بعد ثلاثة أشهر من التوجس والقلق، تعود الحياة تدريجياً لطبيعتها، وإن بحذر، بعد رفع تدريجي، خصوصاً في صنعاء، للإجراءات التي اتُخذت في سبيل محاربة فيروس كورونا. ومع ملاحظة انحسار الوباء، كما يشير إليه قرار رفع الإجراءات، يمكن البدء بتقييم الجهود التي بذلت وكان لها أثر في هذا الانحسار.
كان وضع النظام الصحي المتهالك هو مبعث القلق الحقيقي قبل وأثناء وصول كورونا اليمن، غير أننا اليوم لا نستطيع تجاهل الجهود التي بذلها الاطباء، لا سيما وقد علمونا أيضاً أن البشرية تستطع دوما النجاة والتغلب على المشكلات التي تواجهها، إذا هي أرادت ذلك حقاً وعملت من أجله.
في يونيو/ حزيران 2020، كتبت فتاة من محافظة عدن- ولاء كمال- في مجموعة على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك مخصصة للمساعدة في احتواء انتشار فيروس كورونا (كوفيد-19)، أن والدها أصيب بأعراض الوباء ودخل في غيبوبة ليوم كامل بسبب الحمى الشديدة، فيما كانت تسأل عن كيف يمكنها التأكد من أنه تماثل للشفاء بعد أن اعتنت به لأيام، وعما إذا كان يمكنه الخروج والاختلاط بالآخرين بعد أن تحسنت حالته، رغم أنه لايزال يشعر بالتعب ويعاني من ارتفاع في ضغط الدم يصل إلى معدلات مقلقة.
أنشأ هذه المجموعة أطباء يمنيون في الداخل والخارج، كمبادرة للمساهمة في تقديم العون أثناء هذه الفترة العصيبة. وبالعودة إلى ولاء، لم تمر دقائق حتى تلقت رداً من طبيب اسمه مالك عربي، ينصحها بمراقبة ضغط الدم عند والدها، وأن تهتم به في حال كان يعاني من أمراض أخرى. وبينما طمأنها بأن والدها قد يكون تجاوز أعراض كورونا، طلب منها مواصلة الاهتمام به كون "مضاعفات الوباء على كبار السن، تكون خطيرة في حال كانوا يعانون من أمراض أخرى".
شكلت المبادرات الطبية بارقة أمل أمام مئات الآلاف من اليمنيين، خاصة أنها جاءت بعد سنوات من النزاع المستمر الذي دمر المنظومة الصحية اليمنية الضعيفة
تقول ولاء لـ"خيوط" إنه بمجرد ظهور أعراض فيروس كورونا على والدها، نقلته بمساعدة ابن عمها إلى أحد المستشفيات القريبة، غير أن المستشفى رفض استقبال الحالة، تماماً كما رفضت مستشفيات أخرى في عدن ذهبت إليها لاحقاً في نفس اليوم. اضطرها رفض استقبال والدها في المستشفيات للعودة به إلى البيت والاهتمام به بنفسها، متّبعة برتوكول منظمة الصحة العالمية للتعامل مع المصابين، ومستفيدة من استشارات ونصائح أطباء لجأت لهم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
استطاعت ولاء إنقاذ حياة والدها، مستفيدة من مبادرات طبية "افتراضية"، وهو أمر لم تكن تتوقعه. وبحسب طبيب الباطنية والقلب في المستشفى الجمهوري بصنعاء، مروان البكري، وهو طبيب مشترك في عدد من المبادرات الطبية التي تنشط عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ فإن أغلب تلك المبادرات أنشئت بجهود فردية لأطباء في الداخل والخارج استشعروا حجم المسؤولية وحجم الخطر المتربص باليمنيين جراء الجائحة.
يقول البكري لـ"خيوط"، إن عشرات المبادرات النشطة التي ظهرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي الواقع، خلال شهري مايو/أيار ويونيو/حزيران 2020، جاءت "استجابة لحجم الخطر الذي كان يهدد الجميع"، مشيراً إلى أنها كانت فعّالة بالنظر إلى طبيعة هذا الفيروس الذي لا علاج له ولا تستطيع المنظومة الصحية اليمنية التعامل معه.
