يقول الله عز وجل: {إن شر الدواب عند الله الصم البكم الذين لا يعقلون} [سورة الأنفال: 22]. وأسارع إلى القول إنه مهما كان سبب نزول هذه الآية الكريمة، فإن عموميتها لا يجوز أن تخطئها العين: دعوة صريحة واضحة لا تحتمل- حسب زعمي- أكثر من تفسير واحد: الالتزام بالعقل، التحذير من إلغاء العقل، التحذير من تجهيل العقل...، وإن لم، فالمآل هو الوقوع في مستنقع شر الدواب. لاحظ: "شر الدواب"، وليس شر البشر! وما الذي يتوقعه المرء من شر الدواب؟ طبعاً نحن أمام معضلة تعريف "شر الدواب". وعلى الرغم من أن تعريفه ليس بالأمر السهل، فدعني أعقد صفقة مع القارئ الكريم نتفق فيها على أن شر الدواب هي تلك المخلوقات التي ليس فقط لا يمكن أن يصدر عنها أي خير، بل وليس بمقدورها إلا إنتاج الشر الصرف.
على ضوء هذه الحقيقة، أو بالأصح ما أعده أنا حقيقة، يرفض العقل أي تمذهب، يرفض الالتزام بأي مذهب ديني- ويسري هذا المبدأ على المدارس والاتجاهات الفلسفية والاجتماعية وغيرها. ولكنا هنا نتطرق للبعد الديني للمبدأ المذكور– مع الاحترام لكل أولئك الأئمة من كل الاتجاهات الدينية، ولمن يتبعهم.
غير أنه، لتحقق هذا المبدأ العام؛ أي الالتزام بالعقل، ينبغي توفير شروط وعوامل رئيسية حتى ينشط العقل بالصورة المطلوبة. ولعل أهم شرط هو تغذية العقل بالمعرفة، بالعلم. وأكاد أجزم بأن أحد الأسباب الرئيسية، إن لم يكن هو السبب الأول للتمذهب، هو غياب التعليم أو ضعفه الشديد بين الجمهور، ولذلك اقتصرت المعرفة على فئة محدودة من العائلات تتوارث الاطلاع على المعرفة وتعلمها. أما بقية الجمهور فيظل غائبًا مغيبًا عن شؤون المعرفة. والحقيقة أنه مع التقدير الكبير لتلك العقول التي أضحى أصحابها أئمة للمذاهب والجماعات المعروفة، سنة وشيعة وخوارج، التي لربما جرت المبالغة في قدرات بعض أصحابها – كالقول بأن فلانًا من الأئمة كان بمجرد النظر إلى الصفحة المكتوبة يحفظها عن ظهر قلب، وكأنه كان يصورها في تلافيف مخّه– فإن الأمية المنتشرة التي تَسِم الأغلبية العظمى من الشعب كانت هي العامل الحاسم في تبعية الجماعات خلف هذا أو ذاك ممن أصبحوا "أئمة". ولأن تلك الجماعات كانت منتظمة في جماعات قبلية، مناطقية، قروية، وهلم جرًّا... فكان يكفي أن يقف زعيم الجماعة المعنية خلف "الإمام" حتى تتبعه جماعته في اعتناقها لما يصبح بعدئذ مذهبًا.
أدركت الزعامات والأنظمة الفاسدة للشعوب، أهمية التعليم لعلاقته الحميمة بإيقاظ العقل وتنميته، فوقفت في وجه أية خطوة باتجاه إشاعة التعليم عن طريق إنشاء المدارس الحديثة
هذه الآلية الاجتماعية في الاعتناق، وكذا في الرفض أو الخروج من المذهب أو من الدين المعني، كانت سارية لدينا، وأظن أنها تشمل كل المجتمعات التي تسودها الأمية وتغييب العقل فيها. ولنا في الطريقة التي كان يجري بها اعتناق العرب لدين الإسلام مادة غنية تبرهن على الآلية الاجتماعية المذكورة هنا، سواء في اعتناق الإسلام، أم في رفضه والخروج منه كما هو في حالة "الردة".
ولأن هذه الآلية الاجتماعية في التعامل مع الدين، والفكر عمومًا، كانت هي السائدة في المجتمعات التقليدية، فقد حان وقت أدركت فيه قيادات الشعوب التي تمتلك مشروعاً نهضويًّا لبلدانها، أنه لا انعتاق من هذه الآلية إلا بالتعليم في المدرسة الحديثة. وقد ترافق ذلك مع مشروع بناء الدولة الحديثة في أوروبا منذ القرن السادس عشر.
