يموت العشرات يومياً في مختلف محافظات اليمن بسبب الحرب الدائرة منذ ست سنوات، كما يموتون أيضاً نتيجة انتشار أنواع مختلفة من الأوبئة القاتلة، بدءاً من الكوليرا وصولاً إلى فيروس كورونا.
كورونا في اليمن ليس الوباء الوحيد، إذ هناك أمراض أخرى، من الحميات والالتهابات الرئوية، كإنفلونزا الخنازير و"الشيكونغونيا"، الذي يعرف محلياً بـ"المكرفس"، والذي يتفشى موسمياً منذ سنوات، في تعز وعدن والحديدة وحضرموت وشبوة.
بالتزامن مع تفشي فيروس كورونا في اليمن، كان "المكرفس" يبدأ موسمه للفتك بالمواطنين، في ظل إمكانات صحية شديدة الشحة، سواء في المرافق الطبية الحكومية أو الخاصة.
يعرف "الشيكونغونيا"، بحسب منظمة الصحة العالمية، بأنه مرض فايروسي، ينتقل عبر لدغة البعوض الحامل للمرض المسمى "بالزاعجة المصرية"، ويكثر تواجده في المستنقعات والمياه الراكدة وأماكن النفايات في المدن، حيث تشكل بيئة مناسبة لتكاثر البعوض الناقل للمرض، كما هو الحال في معظم شوارع مدينة تعز المكتظة بأكوام النفايات، إلى جانب مشاكل شبكة الصرف الصحي التي تطفح عادةً إلى الشوارع، وتَنْسَرِب في مجاري السيول.
عمر عبده أمين، واحد من الذين طالهم الوباء الجديد، يقول في تصريح لـ"خيوط": "أصبت أنا وصديقين لي يشاركاني السكن، بحمى "المكرفس" في نفس الوقت. لأسبوعين كنا عاجزين عن الحركة بسبب الحمى والألم الشديد المنتشر في جميع مفاصل الجسم".
ربما كان عمر وصديقاه محظوظون بالشفاء من هذه الأعراض، لكن التعافي منها في اليمن يعتمد على قوة المناعة والتداوي المبكر والتباعد الاجتماعي، وإمكانيات المصاب المالية. أخذ شركاء السكن الثلاثة أدوية من الصيدليات القريبة منهم، وأخضعوا أنفسهم لفترة حجر منزلي طيلة أسبوعين حتى تشافوا، لكنهم ما زالوا يشعرون بأثر الأعراض."
حاضنة بيئية للوباء
هذا الإشكال البيئي الذي تعاني منه كثير من المحافظات اليمنية، ومنها محافظة تعز، ساهم في خلق الوسط الحاضن للوباء الموسمي، الذي بات مصدر قلق للسكان، خاصة مع الانتشار الكثيف للبعوض الناقل للعدوى. في المقابل، لا يبدو أثراً في شوارع المدينة لأداء السلطات المحلية دورها في رفع النفايات وتعقيم أماكنها، ورفعها من مجاري السيول على إثر تراكمها لأشهر.
في حديثٍ لـ"خيوط"، يقول "عبدالرحمن النواري" وهو طالب في كلية الطب- جامعة تعز: "أصبحت مجاري السيول مكباً واسعاً للنفايات والمجاري، ما أدى إلى تواجد البعوض الناقل للمكرفس بشكل كبير".
يسكن النواري مع عائلته في حارة "السلخانة" (التحرير الأسفل) وهي محاذية لمجاري السيول، وقد أُصيب هو وجميع أفراد أسرته بالوباء، بما في ذلك الأطفال. ووفقاً لإفادته، فإن "معظم قاطني حي السلخانة أصيبوا بمرض "المكرفس" الذي انتشر بشكل واسع فيما بينهم وفي أنحاء المدينة".
تتعدد أعراض الشيكونغونيا "المكرفس" ما بين حمى شديدة وألم شديد مع تورمات في المفاصل، يصاحبه صداع وطفح جلدي يصبح فيها المصاب عاجزاً عن الحركة، وتستمر أعراضه لفترة تصل من أسبوع إلى أسبوعين، أما كبار السن فقد تصل لأشهر.
انعدام المحاليل
رغم الانتشار الرهيب للوباء، تفتقر المرافق الطبية بمدينة تعز إلى المحاليل الخاصة بالكشف عن مرض "الشيكونغونيا" (المكرفس)، ما يضطر العاملين في القطاع الصحي إلى تشخيص الحالات من خلال أعراض المرض.