كيف جاءت الفكرة؟
قبل وصوله للبلد، أثار انتشار فيروس كورونا حول العالم هلع اليمنيين، حيث كانت خمس سنوات من الحرب قد تسبّبت في انهيار الخدمات الصحية بدرجة كبيرة. وعندما وصل الوباء تفاقم الوضع متسبباً في انهيار شبه كامل لهذا النظام الهش، حسب منظمة طبية دولية.
وجاء في تقرير لمنظمة أطباء بلا حدود، أن العديد من المستشفيات في اليمن أغلقت أبوابها خوفًا من تفشي الفيروس أو بسبب النقص في الموظفين ومعدات الوقاية الشخصية. ومنذ تسجيل أول حالة إصابة بكورونا في البلاد، توقعت بعثة المنظمة أن حجم الخسائر في الأرواح ستكون عالية، وعبرت عن خشيتها مكن أن يموت العديد من الأشخاص، بسبب أمراض يمكن الوقاية منها وعلاجها، "وذلك لأن الرعاية الصحية ليست متاحة بكل بساطة".
وفي وسط هذه المعمعة، لم يكن هناك من يخشى هذ التفشي أكثر من العاملين في القطاع الصحي. في فبراير/شباط عبر عدد من الأطباء والممرضين عن مخاوف عالية من احتمال وصول فيروس كورونا الجديد إلى البلاد، باعتبارهم الفئة الأكثر عرضة للإصابة به في حال تفشيه؛ نتيجة اختلاطهم مع المصابين، لاسيما في ظل ضعف إمكانات المنظومة الصحية.
بعد أيام من انتشار الوباء، لم يكن غريباً أن نسمع قصصاً شبيهة بقصة ولاء، حيث رفضت مستشفيات في محافظات يمنية مختلفة استقبال حالات قد تكون مصابة بالوباء، بسبب عجزها عن تقديم العون لهم، وخشيتها من انتشار العدوى بين طواقمها الطبية وموظفيها. غير أن ذلك لم يكن نهاية الحكاية، فقد بادر اطباء كثر إلى تبني حلول أخرى، كالمبادرات الافتراضية.
وشكلت المبادرات الطبية بارقة أمل أمام عدد لا يستهان به من اليمنيين، خاصة انها جاءت بعد سنوات من الحرب المستمرة، التي دمرت المنظومة الصحية اليمنية الضعيفة أصلاً، وبينما كان الخوف والقلق يستحوذ على عدد كبير من اليمنيين المعرضين لخطر الإصابة بوباء غير مرئي ولا معروف من قبل.
مبادرات افتراضية
تقول ولاء كمال إن إنقاذ والدها كان ليكون صعباً بدون ما استفادته من مبادرة "أنا طبيب.. أنا معك) التي أطلقها عشرات الأطباء اليمنيين في الداخل والخارج، منتصف مايو/أيار 2020.
تضم المبادرة اكثر من 50 طبيباً من المقيميين داخل اليمن وخارجه، وتنشط بشكل أساسي على منصة التواصل الاجتماعي "فيسبوك"، من خلال صفحة ومجموعة بنفس الاسم يتجاوز عدد متابعيها 150 ألف مشترك.
وعلى غرار أغلب المبادرات من نفس النوع، تقدم "أنا طبيب.. أنا معك" خدمات استشارية مجانية لمصابي كورونا عن طريق التواصل الإلكتروني والهاتفي، وتهدف إلى توعية المواطنين بشأن طرق الوقاية من الفيروس، في ظل الوضع الصحي المتردي الذي تشهده اليمن.
وصحيح أن أغلب المبادرات نشطت على وسائل التواصل الاجتماعي فقط، إلا أن أشكالاً مختلفة من المبادرات ظهرت على أرض الواقع. في عدن التي كانت مركزاً لتفشي الوباء، أطلق الطبيب عبدالفتاح السعيدي وزملاء له، مبادرة ميدانية باسم «أنا طبيب أنا أستطيع». قامت فكرتها على نشر أرقام الأطباء في الأحياء السكنية حتى يستطيع أي مصاب بالوباء، التواصل مع الطبيب وشرح حالته، فيما يقوم الطبيب بتزويده بالنصائح والبقاء على تواصل معه أو مع أسرته.
