انفردت الولايات المتحدة الأمريكية في استحواذها على المشهد السياسي الدولي عقب تهاوي منظومة الاتحاد السوفيتي مطلع تسعينيات القرن العشرين. ومنذ اللحظات الأولى لانتهاء الحرب الباردة، أجهرت في حرب الخليج الثانية عن أن “محاربة الإرهاب” أولوية تترأس قائمة القوى المعادية للنظام العالمي الجديد.[1] ومع مرور عقود شهدت فيها الخارطة الدولية تحولات سياسية وأزمات اقتصادية، بدأت تتجه بوصلة العداء الأمريكية ببطء نحو الصين الشعبية، التي حققت كفاءة سوقية ومعدلات نمو هي الأعلى من نوعها في العالم خلال الأربعة عقود المنصرمة. غير أن التوتر الذي تعيشه العلاقات الأمريكية الصينية تضاعف أكثر من أي وقت مضى منذ تولي ترامب إدارة البيت الأبيض، في ملمح دولي شديد الاضطراب قد تتكشف فصوله الحالكة في الأعوام القادمة، وقد يتسبب هذا المخاض العسير في ولادة وضع دولي تسوده النزعة العسكرية والحروب.
إن المؤشرات الدولية الراهنة تفيد بأن النظريات التي تقدم تفسيرات حول إمكانية استمرار العلاقات التعاونية بين أمريكا والصين، لم تعد تمتلك مستوى عالٍ من الإقناع. بل على النقيض من ذلك يُحاجج كينيث والتز بأن الاعتمادية الاقتصادية المتبادلة ترفع من إمكانية نشوب صراع، ويعزو ذلك إلى المخاوف المرتبطة بـ”المكاسب النسبية”، إذ تخشى الدول من أن تتحصل الأطراف الأخرى على حصة أكبر من الكعكة فيُحول ميزان القوى لمصلحتها. وهذا ما دفع بالولايات المتحدة الأمريكية التي تحرص عبر الحفاظ على قوتها الكامنة إلى توطيد زعامتها على العالم، وفرملة عجلة القوى التعديلية التي تسارع نحو تغيير الوضع الدولي الراهن على حسابها. ويقول كينيث والتز “الشاغل الأول للدول ليس الحصول على أكبر قدر من القوة، وإنما الحفاظ على مكانتها في النظام”.[2] فيما تعارض بشدة النظام الدولي فردي القطبية الذي تتزعمه الولايات المتحدة الأمريكية.[3]
تقود البرغماتية المترسخة في باطن العقل الجمعي للنخبة الحاكمة في الولايات المتحدة المزاج الأمريكي في تنفيذ سياساته على الصعيد الدولي. عزز ذلك اعتلاء ترمب على صهوة القيادة الأمريكية، حيث ساهم بمزاجه الشعبوي المتقلب في صياغة استراتيجية الأمن القومي الأمريكي عام 2017، والتي تهتم بدرجة أساسية بإغلاق وحماية الحدود، دعم الاقتصاد الأمريكي، استراتيجية فرض العقوبات والضغط الدبلوماسي، وسياسة الانسحاب من الاتفاقات التي أبرمتها الولايات المتحدة في المجالات السياسية والاقتصادية والإنسانية.[4] بينما تسعى النخبة الحاكمة في بكين بقيادة شي جين بينغ عبر استراتيجية اقتصادية وعسكرية طويلة الأمد إلى أن تكون الصين عضواً فعالاً في النظام الدولي.[5]
لا شك في أن الولايات المتحدة الأمريكية باتت تعتبر النهضة الاقتصادية المتنامية للصين تحدياً وجودياً لاستمرار فردانية هيمنتها على العالم. وبصرف النظر عن الدوافع التي حدت بواشنطن إلى إقامة مساحات عمل مشترك في سياق الاقتصاد الرأسمالي والعولمة مع بكين، إلا أن جذور الأزمة الراهنة لا تمس مسائل ثانوية بل تقترب من جوهر العلاقة بين البلدين، خصوصاً مع ظهور عدة معالم تنبئ بذلك، منها:
اختراق الخطوط الحمراء وزيادة الإنفاق العسكري
