أليس من موضوعات معاصرة تستحق الكتابة حتى نذهب، أو بالأصح أذهب، للكتابة في موضوعات ماضوية؟ هل جرى حل كل مشاكلنا وهمومنا حتى نتناول قضايا أكل الدهر عليها وشرب؟ هل..؟ هل..؟ بوضوح: ألم أجد ما أكتب عنه؟ عن شيء يهمنا ويهم البلاد سوى "يوم الربوع"؟! والحقيقة أن لا غبار على صحة هذا القول. ومع ذلك: الله يرحمك أيها الشاعر الأشعر، الشهير الأشهر عبدالله البردوني –وهو طبعاً ليس بحاجة إلى شهادتي البائسة هذه– رحمك الله وأسكنك أفسح فسيح جناته. نعم، لقد قالها في بيت شعري واحد ملخصاً بكثافة عميقة مدهشة وبسيطة في آن معاً، علاقة ماضينا اليمني بحاضرنا ومستقبلنا في قوله (والمزدوجات من عندي):
لماذا الذي "كان" ما زال يأتي لأن الذي "سوف يأتي" ذهب
كنت وما زلت أتمنى أن لا تتحقق هذه الرؤية، هذا "الكشف"، غير أن الحقائق عنيدة لتذهب صابة راحها وروحها في طاحونته. وقد حاولت، كما كانت تفعل العرب، بتضمين المعنى التشاؤمي للفظة "ذهب"، أي راح، ولى، بمعنى تفاؤلي: ذهب بمعنى هذا المعدن النفيس! أي أن الذي سوف يأتي هو الذهب، هو الخير العميم. ولكن: أنّى له ذلك!
أنى له ذلك و"يوم الربوع" لم يزل معنا ليس من زمن الحجاج، وإنما من عهد.. –أطلق أيها القارئ العنان لخيالك التاريخي، ودعه يسرف، ويسرف، ثم يسرف ثم يمعن في إسرافه– من عهد عاد وثمود!! يا ساتر! ولكي لا أثقل على القارئ، أقتبس باختصار ما جاء في تفسير الآيتين القرآنيتين: "كذبت عاد فكيف كان عذابي ونذر (18) إنا أرسلنا عليهم ريحاً صرصراً في يوم نحس مستمر (19)" (سورة القمر). وقد جاء في بعض التفاسير ما مفاده، باختصار، أن جملة "في يوم نحس مستمر" قيل إنه كان في يوم الأربعاء في آخر الشهر، وكان القوم يتشاءمون بذلك اليوم (الشوكاني: فتح القدير، ج5/125. وانظر أيضاً الصفحات: 127-128). بطبيعة الحال، هذا تفسير لنص قرآني، وليس بالضرورة أن يكون هذا التفسير صحيحاً كله جملة وتفصيلاً. المهم، هو أن ليوم الأربعاء تاريخ مديد. وأما الأكثر والأبلغ أهمية فهو أنه "ما زال يأتي"!
نحن في قريتنا "الحسوة"، والتي ليست قرية معزولة، فهي لا تقع في إحدى أعلى قمم شوامخ جبال اليمن وحيوده، أو في أعماق بطون أوديته، أو في إحدى الجزر النائية المهجورة، وإنما تقع ضمن محافظة عدن تمر عبرها إحدى أهم طرق عدن البرية. في هذه القرية، وإلى عهد قريب حتى الخمسينيات وأوائل الستينيات من القرن العشرين، كان العديد من أهلها، وبالذات الأطفال منهم والنساء، يذهبون إلى البحر في آخر يوم أربعاء من الشهر الهجري صفر، ويقال له "آخر ربوع في صفر"، ويظلون يسبحون في البحر طوال عصر ذلك اليوم حتى قبيل المغرب، وذلك بغرض "التطهير من نحس شهر صفر"، كما يعتقدون. وحتى في مدينة عدن ذاتها، وربما على الأغلب في غيرها، ما زال الناس في "آخر ربوع في صفر" يمتنعون عن عقد الخطوبة أو عقد القران أو القيام بزفاف العروسين، لتشاؤمهم من نحسه.
