مطلع يونيو/ حزيران 2020 (الجاري)، كان الدكتور نزار جهلان يستعد للعودة إلى العمل بعدما تماثل للشفاء من إصابته بفيروس كورونا. علق على ذلك بالقول: "شعر الكثير من أصدقائي وزملائي بالصدمة إزاء قراري بالعودة إلى العمل في مركز علاج كوفيد-19، وتساءلوا ما إذا كنت قد فقدت صوابي، ولكن إجابتي لهم هي أنني الآن، بعد إصابتي بالمرض، وإدراكي لمدى معاناة المرضى بسبب الفيروس ومدى حاجتهم إلينا، أصبحتُ أكثر إصرارًا من أي وقت مضى على استمراري بالعمل".
يمثل هذا الطبيب الذي استعرضت منظمة "أطباء بلا حدود" في اليمن قصته في أحد تقاريرها، نموذجاً ملهماً في ظل بيئة عمل صعبة وشاقة، ولا تتوفر فيها متطلبات السلامة الوقائية للكادر الطبي الذي يواجه الوباء.
وفي هذه الأثناء، يواصل الفيروس انتشاره في معظم المدن اليمنية، مزهقاً أرواح المئات من اليمنيين، بينهم أطباء وكادر صحي، وأكاديميون بالعشرات. إنه وضع مأساوي تنزف فيه اليمن الكثير من نخبتها الأكاديمية والثقافية، إضافة لمهن أخرى.
فاجعة جامعة عدن
حتى مطلع يونيو/ حزيران 2020، قضى فيروس كورونا وأمراض الحمّيات في عدن، على نحو 36 أكاديمياً، وفق إحصائية تقديرية لجامعة عدن؛ أساتذة وخبراء في الاقتصاد، الزراعة، الطب، الكيمياء، والهندسة، أزهق المرض أرواحهم بلا هوادة.
رئيس جامعة عدن، الخضر لَصْوَر، قال في تصريحات صحفية، إن وفاة هذا العدد من النخبة الأكاديمية يمثل "فاجعة كبيرة"، إلى جانب إصابة عدد آخر ما يزالون يصارعون هذه الأوبئة الفتاكة.
وأضاف: "أكثر ما يؤلمنا هو عدم تمكننا من وداعهم أو حضور جنائزهم، ولم يبقَ سوى تمنِّي المغفرة والرحمة لهم". واستبعد لَصْوَر أن تفتح جامعة عدن أبوابها والعودة إلى الدراسة، وقال: "لسنا مؤهلين الآن نفسياً للعودة إلى الدراسة"، لافتاً إلى أن الوفيات في الوسط الأكاديمي أضرّت كثيراً بالعملية التعليمية عموماً.
وتابع: "لكن لا يأس مع الحياة، ولا بد من استئناف الدراسة بعد هدوء الأوضاع والتأكد من أنه لا ضرر صحياً على الأساتذة أو الطلاب".
ماذا عن جامعة صنعاء؟
في صنعاء، شكلت وفاة البروفيسور ثابت محسن ناشر في 3 يونيو/حزيران 2020، جراء إصابته بفيروس كورونا، صدمة كبيرة، ليس فقط في الوسط الطبي، بل بشكل رئيسي في الأوساط الأكاديمية. إذ يعتبر البروفيسور ناشر من خيرة الأطباء والأكاديميين الذين ساهموا في تأسيس النظام الأكاديمي الطبي في جامعة صنعاء.
وقام أول وزير للصحة بعد ثورة 26 سبتمبر/ أيلول 1962، بتأسيس كلية الطب في صنعاء، وتبنى نظام التخصص الطبي والدكتوراه عن طريق البورد بإدخاله نظام البورد العربي واليمني، الذي تولى رئاسته، ما أدى إلى تجويد دراسة الطب ورفع مستوى الأطباء اليمنيين. كما كان حاضراً ومشاركاً باستمرار، في اختبارات البورد العربي على امتداد الوطن العربي، إضافة إلى مساهمته في إنشاء المجلس اليمني للاختصاصات الطبية في العام 1993، وعُيّن أميناً عاماً للمجلس.
وخسرت جامعة صنعاء منذ منتصف مايو/أيار الماضي مجموعة من خيرة أساتذتها بهذا الفيروس القاتل؛ أساتذة في الهندسة المدنية، وطب العيون، وعلم الاجتماع، واللسانيات، والقانون. وحسب مصادر طبية، فإن عدد الأكاديميين الذين توفوا منذ انتشار جائحة كورونا في اليمن، بلغ 12 أستاذاً، بعضهم قيادات في الجامعة.