تتشبث بكين بمبدأ الصين الواحد، وتعتبر أن تسليح تايوان خطًّا أحمر، وتدخلاً سافراً في شؤونها الداخلية يحدّ من سيادتها ويعرّض أمنها القومي للخطر. مع ذلك، أوغلت إدارة دونالد ترامب في اختراق الخطوط الحمراء الصينية، وأبرمت عدة صفقات لبيع أسلحة متنوعة لتايوان لمساعدتها على تطوير إمكانياتها العسكرية الدفاعية، أُقرّ آخرها في 21 مايو/أيار المنصرم، حينما صادقت وزارة الخارجية الأمريكية على بيع صفقة أسلحة بقيمة 180 مليون دولار. فيما يشير السباق الحامي في زيادة الإنفاق العسكري إلى وجود نقطة تحول بارزة في الحسابات السياسية لدى الطرفين، ففي الربع الأول من العام الجاري 2020 تسبب وباء كوفيد-19 في انكماش الاقتصادين الصيني والأمريكي، وبالرغم من ذلك أظهر القادة السياسيون أن لديهم تصميماً على أن يظل الإنفاق العسكري معزولاً قدر الإمكان عن الآثار الاقتصادية السلبية خلال فترة تنامي القلق الأمني لدى الجانبين، حيث شهدت ميزانية الدفاع الصينية زيادة في الإنفاق من 167 مليار دولار العام الماضي إلى 178.2 مليار دولار هذا العام 2020، بزيادة قدرها حوالي 11 مليار دولار.[6] فيما زاد الإنفاق العسكري للولايات المتحدة بنسبة 5.3% إلى ما مجموعه 732 مليار دولار في عام 2019 وشكل 38 في المائة من الإنفاق العسكري العالمي. يقول بيتر وايزمان، باحث أول في معهد ستوكهولم الدولي SIPRI: “إن النمو الأخير في الإنفاق العسكري الأمريكي يعتمد إلى حدٍّ كبير على العودة المتوقعة للمنافسة بين القوى العظمى”.[7] وعلى الرغم من الإغلاق الشامل لمعظم دول العالم بسبب انتشار الفيروس التاجي، أبحرت مجموعة من السفن الحربية الأمريكية في المياه المتنازع عليها في بحر الصين الجنوبي، ووفقًا لمحللين عسكريين، فإن ذلك سيؤدي إلى تصاعد المواجهة في الممر المائي الهام وشحذ التنافس بين الولايات المتحدة والصين.[8]
ارتفعت المخاطر بشكل أكبر بعد أن اقترح المشرعون الأمريكيون فرض عقوبات على البنوك الصينية إذا مضت الأخيرة قدمًا في تشريع من شأنه تقويض الحكم الذاتي لهونج كونج.
حرب اقتصادية ضارية عوضاً عن تعزيز التعاون الاقتصادي
على نحو مستمر منذ ثلاثة أعوام، تقود الولايات المتحدة الأمريكية حرباً اقتصادية ضارية على الصين، وتفرض عقوبات استنزاف بغرض خنق رأس المال المتجه إلى الصين، ما مثل أكبر تحدٍ على الإطلاق بالنسبة للاقتصاد الصيني الذي -على الرغم من حجمه- لا يزال يعتمد بشكل واسع على النظام المالي الدولي الذي تهيمن عليه أمريكا.[9] وبصرف النظر عن منطقية الذرائع التي يسوقها ترامب لتبرير إيقاده هذه الحرب الاقتصادية وعلى رأسها نمو العجز التجاري الأمريكي نتيجة لتحول التصنيع إلى الصين بسبب انخفاض التكلفة،[10] إلا أن ثمة قناعات بدأت تترسخ لدى الأمريكيين حول جدوى انخراط الصين في ركب الرأسمالية الاقتصادية، فعلى سبيل المثال؛ فإن الفوائد الاقتصادية المرجوّة من التحاق الصين بمنظمة التجارة العالمية عام 2001، لم تحقق نتائج مذكورة بحسب الجانب الأمريكي، ويرى راي براون، الذي عمل محللاً اقتصادياً للحكومة الأمريكية بين عامي 2001 و2018: “إن الصين لا تعتزم أبداً الالتزام بالقواعد، وقد انضمّت إلى المنظمة بهدف أن تغيرها لا أن تتغير هي”.[11] بينما صاحب تصاعد وتيرة المشاحنات بين القوتين حول جائحة فيروس كورونا ومصير هونغ كونغ، اتسعت أبعاد الحرب الاقتصادية، حين أقدم ترامب على منع صندوق التقاعد الفيدرالي من استثمار مليارات الدولارات في أسهم الشركات الصينية. فيما مرر مجلس الشيوخ بالإجماع مشروع قانون يتطلب من الشركات الصينية المدرجة في أسواق الأوراق المالية الأمريكية توفير الشفافية بشأن مواردها المالية، ما قد يؤدي -في حالة تشريعه كقانون- إلى إجبار عشرات الشركات الصينية على مغادرة البورصة الأمريكية. وارتفعت المخاطر بشكل أكبر بعد أن اقترح المشرعون الأمريكيون فرض عقوبات على البنوك الصينية إذا مضت الأخيرة قدمًا في تشريع من شأنه تقويض الحكم الذاتي لهونج كونج.[12]