فالذي "كان"، "ما زال يأتي"، ولو أنه لا يجوز جلد الذات بهذه القسوة، لأن العديد من شعوب الأرض لا تبتعد كثيراً عن أن "كانـ" ـها "ما زال يأتيـ"ـها. أما الفارق الرئيسي، بتقديري، أن سطوة ماضينا الذي يرد إلينا أشد مما هو عند غيرنا، من جهة، والأهم من ذلك من جهة ثانية، أن هذا الماضي لا يجد له مكاناً على الصعيد السياسي وصراعات مكوناته عند غيرنا، كما هو الحال لدينا. أما محاولة إثبات هذا الفارق فبحاجة إلى موضوع مطول. ومع ذلك، وحتى لا أبدو أنني ألقي الكلام على عواهنه، أسوق ما أظنه دليلاً أو مؤشراً على صحة ما أذهب إليه، بصدد ما يرد من الماضي إلى حاضرنا على الصعيد الاجتماعي–السياسي. إنه موضوع خاص بلقب "السيد" والإصرار على ترسيخه في الوعي الاجتماعي-السياسي وكأنه ملكية سلالية خاصة. بهذا الصدد، أسوق ما جاء من قبل "الإمام" أحمد حميد الدين في رسالة موجهة لصالح محسن العامل في ديوان "الإمام" أحمد. وإليك الرواية كما يعرضها طلعت يعقوب الغصين في كتابه "خمس جنسيات والوطن واحد":
في رسالة من الشيخ صالح محسن إلى أحمد عباس، وهو من الهاشميين، وكان الإمام قد تزوج إحدى بناته، توجه الشيخ صالح إليه بـ: "الأخ أحمد عباس"، وختمها بـ"أخوكم.."، دون أن يذكر لقب "السيد"، وذلك لصلة الصداقة التي كانت تربط الاثنين. وقد اطلع الإمام على كتاب الشيخ صالح محسن، ولاحظ غياب لقب "السيد"، فكتب إلى الشيخ صالح الكتاب المنشور صورته (صورة الرسالة في كتاب الغصين)؛ وتنص الرسالة كما يلي:
بسم الله
صالح محسن عافاه الله– والسلام عليكم ورحمة الله. وصلت الكتب بالإيضاحات.. (بشأن أمور ترتبط بعمل الشيخ صالح)، ثم جاء على موضوع "السيد":
نعم فوجئنا عند الاطلاع على محررك إلى الولد أحمد عباس بترجمته هكذا: الأخ أحمد عباس، وهذه الترجمة معلوم أنها لا ترفعه ولا تضعه فإن المؤمنين أخوة، ولكنا تأسفنا كثيراً لا يكون ذلك نتيجة التشبع بالروح العصرية الشاذة وفساد العقيدة، وأن يكون ذلك كما يقولون من الحريات، ونعم من الحريات التي يحارب بها قوانين الله سبحانه وتعليمات شريعة نبيه. ولم نأسف لمجرد ذلك، ولكنا أسفنا لعدم الثبات على مبدأ وتقاليد آبائك وأجدادك أما العقيدة فكيف ما كانت فأمرها إلى الله حقاً كانت أو باطلة. وسيدرك كل امرئ غب عمله عاجلاً أو آجلاً، وعليك أن لا تظهر لأحد عقيدتك ولا ما يدل عليها أي دلالة، فإن ذلك إن كان من نقصان العقل وسخف الأنانية وعدم معرفة قدر النفس والإغترار بالقشور والتقليد الأعما (الحاشية (1): الأعمى) الأصم، ومن الشذوذ والانخداع والزلل والطيش والوقوع في الهوات السحيقة والشقاوة الأبدية. نعم إذا كان ذلك العنوان أو تلك الترجمة لا ترفع الولد أحمد عباس ولا تضعه، فلو ختمت الكتاب بلفظ أخيكم المملوك فإن ذلك لا يضعك ولا يرفعك، بل قد يكون نافعاً كما جاء في الحديث عن رسول الله (ص) (الحاشية (2): لم يذكر الإمام الحديث الشريف المشار إليه) كما لو حررت إليه سيدي أو السيد.