في حديث لـ"خيوط"، يقول الدكتور ياسين عبدالملك الشريحي، مدير الترصد الوبائي وغرفة العمليات بمكتب الصحة محافظة تعز، أنه كان لدى مختبراتهم، القليل من المحاليل الخاصة بمرض "الشيكونغونيا"، لكنهم لم يعلنوا عنها لتفادي ازدحام الحالات. "لم نستطع وقتها الإعلان عن توفرها (محاليل الفحص) خوفاً من تجمع العينات. ومن خلال الكمية التي توفرت لنا سابقا في شهر يونيو تأكد لدينا إصابة ثماني حالات بمرض المكرفس". يؤكد الشريحي، موضحاً أنه
مع انعدام محاليل الفحص، تم تطبيب أغلب الحالات باعتبارها "حُمِّيات" يتم تصنيفها من خلال أعراضها. ووصف البلاغات التي تصل من بعض المرافق الصحية بـ"القليلة جداً". بينما هناك مئات الحالات تصاب بالوباء، في المنازل أو المرافق الصحية، دون أن يتم إبلاغ مكتب الصحة عنها. فحتى الآن، لا إحصائيات رسمية عن إجمالي الإصابات بـ"الشيكونغونيا"، سوى الحالات التي رصدها مكتب الصحة في المحافظة منذ مطلع العام 2020، وهو نحو 3562 حالة، وبلغ عدد الوفيات أربع حالات منها، بحسب الدكتور ياسين الشريحي.
في مثل هذا التوقيت من كل عام، تنشط الحميات على مدار فصل الصيف باختلاف مسمياتها: حمى الضنك، الملاريا، ومؤخراً كورونا والمُكَرْفِس
ازدحام المرافق بالمرضى
ويؤكد الدكتور سعيد سفيان، أخصائي أمراض باطنية، والمشرف الفني لمركز العزل في مستشفى المظفر للحمِّيات، أن المستشفيات والمراكز الطبية في مدينة تعز، مكتظة خلال هذه الفترة من شهر يوليو/ تموز 2020، بمصابي الحمِّيات". ويضيف: "نستقبل في اليوم الواحد من 150 إلى 200 حالة، 90% منها إصابات "حمِّيات"، غالبيتها تحمل أعراض ما يسمى بالمكرفس".
كما يؤكد سفيان أنه في مثل هذا التوقيت من كل عام، تنشط الحميات على مدار فصل الصيف باختلاف مسمياتها (حمى الضنك، الملاريا، ومؤخراً كورونا والمكرفس). تبدأ أعراض المكرفس بآلام شديدة مع تورم في العظام والمفاصل، ويصبح فيها المصاب "شبيها بالمعاق لا يستطيع الحركة" بتعبير طبيب الأمراض الباطنية.
وفي تصريح لـ"خيوط" يقول "وائل البوصي"، وهو أخصائي مخبري، لدى "مختبرات صادق للتحاليل الطبية" بحيّ "السلخانة ": من إجمالي أربعين عينة تصلنا يومياً يتم تشخيص ما يقارب 25 منها بمرض المكرفس.
ويزيد من تفاقم المشكلة، ارتفاع سعر الأدوية وتكاليف المستشفيات والمراكز الصحية التي لا يستطيع معظم سكان المدينة تحملها، ما يضطر أغلب المرضى إلى البقاء في منازلهم، أو اللجوء إلى الطب الشعبي (الطب البديل). كل ذلك نتيجة الوضع الاقتصادي السيء في مدينة يعيش سكانها تحت وطأة الحرب والحصار.
الحاج قاسم الشرعبي، (50 سنة) يمتلك عربة متحركة يبيع فيها ألعاباً للأطفال؛ يقول لـ"خيوط" إنه "قبل ثلاثة أسابيع" (مطلع يوليو/تموز 2020)، شعر بحمى وألم شديد في جميع مفاصله، وتورّمت أطرافه لدرجة العجز عن الحركة. "نال المرض مني كثيراً لأني أعاني من التهاب المفاصل المزمن." قال بائع الألعاب، واصفاً كيف عجز أيضاً عن تحمل تكاليف العلاج: "بسبب ارتفاع أسعار الأدوية، ولأني لا أملك المال الكافي، اضطررت للبقاء في محل إقامتي لأسبوع أصارع أعراض المرض وهي تشتد يوماً بعد آخر، إلى أن قام أحد جيراني بأخذي إلى المستشفى وتكفل بدفع تكاليف العلاج الذي استمر معي لأسبوعين".
ويكشف واقعاً كهذا، أن الحرب ليست وحدها من تفتكُ بالإنسان في محافظة تعز، كما في عموم اليمن؛ الكثير من الأوبئة والأمراض الموسمية تتعاقب عليه في كل فصول السنة، بحيث لا تكاد تمر أسابيع حتى تضاف أعداد جديدة لضحايا أوبئة الحرب.