتوسع في مناطقنا الحيوية، للوصول إلى نقاط توازن استراتيجية، معقولة، في مواجهة تلك الهيمنة التي استفحلت، بعد تلاشي ما كان يوفره الاتحاد السوفيتي السابق من توازن في هذا العالم الذي صار فاقدًا للعقل. لا بأس بالتذكير قبل مغادرة هذه النقطة، بأنَّ الانقسام العمودي (وليس الطبقي) يأتي على شكل صراع هويّاتي ساكن، يمكن تمثيله في علاقة خطيّة (رقميّة) على أساس الصفر والواحد. طرف يجد في نفسه الغيرية، كرقم صحيح، لا يحافظ على قيمته إلا بإحالة الآخر إلى الصفر، بخوض صراع حدّي ضده، وبعد أن يكون قد حمله كل شرور العالم. فتنتهي المعركة بانقسام هوياتي وَفقًا للمنطق الأرسطي، وهكذا دواليك حتى التَّفتت. وللمرحوم سلامة كيلة كلامٌ مفيدٌ حول ذلك، بكتابه "تفكيك العقل الأحادي" في معرض نقده لليسار، بعد سقوط الاتحاد السوفيتي. فالشعور بالغيرية، والأفكار الثقافية المتعالية يهيّئان ظروفًا مستمرة لتكرار الانقسامات العمودية، القائمة على العصبية والجهوية والمناطقية والطائفية، خصوصًا مع تعذر تشكل طبقة برجوازية وطنية مستقلة، تحمل صفات ثورية، بحسب ما أوضحه الدكتور السقاف في الفصل الأول من الكتاب.
غير بعيد عن مخاوف الأستاذ أحمد؛ لنتنبه إلى ذلك التمييز المهم، في الفصل الثاني، الذي يفرّق به الدكتور السقاف بين حكم المركز، الذي اتصف به النظام الجمهوري الشمالي، وبين الحكم المركزي القوي الذي لم يكن ينتمي إلى أيٍّ من أشكاله. إذ كان نظامًا يمارس السياسة والحكم بطريقة عجائبية، ضمن بها هيمنة المركز وتدفُّق مصالح أقطابه وحلفائهم، من تجار وبرجوازيي "الرأسمالية التابعة"؛ إضافة إلى أتباعهم من القوى التقليدية في باقي المناطق الذين حاول بهم ستر عورة الطائفية والعصبويات ما دون الوطنية.
من نافلة القول التأكيد على صعوبة تخلص الاقتصاد اليمني الشمالي، والبيوت التجارية، من تبعيته للاقتصاد العالمي، الذي كانت، ولاتزال، ترعى مصالحه دول الجوار النفطية. يناقش الدكتور السقاف في الفصل الثالث تلك التبعية، ويقوم بتحليل معمق للمؤشرات الاقتصادية الكلية، وينبّه إلى تآكل مساهمة القطاع الزراعي وتردّي وضعه، وهو القطاع الذي كان أكثر تأهيلًا، في حال تم الاهتمام بتنميته؛ لإخراج الاقتصاد من حالة التبعية المزدوجة. يتطرق كذلك إلى علاقة أقطاب السلطنة بالطبقة البرجوازية والبيوت التجارية المستحوذة على مشاريع القطاع الخاص، كَمُسَيّر على قدرة عالية من التنظيم والتأهيل، أُخليت أمامه الساحة، وهُيِّئت له التشريعات المحابية مقابل التسهيلات التي يدفعها هنا أو هناك، وإلى حين استكمال أولاد المشائخ والمتنفذين تأهيلهم الذي سيسمح لهم لاحقًا، منافسة تلك البيوت التجارية التقليدية في مجالاتها الحيوية.
لنتوقف قليلًا عند البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي أرسى بها أول ملوك المتوكلية اليمنية، يحيى حميد الدين، سلطته، وانتقلت من بعده وممارساته، إلى العهد الجمهوري. فبعد مغادرة الأتراك، وحفاظًا على سلطته المطلقة على كامل جغرافيا شمال اليمن المنقسمة بين مذهبين، أحدهما لا يمنحه أي سلطة روحية، ظلت المملكة المتوكلية تعتبر أهالي المناطق الشافعية كفارَ تأويل؛ فتعاملت معهم كرعايا من الدرجة الثانية، وتم إقصاؤهم من وظائف الدولة والجيش، وفُرضت عليهم جبايات قاسية؛ استُعمِل واختُطَّ في تحصيلها، يمنيون مثلهم من قبائل المركز في الهضبة الشمالية. وليس بغريب تاليًا، أن زيفت تلكم الجمهورية أمرًا شائنًا، كتخابر أفراد المجتمع، بعضهم على بعض، وجعلت منه مهمة وطنية بالإحالة إلى مفاهيم الوطن والمواطنة والجمهورية، التي كان يجري تحريف معاييرها وإفراغها من مضامينها الأصلية، منذ انقلاب نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، الذي صارت من بعده الدولة أشبه ما تكون بالسلطنة- قبل أن يمتد هذا كله، وينسحب إلى دولة الوحدة، مع انتصار أقطاب المركز المقدس في حرب 1994.
إنما؛ وقبل الوحدة بسنتين، وبعد نكسة اليسار "المخجلة" في يناير/ كانون الثاني 1986، كان على الدكتور السقاف، دق ناقوس الخطر في آذان ما تبقى من اليسار في اليمن الجنوبي السابق، وفكّ أسرار تلك العجائبية السياسية للمثقفين اليمنيين عمومًا، وكشف ما وراءها من بُنى اجتماعية متخلفة، ومؤثرات ومحددات اقتصادية وسياسية وحتى ثقافية ومناطقية. وكل ذلك كان تحت وطأة السؤال الذي ظل حائرًا في الوعي الوطني بلا جواب: "لماذا لا يتمتع جميع (أهالي) اليمن الشمالي حتى الآن، بحقوق مواطنة متساوية؟ أو بمعنى آخر: لماذا لم يستقر مفهوم المواطنة بدلًا من مفهوم الانتماء القبلي، على الرغم من مرور خمس وعشرين سنة من ثورة سبتمبر/ أيلول 62؟".