سارت علاقة عمارة اليمني بالوزير "شاور السعدي" بشكل طبيعي، حيث احتفظ براتبه وبعض الامتيازات، لكن دون المستوى الجيد الذي كانت عليه أيام الوزيرين رزيك الأب وابنه.
استمر "شاور السعدي" وزيراً للعاضد، قرابة سبع سنوات، حتى تمكن ضرغام، مسؤول الباب، من الانقلاب على الوزير شاور وطرده من القصر، ما دفع بالأخير إلى الذهاب إلى نور الدين زنكي في الشام والاستعانة به على ضرغام. ومن هنا بدأت قصة سقوط العرش الفاطمي.
انتهز رجل الشام القوي الفرصة وكلف أسد الدين شيركوه، بقيادة الجيش الذي سيذهب إلى مصر، لإعادة "شاور" إلى الوزارة. ووجه نور الدين زنكي يوسف بن نجم الدين أيوب (صلاح الدين) أن يرافق عمه إلى مصر، وكان صلاح الدين رافضاً السير إلى القاهرة.
لم يمر على ضرغام بن سواد في الوزارة تسعة أشهر، حتى انقض شاور بجيوش نور الدين زنكي على ضرغام وقطعوا رأسه ثم طافوا به في شوارع القاهرة. وتسلم "شاور" الوزارة من جديد. وفي عهده الثاني هذا، أكثر الوزير شاور من سفك الدماء، "وكان يأمر بضرب الرقاب بين يديه في قاعة البستان من دار الوزارة ثم يسحب القتلى إلى خارج الدار". وعندما ضجّ الناس لهذه الأهوال، التجأووا إلى عمارة لمخاطبة الوزير، فما كان من عمارة اليمني إلا أن كتب هذه القصيدة، ومنها:
ألا إن حدّ السيف لم يُبـــــــق خـــــاطراً من الناس إلا حـــــــــــائراً يتــــــــــــــردد
ذعرت الورى حتى لقد خاف مصلحٌ على نفسه أضعاف ما خاف مفسـد
فأغمـــــدْ شفـــــار المشــــرفي وعُد بنا إلى عادة الإحســـــــــان وهي التغـــمّد
تجـــــاوزْ وإلا فالمقــــــطم صخـــــــــــرة يذوب وماء النـــيل لا شك يجــــمد
وبالفعل تمكن عمارة من أن يضع حداً لمزيد من إراقة الدماء. وعلى الرغم من شدة هذا الوزير وصرامته، إلا أن العلاقة بينه وبين عمارة اليمني كانت متينة، واصطفاه لنفسه وأولاه الرعاية "وكان يجلس على مائدته مرتين في اليوم"، وكان يقبل شفاعته في الناس. وفي إحدى المرات حرقت دار عمارة ونُهب ما تبقى منها ولزمه دين كثير فأداه شاور عنه. وكان شاور يقول: "لعن الله مجلساً لا يحضره فلان".
ولم يستتب الهدوء طويلاً في القاهرة، فما هي إلا أيام حتى انقضّت الجنود الأيوبية على "شاور" وأرسلته إلى الخليفة العاضد، فأمر بقطع رأسه، وطويت بذلك صفحته.
وبقتل شاور سنة 1169، انتهى أول فصل من فصول مأساة سقوط الخلافة العباسية. وتولى الوزارة أسد الدين (شيركوه)، قائد الجيوش النورية بأمر العاضد، ولم يطل به الأجل فمات، وتولى الوزارة بعده ابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب، بأمر العاضد أيضاً. وقامت المكائد في عهد صلاح الدين، إلا إنه تمكن من إخمادها، واتخذ قراراً صادماً للعرش، عندما أمر بقطع الخطبة الشيعية واستبدالها بالسنّية في جامع الأزهر وبقية جوامع القاهرة، وتبع ذلك موت الخليفة العاضد، كآخر خلفاء الفاطميين في مصر. وبذلك أصبح صلاح الدين سيد مصر المطلق وصاحب الكلمة الأولى.
هذه الأحداث المتلاحقة حزّت في نفس عمارة الحكمي-اليمني، خصوصاً بعد موت الخليفة العاضد، وانتقال الخطبة للمستضيء العباسي في بغداد. وزاد في نكد عمارة، عندما وجّه صلاح الدين بفتح خزائن القصر وتفريق ما فيها على قومه وأتباعه، وإخراج آل العاضد من القصر ووضعهم في دار فسيحة بديلة، "الرجال وحدهم والنساء وحدهن حتى لا يتناسلوا، كما جمع كتب القوم وأحرق معظمها".