تنفيذ سياسة تهدئة مع كوريا الشمالية
أدى نمو حدة التوتر على مختلف الصعد بين الصين وأمريكا، إلى محاولة استقطاب كوريا الشمالية من قبل الطرفين، وجاء ذلك كمحصلة لقرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب تنفيذ سياسة تهدئة مع كوريا الشمالية مطلع العام 2019. وقد جاء إعلان البيت الابيض في يونيو/ حزيران عام 2019، عن البدء في ترتيبات لزيارة الرئيس الأمريكي إلى كوريا الشمالية، كمحرك دفع بالرئيس الصيني لزيارة العاصمة الكورية الشمالية أولاً ليصبح أول زعيم صيني يزور الجارة المنعزلة منذ 14 عاما. بعد بضعة أيام عبر دونالد ترامب الحدود إلى كوريا الشمالية ليغدو أيضاً أول رئيس أمريكي، ما يزال في منصبه، يجتاز الحدود. وعبر ترامب عن إحساسه بالفخر لعبوره الخط الفاصل بين الكوريتين. وفي حديث نادر إلى الصحافة، قال الزعيم الكوري كيم إن اللقاء رمز للعلاقة الممتازة.[13] غير أن شكوكاً كثيرة تدور حول إمكانية الوصول عبر هذه التحركات إلى نتائج من شأنها احتواء كوريا الشمالية أو إحراز تقدم في ملفها النووي.
بدلاً عن التجاوب مع المطالب الشعبية النابذة للعنصرية، تعامل ترامب مع التظاهرات كأن رئاسته وشخصه هما الهدف، متجاهلاً فشل إدارته في تطبيق سياسات تمكّن بلاده من التحكم بشؤونها الداخلية والدولية
معترك الإعلام
أقدمت الصين في منتصف مارس/ آذار 2020، على طرد عدد من الصحافيين الأمريكيين من الواشنطن بوست ونيويورك تايمز وصحيفة وول ستريت جورنال، ووصفت الصين هذه الخطوة بأنها انتقام متناسب مع قرار إدارة ترامب للحد من عدد صحفيي وسائل الإعلام الصينية التي تسيطر عليها الحكومة ويعملون في الولايات المتحدة. والواضح أن واشنطن انكشفت أمام العالم وفقدت الكثير من مصداقيتها في التمسك بحرية الصحافة في سياق رهانات كسب الصراع مع الصين. بالمقابل تُدرك بكين أن الحصول على مكانة قوة عظمى يستلزم استخدام وسائل الإعلام لإملاء كيفية النظر إلى كل أفعالها في الداخل وحول العالم.[14]
اتّقاد مشاعر السخط لدى النخبة والمجتمع الأمريكي ضد الصين
أدى افتقار بكين للشفافية المطلوبة حال نشر معلومات عن فيروس كورونا إلى اتّقاد مشاعر السخط لدى النخبة الأمريكية ضد الصين. هذه الجائحة التي أصابت العالم بكارثة وبائية، وضعت الصين في مواجهة صريحة مع المجتمع الأمريكي، الأمر الذي حض دونالد ترامب وجون بايدن على وضع مواجهة الصين في قلب قضايا سباق الانتخابات الرئاسية المقبلة، في وقت يشعر فيه الناخبون الأمريكيون بالغضب والخوف على مصادر رزقهم نتيجة للتباعد الاجتماعي الذي تسبب به تفشي فيروس كورونا.[15]
المأزق الداخلي وانعكاساته على الصعيد الدولي
ينظر العالم باهتمام بالغ إلى الاحتجاجات التي اندلعت في الولايات المتحدة الأمريكية رداً على مقتل الأمريكي من أصول إفريقية جورج فلويد في مايو/أيار 2020. وبدلاً من التجاوب مع المطالب الشعبية النابذة للعنصرية، تعامل ترامب مع التظاهرات كأن رئاسته وشخصه هما الهدف، متجاهلاً فشل إدارته في تطبيق سياسات تمكّن بلاده من التحكم بشؤونها الداخلية والدولية، بما يتناسب وحجم التحديات التي تمر بها. وأدى سوء تصرفات ترامب مع الاضطرابات الأخيرة واستخفافه بتفشي فيروس كورنا، إلى ارتفاع منسوب التوجّه الشعبي المشكك في أهليته لقيادة البلد، ومن المحتمل أن يلجأ دونالد إلى إعادة توجيه البوصلة إلى الخارج والهروب من المأزق الداخلي، عبر تصعيد الأزمة مع الصين.