نعم استرسل القلم حرصاً على أخلاقك وبيئتك الدينية لا تذهب أدراج الرياح أو يجرفها تيار دعوى العلم والبلوغ منه الدرجة العالية والذروة الوحيدة، وهذا إن كان هو الجهل المركب بكل منطق، ولله در الشاعر حيث يقول:
فإن يغلب شقاؤكم عليكم فإني في نصيحتكم سعيد
وكل ما [في الأصل: كلما] أشرنا إليه لا يضرنا ولا ينفعنا كما لا يخفى عليك.
24 شوال سنة 1370 (هجرية) (انظر: الغصين، طلعت يعقوب: خمس جنسيات والوطن واحد، مطبعة الكويت (بدون تاريخ، ص 174-176).
لن أعلق حتى لا أعكِّر صفو الدلالة البليغة.
لكثرة ما جرى من تلفيق للكثير من الأحاديث المنسوبة للرسول (ص)، يحق لكل عاقل أن يشكك في مدى صحة هذا الحديث أو ذاك، على اعتبار أن الصراع السياسي في الإسلام لعب دوره السلبي في موضوع الأحاديث المنسوبة للرسول (ص)
يبدو أنه من المهم هنا القيام بإطلالة سريعة على ما جاء عن الرسول (ص)، أو بالأصح عما ينسب إليه من أحاديث بشأن مفهوم "السيد"، حسب ما جاء في "لسان العرب": "قيل في معنى قوله [أي قول الرسول (ص)] لهم لما قالوا له أنت سيدنا: قولوا بقولكم، أي ادعوني نبياً ورسولاً كما سماني الله، ولا تسموني سيداً كما تسمون رؤساءكم، فإني لست كأحدهم ممن يسودكم في أسباب الدنيا. وفي الحديث: كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة أهل بيتها. والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه. وروي عن مطرف عن أبيه قال: جاء رجل إلى النبي (ص)، فقال: أنت سيد قريش؟ فقال النبي (ص): السيد الله. (ابن منظور: لسان العرب، مادة "سود"، ج3/228-229).
إذن، كيف نفسر موقف "الإمام" أحمد أعلاه، وهو المشهود له بالمعرفة الدينية وبالذكاء، وبالتالي لا يمكن اتهامه بجهله لمفهوم "السيد" وتلك الأحاديث المنسوبة للرسول (ص)، ومن ثم التعامل الإسلامي مع هذا المفهوم؟
بطبيعة الحال، ولكثرة ما جرى من تلفيق للكثير من الأحاديث المنسوبة للرسول (ص)، يحق لكل عاقل أن يشكك في مدى صحة هذا الحديث أو ذاك، على اعتبار أن الصراع السياسي في الإسلام لعب دوره السلبي في موضوع الأحاديث المنسوبة للرسول (ص)، ولم يعد المرء يميز بين الحديث الصحيح عن الملفق. والحديث هنا يطول ويطول. وأما مرجعيات المسلم الرئيسية في هذا الأمر للتمييز بين الحديث الصحيح عن الملفق –حسب فهمي، وبكل تواضع، هنا لست في حاجة لأي فتوى من أي كان– فهي القرآن وسنة الرسول (ص) والعقل.
أقول، لكثرة ما جرى من تلفيق، سوف أقف هنا مع المشكك في ما جاء أعلاه منسوباً للرسول (ص)، وسأفترض أن كل ما جاء أعلاه عن الرسول (ص) ملفق عنه، مع لفت الانتباه إلى مسألة في غاية الأهمية، أن هذا التشكيك لا يقود، بل وليس من حقه أن يقود، بالضرورة، إلى فهم فحواه تعارُض العقل مع مضمون ما ورد أعلاه.