في السياق، قالت منظمة "أطباء بلا حدود" الخميس 11 يونيو/ حزيران 2020، إن فيروس كورونا المستجد بدأ ينتشر على نطاق واسع في جميع أنحاء اليمن.
وأضافت المنظمة، في بيان: "امتلأت معظم الوقت طوال الأسابيع الأربعة الماضية، وحدة العناية المركزة في صنعاء، والتي تبلغ طاقتها الاستيعابية 15 سريرًا وكان معدل الوفيات مرتفعاً".
وقالت كلير هادونج، رئيسة بعثة أطباء بلا حدود في اليمن: "شهدنا مزيجاً غريباً من الإنكار لتفشي الفيروس والخوف منه، لم يرغب الناس في تقبّل إمكانية وصوله إلى بلادهم، ثم أنه قد وصل بالفعل وبدأ بالانتشار، ولكن بمجرد أن واجهوا حالة إصابة واحدة حتى تسبّب ذلك في إثارة الذعر فيهم، غير أنّ هذا الخوف مبرر نظرًا لافتقار اليمن بشكل كامل تقريبًا إلى وسائل الاستجابة لهذا التفشي".
وزير الصحة في حكومة عدن: اليمن لا يملك سوى 6 أجهزة (PCR) و17 جهاز أشعة مقطعية و500 جهاز تنفس اصطناعي و3 آلاف شريحة فحص (PCR).
وتسبّبت خمس سنوات من القتال في انهيار نظام الرعاية الصحية اليمني بدرجة كبيرة، ليظهر مرض كوفيد-19، بمثابة "القشة التي قصمت ظهر البعير". ووفقاً لهادونج: "سيموت الكثير من الناس بسبب هذا الفيروس، ولكننا نخشى أن يموت العديد من الأشخاص الآخرين من أمراض يمكن الوقاية منها وعلاجها، وذلك لأن الرعاية الصحية ليست متاحة بكل بساطة".
هنا يأتي الحديث عن تساقط الأكاديميين بدرجة رئيسية بعد الأطباء بالفيروس، حيث لم يجد بعض المصابين منهم بأمراض المزمنة أية رعاية طبية مناسبة، إلى جانب ما يعيشه كثير منهم من أوضاع معيشية قاسية بعد أن فقدوا رواتبهم بسبب الحرب والصراع الدائر في البلاد.
وتابعت هادونج: "لا يمكننا مواجهة هذه الأزمة بمفردنا، على الأمم المتحدة والدول المانحة الأخرى إيجاد طرق عاجلة لتعزيز الاستجابة، بما في ذلك من خلال التدخلات المباشرة التي تقوم بها الوكالات الإنسانية الطبية والدعم المالي لمساندة النظام الصحي اليمني".
ظروف استثنائية
يواجه قرابة 30 مليون يمني، خطر الإصابة بفيروس كورونا والملاريا وحمى الضنك والتشيكونجونيا والكوليرا والتيفوئيد. هكذا افتتح وزير الصحة في الحكومة اليمنية المعترف بها دولياً، ناصر باعوم، كلمته خلال الاجتماع الافتراضي لوزراء الصحة العرب، الأربعاء 10 يونيو/ حزيران 2020، محذراً من خطورة ما يتعرض له اليمن الذي لا يملك، حسب باعوم، سوى 6 أجهزة (PCR) و17 جهاز أشعة مقطعية و500 جهاز تنفس اصطناعي و3 آلاف شريحة فحص (PCR).
وتطرق باعوم إلى ما تسبب به المنخفض المداري الأخير الذي ضرب عدداً من المحافظات اليمنية، من تفشي الحميات، مشدداً على أهمية توفير الدعم العاجل للقطاع الصحي في اليمن حتى يتمكن من مجابهة هذه الأوبئة.
وكان وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، مارك لوكوك، أثناء اجتماع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي التابع للأمم المتحدة (الثلاثاء 9 يونيو/ حزيران)، حذر من أن "اليمن وأفغانستان وباكستان وكولومبيا ونيجيريا والفلبين وأوكرانيا، ستشهد ذروة انتشار فيروس كورونا خلال الأشهر الثلاثة إلى الستة المقبلة".