لم ينشد عمارة قصيدته هذه أمام صلاح الدين، بل أرسلها إليه، ولكن بسبب انحياز عمارة للفاطميين، أصمّ صلاح الدين أذنه عنه، وقدّم غيره من الكتاب والشعراء والأدباء
انزوى عمارة اليمني، وانقطعت رواتبه، فانقلبت الصورة أمامه، وتعاظمت عليه الديون، وأصبح حزنه على ما فرط من أيام الفاطميين مثاراً لنظم أشعاره، فأخذ يكثر من ذكرهم والتأسف عليهم، والدعاء على من كان سبباً في هلاكهم. وقال في حسرة مريرة، مرثيته فيهم:
رميت يا دهر كفّ المجد بالشللِ وجيده بعد حسن الحلي بالعطلِ
هدمت قاعدة المعروف عن عجلٍ سقيت مهلاً أما تمشي على مهلِ
لهفي ولهف بني الآمال قاطبة على فجيعتها في أكرم الدولِ
قدمت مصر فأولتني خلائفها من المكارم ما أربى على الأملِ
قومٌ عرفت بهم كسب الألوف ومن كمالها أنها جاءت ولم أسلِ
بالله زر ساحة القصرين وابك معي عليهما لا على صفّين والجملِ
مررت بالقصر والأركان خالية من الوفود وكانت قبلة القبلِ
فملت عنه بوجهي خوف منتقدٍ من الأعادي ووجه الود لم يملِ
أسبلت من أسفي دمعي غداة خلت رحابكم وعدت مهجورة السبلِ
دار الضيافة كانت أنس وافدكم واليوم أوحش من رسمٍ على طللِ
ثم اختتم هذه المرثية العظيمة بقوله:
عمارة قالها المسكين وهو على خوف من القتل لا خوف من الزللِ
وقد اعتبر كثيرون أن هذه القصيدة تعتبر أعظم مرثية قيلت في سقوط دولة. ولم يكتفِ عمارة اليمني بالشعر فقط، بل وثّق أيضاً تاريخ هذه الأحداث في كتاب هام بات أحد أهم المراجع الأساسية في تاريخ ذلك العصر: "النكت العصرية في أخبار الوزارء المصرية". إضافة إلى كتاب عن تاريخ اليمن، الذي لولاه ما عرف الناس تاريخ الدويلات المستقلة في اليمن، يومئذ.
وتعاظمت أحزان عمارة، ولما اشتد الضنك بعمارة وزاد ما لحقه من بؤس وشقاء، وجّه قصيدة إلى صلاح الدين:
أيا أُذُن الأيام إن قلت فاسمعي لنفثة مصدور وأنّة موجعِ
وعِي كل صوت تسمعين نداءه فلا خير في أذن تنادى فلا تعي
تقاصر بي خطب الزمان وباعُه وقصّر من ذرعي وقصّر أذرعي
وأخرجني من موضع كنت أهله وأنزلني بالجور غير موضعي
بسيف ابن مهدي وأبناء فاتكٍ أقضّ من الأوطان جنبي ومضجعي
تيممت مصراً أطلب الجاه والغنى فنلتهما في ظل عيشٍ ممنّعِ
وزرت ملوك النيل إذ زاد نيلهم فأحمد مرتادي وأخصب مرتعي
ثم قال :
ملوك رعوا لي حرمة صار نبتها هشيماً رعته النائبات وما رعي
وردت بهم شمس العطاء لوفدهم كما قال قومٌ في عليٍّ ويوشعِ
مذاهبهم في الجود مذهب سنّةٍ وإن خالفوني في اعتقاد التشيعِ
فقل لصلاح الدين والعدل شأنه من الحكم المصغي إليّ فأدعي؟
شكوت فقالت ناطقات ضرورتي إذا حلقات الباب غُلقن فاقرعِ
فأدللت إدلال المحب وقلت ما أبالي بعفو الطبع لا بالتطبعِ
وعندي من الآداب ما لو شرحته تيقنت أني قدر ابن المقفعِ
أقمت لكم ضيفاً ثلاثة أشهرٍ أقول لقلبي كلما ضاق وسّعِ
ثم واصل شرح حاله والبؤس والعوز الذي هو فيه قائلاً:
وضايقني أهل الديون فلم يكن سوى بابكم ملاذي ومفزعي
فيا راعي الإسلام كيف تركتها فريقي ضياعٍ من عرايا وجُوّعِ
دعوناك عن قربٍ وبعدٍ فهب لنا جوابك فالباري يجيب إذا دُعي
لم ينشد عمارة قصيدته هذه أمام صلاح الدين، بل أرسلها إليه، ولكن بسبب انحياز عمارة للفاطميين، أصمّ صلاح الدين أذنه عنه، وقدّم غيره من الكتاب والشعراء والأدباء، وقربهم من دولته وأجزل عليهم العطايا أمثال؛ القاضي (صاحب ديوان الإنشاء والمراسلات في آخر العهد الفاطمي وأوائل الصالحي) وعماد الدين الكاتب، الذي أصبح بمثابة السكرتير الخاص لصلاح الدين، والقاضي بن شداد وغيرهم من أعلام الدولة الصالحية.