من جهة أخرى، أدركت الزعامات والأنظمة الفاسدة للشعوب، أهمية التعليم لعلاقته الحميمة بإيقاظ العقل وتنميته، فوقفت في وجه أية خطوة باتجاه إشاعة التعليم عن طريق إنشاء المدارس الحديثة. ومن بين تلك الزعامات والأنظمة الفاسدة يأتي نظام "الأئمة" –غير المأسوف عليه أبدًا– مدركًا وبوعي عميق، حقيقة أهمية التعليم كشرط أساسي لتحرر العقل بتغذيته بالمعرفة العلمية حتى يتأهل ويقوى على القيام بوظيفته السامية النبيلة، ومن ثم ضد وجود ذلك النظام برمته.
إن تسليط ضوء بسيط على التعليم ومكانته لدى "الإمامة" في آخر عهدها يكشف، أو على الأقل يسهم في الكشف عن العقلية المرعبة لدى نظام "الإمامة" في تعاملها مع العقل عن طريق التعليم. أورد هنا الشيء اليسير جدًّا من وقائع مدى اهتمام "الأئمة" بالتعليم، ولو أنه في الحقيقة لا ينبغي القول: "مدى الاهتمام بالتعليم" وإنما "مدى محاربة الاهتمام بالتعليم"، مدى سعي "الإمامة" الممنهج في محاربة التعليم ونشره بين أوساط الشعب اليمني. ففي ترجمةٍ أحمد محمد زبارة (مفتي الجمهورية) يذكر إسماعيل الأكوع أنه في رسالة موجهة إلى الشهيد محمد محمود الزبيري ينصحه فيها بأن "لا يجرّهم (يجر الأحرار) خيالهم للتفكير بالقضاء على الإمام (أحمد)، فإن القبائل ستثور عليهم وتقضي عليهم قضاء مبرمًا، وأن من الأوفق لهم أن لا يسعوا إلى تحسين وضع القبائل وتعليمهم وإدخال الوسائل الحديثة لإسعاد أهل اليمن من بناء مدارس ومستشفيات وطرقات. وأن لا حاجة لهم من التعليم غير معرفة فروض العبادة، وأن الأولى والأجدر بالقبيلي أن يبقى فلاحًا، فلا يحتاج إلى نعال ولا إلى ملابس ولا إلى علاج، بل يجب أن يستمر في جهالته وشقائه وبؤسه ومرضه بجوار ثوره ومحراثه وماشيته" (إسماعيل الأكوع: هجر العلم، ج2/604).
على أن لا يظن القارئ أن تحريض زبارة هذا على ضرورة استمرار تجهيل القبائل وبقائهم في شقائهم هو حالة فردية شاردة من "عندياته" فقط؛ لا! هذا التحريض لـ"الإمامة"، وبالذات لـ"الإمامين" يحيى وابنه أحمد، نجده في أكثر من واقعة؛ منها – وغيرها مما يذكره إسماعيل الأكوع في "هجر العلم"– أن الحسن بن الإمام يحيى بعد أن ولّاه والده إمارة لواء إب، زار بلدة النادرة مركز قضاء النادرة، في عام 1357هـ، فأراد عاملها يحيى بن حسين الهجوة (الكبسي) أن يدخل السرور إلى قلب الحسن بنشر التعليم في الأرياف وأنه قد أنشأ صندوقاً للتبرعات...، وأنه قد أنشأ مكتبًا في قرية دار سعيد في عزلة الزعلاء وطلب من الحسن زيارته. وكان القاضي عبدالرحمن الإرياني حاكم النادرة آنذاك قد نظم أبياتًا شعرية يلقيها طلاب المكتب ترحيبًا بالحسن الذي اغتم لما شاهده من براعة الطلاب وسرعة فهمهم وحسن انتظامهم وفصاحتهم. وكان أن استأذن القاضي عبدالرحمن من الحسن للسفر إلى بلدته (إريان) لقضاء شهر رمضان هناك، ولكن ما أن وصل إلى بلدته حتى استدعاه الحسن للحضور إلى إب. عاد القاضي ظناً منه أن في الأمر شيئًا مهمًّا، فلما دخل عليه قال له: "ابسروا (انظروا) يا قاضي عبدالرحمن على جوادة في الصنو يحيى الهجوة، يشتي ينشر العلم بين القبائل، ولم يعرف خطورة هذا عليكم إذا تعلموا وأخرج كل واحد قلمه من قفا عسيبه، والله ليْخلّي مربض كل واحد منكم شبر..." (الأكوع 1995: 1671.(
إذن، كان العمل على إلغاء عقل اليمنيين وتغييبه سياسة ممنهجة ثابتة، وليست، كما يحلو لنا الاعتقاد، بأنها تعبير عن جهل "الإمامة". ثم نصادف اليوم من يثني على "السياسة التعليمية" بإنشاء "مدرسة الأيتام" و"المدرسة العلمية".