من محاسن الصدف أن مرجعاً في هذا الشأن –وربما ثمة مراجع غيره– تسهم في تسليط الضوء على ما نحن بصدده. إنه "سيرة الهادي إلى الحق" الذي يشير إلى لقب "السيد"، فيذكر صاحب "السيرة" أنه "سمعت رجلاً يقول له: جعلت فداءً للسيد. فقال له الهادي إلى الحق: لا تعد تقول هذا مرة أخرى فإنما السيد الله، وإنما أنا عبد ذليل. فقال له رجل ممن حضر المجلس: جعلت فداك قال الله: "وسيداً وحصوراً"، فقال: نعم، ولكن لا أحب أن يقال لي هكذا (العلوي، علي بن محمد تبن عبدالله: سيرة الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين، تحقيق: د/ سهيل زكار، دار الفكر، الطبعة الأولى - 1972م، ص 53).
كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة أهل بيتها. والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه.
هل هنا أيضاً يمكن التشكيك بما ترويه "سيرة الهادي" بما نحن في صدده؟ لا أظن ذلك، بل وقطعاً لا يمكن!
لنقارن وبسرعة: "الإمام" المؤسس يمنع أن يقال له "السيد"، هذا من جهة، وآخر "إمام"، من جهة أخرى –وهو في الحقيقة قد تحول إلى ملك– يلهث وراء لقب "السيد"؟!
لاستكمال الفائدة، أعرج على حضرموت الذي يسلط تاريخها الوسيط على موضوع "السيد" ضوءًا مميزاً، لا نجده، أو بالأصح لم أجده أنا، في أي منطقة يمنية أخرى. فبصدد إطلاق اصطلاح "سيد" وما إذا كان قد أطلق في أول الأمر على العلويين أم كان يطلق في حضرموت عل فئة قبل وصول العلويين، يشير بعضهم إلى أن هذا الاصطلاح كان يطلق على بعض العائلات قبل أن يطلق على العلويين، حسب بعض المصادر. ففي تعليقات وهوامش في نسخة "النور السافر" المخطوطة بمكتبة "الأحقاف" رقم (161) جاء فيها، "السيد الصالح المعلم عبدالله بن سليمان الخطيب" وذلك في سؤال علمي في سنة 832 هـ، مما يدل على أن استعمال لفظة "السيد" لغير العلويين كان سارياً في القرن التاسع الهجري وما قبله. من جهة ثانية، تبين كتب التراجم والسير حتى القرن التاسع الهجري أنه كان يعبر بلفظة "الشيخ" أو "الإمام" ولا يعبر بلفظة "السيد" للعلويين، كما جاء في تكوين نقابتهم. وواضح كيف أن العلويين أنفسهم لم يطلقوا على نقيبهم اصطلاح "السيد" بل "الشيخ". كما أطلق اصطلاح "الشريف" ثم "الحبيب"، وللمرأة منهم "سيدة" و"شريفة" وأخيراً "حُبابة". هذا، مع العلم أنه كان يطلق اصطلاح "الحبيب" على بعض المشائخ، حيث جاء في رسالة للإمام عبدالله الحداد: "من عبدالله بن علوي الحداد إلى الشيخ الصوفي الولي الحبيب في الله النقيب الحسين بن محمد بأفضل.." (الصبان، عبدالقادر محمد: عادات وتقاليد الأحقاف المركز اليمني للأبحاث الثقافية والآثار والمتاحف، فرع حضرموت- المكلا (بدون تاريخ)، ص 35).
حقاً: كل بني آدم سيد، فالرجل سيد أهله، والمرأة سيدة أهل بيتها. والسيد يطلق على الرب والمالك والشريف والفاضل والكريم والحليم ومحتمل أذى قومه.
أي نعم! ومحتمل أذى قومه.
الهامش:
* زاك، يَزُوْك، زَوْكاً أو زوكاناً: في اللهجة بمعنى يشتدّ، لديه همة شديدة في تعامله. وفي اللغة القاموسية بمعنى يتبختر، يختال.