يقول السعيدي إن المبادرة ساعدت في علاج عدد من الحالات، لافتاً إلى أنّ المتطوعين كانوا يستعينون بكوادر أكاديمية وخبرات عالمية في مكافحة الفيروس، منهم الدكتور عمار البعداني المقيم في مدينة ووهان الصينية.
وفي صنعاء، وضع الطبيب سامي الحاج لافتة على الزجاج الخلفي لسيارته، كتب عليها "أنا طبيب، أوقفني إذا كنت تريد استشارة طبية"، كما نشر أرقام هواتفه على وسائل التواصل الاجتماعي لكل من يريد استشارة طبية.
وشوهد الطبيب الحاج، في بعض التسجيلات المرئية، وهو يقدم نصائح طبية لأناس أوقفوه في شوارع مختلفة في العاصمة صنعاء.
عيادة افتراضية
يواصل المئات من الأطباء اليمنيين منذ أكتوبر/ تشرين الأول 2018، تقديم خدمات استشارية طبية للمقيمين داخل البلد وخارجه، عبر منصة إلكترونية باسم "طبيبي"، تأسست بشكل تطوعي على يد أطباء في المهجر، منهم الطبيب مروان الغفوري، استشاري أمراض القلب والعناية المركزة في ألمانيا.
المنصة عبارة عن تطبيق يعمل على الهواتف الذكية، ويقدم خدمات لمئات المستفيدين يومياً. وقد حظي التطبيق، خلال الشهور الماضية، على شهرة واسعة، حيث ساهم انتشار فيروس كورونا في زيادة عدد مستخدميه بشكل لافت. ويقول القائمون عليه إن21 ألف مشترك يستخدمون التطبيق حالياً.
غاية التطبيق الأساسية نشر التنوير الطبي والمعرفة العلمية، وتقديم خدمة طبية استشارية، وتوعية المريض بمشاكله الصحية،. وكما يقول القائمون عليه إنه يقدم الوصايا والنصائح الممكنة في العلاج والوقاية، ولا يسمح بإجراء أي تشخيص طبي رسمي، أو علاج، أو إعطاء وصفات طبية، فهو "ليس بديلاً عن الطبيب ولا عن المستشفى، ولا عن التأمين الصحي.
وعلى الرغم من أن الفكرة جاءت كمبادرة يمنية، نتيجة للظروف القاهرة التي تعيشها البلاد، بسبب الحرب وتردي الأوضاع الصحية، إلا أن التطبيق بدأ مؤخراً في تخطي الحدود. في يونيو/ حزيران 2020، رد الأطباء على طلبات استشارة وصلت من دول مختلفة في مقدمتها اليمن، بواقع 3600 حالة، ثم مصر 673 حالة، السعودية 561 حالة، الجزائر 224 حالة، العراق 114 حالة، فضلاً عن مئات الحالات من دول أخرى.
ونشر الطبيب "الغفوري" على حسابه في "فيسبوك" مطلع يوليو/ تموز 2020، أن شهر يونيو/حزيران، شهد أكبر نسبة نشاط للتطبيق. فإلى جانب انضمام 34 طبيباً جديداً إلى قائمة المتطوعين، التي وصلت إلى 425 متطوعاً، تلقي التطبيق ستة آلاف طلب استشارة، بواقع 200 طلب في اليوم، تم توجيه العدد الأكبر منها للقسم المخصص لـ"كورونا (1107) ، حيث تناوب 138 مختصاً على تقديم الاستشارات والنصائح.
مبادرة لإنقاذ الأطباء
قدمت المبادرات الطبية حلولاً مقبولة لواحدة من أصعب الأزمات التي شهدتها اليمن، رغم الوضع المتردي، إلا أن الخطر المحدق بالعاملين في القطاع الصحي، كان لا يزال مرتفعاً، ما جعل أطباء يتبنون مقترحاً لتكوين مبادرة خاصة بالعاملين في هذا القطاع.
اقترح طبيبان أحدهما في الداخل والآخر في الخارج، فكرة إنشاء مبادرة تهدف لحماية العاملين في القطاع الصحي من فيروس كورونا، بتخصيص مستشفى لمعالجة من يصابون بالوباء.