وقال لوكوك، إن الناس في اليمن يموتون الآن بمفردهم في منازلهم أو ملاجئهم، بينما نواجه نحن (حسبما جاء في سياق حديثه) شكوكاً عديدة، فلا نعرف متى سنرى اللقاح (للفيروس) أو مدى فعالية تدابير الاحتواء التي نقوم بها.
وأكد أن الناس في البلدان المذكورة سيعانون، ليس فقط من الآثار المباشرة للفيروس، لكن أيضاً من التعطل المستمر للخدمات الصحية المنقذة للحياة.
ضعف قدرة اليمن على الاستجابة
في السياق، عقد المبعوث الخاص للأمم المتحدة إلى اليمن، مارتن غريفيث، نقاشاً عبر الانترنت، مع "أكثر من 500 يمني ويمنية"، حول قدرة اليمن على الاستجابة لجائحة كورونا. وعبّر النشطاء الـ500، عن "قلق بالغ إزاء تفشي جائحة كوفيد-19، وربطوا ضعف قدرة اليمن على الاستجابة للجائحة باستمرار الحرب".
واستمرت النقاشات الافتراضية واسعة النطاق على مدار يومين (8 و9 يونيو/حزيران 2020) بحث خلالها المبعوث الخاص لليمن، مارتن غريفيث، مع الشباب والشابات، "فرص وتحديات السلام وجهود الأمم المتحدة المستمرة للتوسط بين طرفي النزاع والتوصل إلى سلام شامل ومستدام".
أكثر من 60% من المشاركين في نقاشات مع المبعوث الأممي، يتفقون على أن أثر تفشي فيروس كورونا مماثل لأثر الحرب على حياة اليمنيين، وأن اليمن يعاني من فيروسين، هما الحرب وكورونا
ورغم قيود المشاورات الرقمية من حيث القدرة على الوصول إلى المشاركين ومدى تمثيل اليمنيين عموماً، قال غريفيث، إن هذه المشاورة الرقمية خطوة مهمة للتواصل مع اليمنيين خارج الدوائر المعتادة.
وأضاف: "سيستمر مكتبي في توسيع تواصلنا مع اليمنيين، سواء من خلال استخدام التكنولوجيا، كما فعلنا في اليومين السابقين، أو باستخدام طرق أكثر تقليدية في التواصل، لتطوير مقترحاتنا واستراتيجيات الوساطة التي نتبناها من أجل السلام الدائم في اليمن".
وبحسب مكتب المبعوث الخاص للأمم المتحدة لليمن، فقد "أعرب المشاركون عن آرائهم حول قضايا متنوعة تهمّ بلدهم ومستقبلهم، وأكدت الغالبية العظمى منهم عن قلق بالغ إزاء انتشار جائحة كـوفيد-19، رابطين ضعف قدرة اليمن على الاستجابة للجائحة باستمرار الحرب".
وفي حين اتّفق 95% من المشاركين على أن وقف إطلاق النار على مستوى البلاد هو أمر ضروري من أجل الاستجابة الفعّالة لتفشي فيروس كورونا، اتفق 62٪ منهم على أن أثر تفشي المرض مماثل لأثر الحرب على حياة اليمنيين وأن "اليمن يعاني من فيروسين، هما الحرب وكورونا".
وكشفت المشاورات عن دعم واسع لاستئناف محادثات السلام للوصول إلى نهاية شاملة للحرب في اليمن، حيث وافق 85٪ من المشاركين، على أن استئناف محادثات السلام مهم وعاجل، وأشار معظم المشاركين إلى أهمية التسوية السلمية للنزاعات وتبني حوار يشمل الجميع لتحقيق الاستقرار وبدء الإعمار والتنمية.
وجاءت قضية دفع رواتب موظفي الخدمة المدنية على رأس أولويات مشاركي المشاورات، حيث وافق 99٪ من المشاركين على أنه أمر مهم وعاجل، وهو أعلى مستوى للإجماع تم الوصول إليه أثناء المشاورة الرقمية، وصنّف 76٪ من المشاركين قضية الرواتب على رأس مجموعة الإجراءات الإنسانية والاقتصادية المقترحة لتخفيف المعاناة في اليمن.
وأشار مكتب المبعوث الأممي لليمن، إلى أن معظم المشاركين هم أعضاء في منظمات المجتمع المدني، 60% من المشاركين تحت سن 41، و57٪ منهم يعيشون داخل اليمن، وجاءت نسبة تمثيل المرأة بين 30-35٪ من إجمالي المشاركين.