تُظهر هذه الشواهد تجليات الصدع الجوهري الذي طرأ على العلاقات الثنائية بين الصين وأمريكا مؤخراً، مع أفول أي فرص تقارب بينهما تلوح في الأفق. بينما يمكن اعتبار أزمة جائحة كورونا العالمية كطلقات تحذيرية القصد منها لفت أنظار الجهات الدولية الفاعلة إلى الحافة التي يسير ظاهرياً باتجاهها العالم، لا سيما مع ارتفاع مستوى الإنفاق العسكري على الصعيد الدولي وتصاعد وتيرة الدفاع المستميت عن المنافع أحادية الجانب في ظل تمدد الشعبوية عالمياً. أما إذا ما هوى الكوكب باتجاه مواجهة عسكرية صينية-أمريكية وإن كانت محدودة، فإن ذلك سيُوهن الجهود الرامية لصون الأمن والسلم الدوليين في العقود القادمة.
_______________________
[1] عماد القعقور،”سياسة أمريكا في مكافحة الإرهاب”، المنهل، Jan 1, 2016، ص 223 . متاح على الرابط: https://cutt.us/FOCig
[2] تيم دان وآخرون، “نظريات العلاقات الدولية، التخصص والتنوع”، ترجمة ديما الخضرا، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، ط1،بيروت كانون الثاني/ يناير 2016، ص 223 – 224.
[3] عاهد مسلم وآخرون،” النظام الدولي الجديد في ظل بروز القوى الصاعدة – الصين نموذجاً- 1991-2016″، دراسة، 2018، ص 271، متاح على الرابط: https://dirasat.ju.edu.jo/HSS/Article/FullText/14188?volume=45&issue=2
[4] انظر إلى وثيقة الأمن القومي الأمريكي 2017، قراءة تحليلية في استراتيجية دونالد ترامب، يحيى سعد قاعود وآخرون، مركز التخطيط الفلسطيني، أبريل/ نيسان 2018، العدد العشرون. من ص 95 إلى 120.
[5] عاهد مسلم واخرون، مرجع سابق، ص 273.
[6] Defensenews,’ China announces $178.2 billion military budget”, May 22, 2020, available at: https://www.defensenews.com/global/asia-pacific/2020/05/22/china-announces-1782-billion-military-budget/
[7] reliefweb,” SIPRI Fact Sheet April 2020: Trends in world military expenditure, 2019″, 27 Apr 2020, available at: https://reliefweb.int/report/world/sipri-fact-sheet-april-2020-trends-world-military-expenditure-2019
[8] Nytimes,” U.S. Warships Enter Disputed Waters of South China Sea as Tensions With China Escalate”, April 21, 2020, available at: https://www.nytimes.com/2020/04/21/world/asia/coronavirus-south-china-sea-warships.html
[9] Washingtonpost,” Bank sanctions, delistings: U.S. poised to take financial fight to China’, May 28, 2020, available at: https://www.washingtonpost.com/world/asia_pacific/trump-china-bank-dollar-sanctions-trade-hong-kong-protest-crackdown/2020/05/28/3d947af8-9e62-11ea-be06-af5514ee0385_story.html
[10] Theguardian,” Here are the reasons for Trump’s economic war with China”, Fri 23 Aug 2019 21.10 BST
Last modified on Sat 24 Aug 2019, available at: https://www.theguardian.com/us-news/2019/aug/23/trump-china-economic-war-why-reasons
[11] بي بي سي،” ترامب والصين: ماذا وراء الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في التعامل مع بكين؟”، 3 مايو/ أيار 2020، متاح على الرابط التالي: https://www.bbc.com/arabic/world-52517125
[12] Washingtonpost,” Bank sanctions, delistings: U.S. poised to take financial fight to China’, May 28, 2020, available at: https://www.washingtonpost.com/world/asia_pacific/trump-china-bank-dollar-sanctions-trade-hong-kong-protest-crackdown/2020/05/28/3d947af8-9e62-11ea-be06-af5514ee0385_story.html
[13] بي بي سي،”دونالد ترامب يعبر الحدود إلى كوريا الشمالية في لقاء تاريخي مع كيم جونغ أون”،
[14] Foreignpolicy.” China Is Fighting the Coronavirus Propaganda War to Win”, March 20, 2020, available at: https://foreignpolicy.com/2020/03/20/china-coronavirus-propaganda-war-journalists-press-freedom/
[15] بي بي سي،” ترامب والصين: ماذا وراء الاستراتيجية الأمريكية الجديدة في التعامل مع بكين؟”، 3 مايو/ أيار 2020، متاح على الرابط التالي: https://www.bbc.com/arabic/world-52517125