تناقش مروان البكري، طبيب الباطنية في المستشفى الجمهوري بصنعاء، مع صديق له يعمل استشارياً لأمراض القلب في المهجر، وكانا يشعران بالقلق حيال ما يهدد الأطباء في اليمن، لذا فكر الطبيبان في أن مبادرة من هذا النوع قد تكون مثمرة. أعدّا المقترح وقدماه لنقابة الأطباء اليمنيين ولوزارة الصحة قبل أن يتبناه أطباء آخرون.
"مررنا بوقت عصيب، رأينا زملاءنا، من أطباء وممرضين، يتساقطون كالفراشات، عانوا مثل غيرهم من الوباء، وكانوا لا يجدون حتى سرير شاغر في مستشفى يتعالجون فيه." يقول البكري، مؤكداً أن ذلك ما جعلهم يفكرون بحلول لهذه الأزمة قبل أن تواتيهم فكرة المبادرة.
كانت الفكرة أن يتم تخصيص مستشفى لمعالجة الكادر الطبي العامل في الميدان وفي المستشفيات والمراكز الصحية، على أن يكون فيها قسم للرقود والعزل، عناية مركزة، مختبر، وصيدلية تحتوي على كل الاحتياجات الضرورية لمواجهة الوباء. واقترح الطبيبان أن تدير المستشفى إدارة مستقلة من المختصين في طب الطوارئ والكوارث، وطب العناية الحرجة، والطب الباطني. غير أن الفكرة التي حظيت بتأييد كبير، لم تنفذ.
يقول البكري لـ"خيوط"، إن مبادرة من هذا النوع كانت لتكون عرفاناً مناسباً للجهود التي بذلها الكادر الطبي لإنقاذ حياة المرضى رغم صعوبة الأمر، منوها إلى أن الأطباء يستحقون اهتماماً خاصاً كونهم الأكثر عرضة للإصابة بالأمراض المعدية، ومن بينها كوفيد19.
قدم الأطباء مقترح المبادرة إلى "الجهات المعنية" في مايو/ أيار 2020، وكان يفترض البدء بتنفيذها في الشهر التالي، غير أن ذلك لم يحدث× فبسبب انحسار انتشار الوباء، تضاءل الاهتمام بالفكرة.
رغم انعدام الإحصائيات الرسمية الدقيقة بعدد وفيات العاملين في القطاع الصحي نتيجة إصابتهم بكورونا، إلا أن تقارير شبه رسمية توقعت أن العدد يزيد عن 75 شخصاً في عموم محافظات اليمن
يوم للطبيب اليمني
على إثر الدور الكبير الذي بذله الأطباء في اليمن لمواجهة فيروس كورونا، رغم شحة الإمكانيات والوضع القاسي في البلاد، اقترح أطباء ونشطاء يمنيين تخصيص يوم 25 يونيو/ حزيران، كمناسبة للاحتفاء بالطبيب اليمني، وتخليد تضحيات العاملين في القطاع الصحي، وتوجيه الشكر والتقدير لهم على ما يقومون به من مخاطرة نبيلة من أجل إنقاذ المرضى.
وعلى مدى أسبوع خلال يوليو/ تموز 2020، تداول مدونون ونشطاء تحت هشتاج #يوم_الطبيب_اليمني، صوراً وأسماء أطباء قضوا جراء إصابتهم بالوباء أثناء ممارسة واجبهم الإنساني.
واعتبر المدونون هذا التاريخ مناسبة "لتذكر أولئك الذين يعملون بكل شجاعة في المستشفيات ومراكز العزل والعناية المركزة، من أجل الآخرين، في ظل ارتفاع الصعوبات وقلة الإمكانات".
وبينما لا توجد إحصائيات رسمية دقيقة بعدد وفيات العاملين في القطاع الصحي نتيجة إصابتهم بالوباء، إلا أن تقارير شبه رسمية توقعت أن العدد يزيد عن 75 طبيب وعامل صحي، في عموم محافظات اليمن، أغلبهم توفوا في صنعاء وعدن.
اليوم، وبعد الانخفاض الملاحظ في انتشار الوباء، يمكن القول إن الضرر الذي خلفه فيروس كورونا كان ليكون أعلى لولا جهود الأطباء وعوامل أخرى بالطبع، غير أن الضرر كان ليكون أقل أيضاً، لولا استمرار الحرب والأزمات التي عانت وتعاني منها اليمن.