شكل إعلان إغلاق شركة "راحة" للنقل البرّي وإنهاء خدماتموظفيها صدمة في أوساط القطاعات الاقتصادية والخدمية وفي قطاع النقل بشكل خاص. إذقد تكون هذه الخطوة القطعة الأولى في انهيار "جبل الجليد"، وما قد يليهمن تساقط مختلف "القطع" الخدمية الأخرى، في ظل استمرار الوضع الراهنالذي تعيشه اليمن من حرب وصراع وفقر وبطالة، وأخيراً انتشار فيروس كورونا ومايخلفه من تبعات مدمّرة.
وفي الوقت الذي يمضيفيه فيروس كورونا بالانتشار في البلاد، رغماً عن الإجراءات الاحترازية الرسميةالمشتتة والمرتبكة والضعيفة، يجد المواطن اليمني نفسه في خضم كارثة حقيقية قد تقضيعلى ما تبقى من "لقمة العيش" البسيطة المتوفرة أمامه. فبعد أن بدأ هذاالفيروس في إلحاق الضرر بالمنشآت الصغيرة، ها هي تأثيراته تطال "جبل الجليد"الاقتصادي، وما تبقى من شركات ومنشآت تشغيلية وقطاعات خدمية حاولت الصمود كثيراًطوال سنوات الحرب الخمس، وامتصاص ضرباتها المتتالية رغم حدّتها وقوتها.
ويمثل قطاع النقل وقطاع السياحة الداخلية والخدمات المرتبطة بها، أحدأبرز القطاعات الاقتصادية المتأثرة بتداعيات فيروس كورونا، على الرغم من ضعف حركة النقلبين اليمن والخارج جراء الحرب منذ خمسة أعوام، إلا أن تبعات إغلاق الحدود ووقف تأشيراتالعمل والعمرة والزيارة وتراجع حركة النقل بين المدن، أدّت إلى خسائر كبيرة في قطاعالسياحة والخدمات المرتبطة بها كالفنادق والمطاعم والنقل.
وقامت العديد من الشركات الصغيرة والمتوسطة العاملة في مجال النقل، بمنحموظفيها إجازات بدون راتب، وعليه فإن توقف معظم وحدات هذا القطاع نتيجة الإجراءات الوقائيةوالاحترازية من فيروس كورونا، أو عدم تحمل القطاعات والشركات العاملة تبعاتانتشاره، سيؤثر سلباً على شريحة واسعة من السكان من حيث فقدان دخولهم، وبالتالي زيادةمعاناتهم وتدهور معيشتهم، إضافة إلى التدهور الناتج عن الحرب المستمرة منذ خمس سنوات.
وعلى إثر إعلان شركة "راحة" في الـ20 من مايو /أيار 2020، إغلاقالشركة نهائياً، وإنهاء خدمات موظفيها جميعاً، اعتباراً من ذلك التاريخ، بسببعجزها عن "سداد التزامات مستحقات الغير"، بادرت نقابة شركات النقل البرياليمني بالتحذير من تهاوي قطاع النقل البري بالكامل. ذلك أن تبعات انتشار كورونالن تتوقف عند شركة "راحة"، بل سبق أن طالت قطاع النقل البري في اليمن،مجموعة من المشاكل والمعوقات قد تؤدي، بالتظافر مع تفشي الوباء، إلى انهيار هذاالقطاع.
شهدت اليمن قبل تفشي فيروسكورونا استنساخاً واسع النطاق لشركات الأعمال في كافة المجالات، واحتكار تجارةالوقود والاستيراد والتصدير، مع ظهور فئات تجارية جديدة كونتها الحرب تديرهاوتتحكم بها أطراف الصراع في صنعاء وعدن.
ووجدت مختلف قطاعات الأعمال الخدمية والاقتصادية والتجارية اليمنيةنفسها في خضم مواجهات متشعبة على أكثر من جبهة، هدّدت بقاءها منذ بداية الحرب فيالبلاد. وإلى جانب الحرب وتأثيراتها والصراع وأضراره وقبل ظهور فيروس كورونا، كانتالشركات تواجه معضلة كبيرة تهدد وجودها، وتتمثل "بالاستنساخ" الذي تعرضتله مختلف البيوت التجارية ورساميل الأعمال المتعددة.
ويتهم القطاع الخاص التجاري والصناعي، "السلطات المعنية"في عموم اليمن، خصوصاً حكومة صنعاء، بفرض جبايات متواصلة ورسوم نقل البضائع منخلال تعدد منافذ تحصيلها، على امتداد خطوط نقل السلع من الموانئ الرئيسية العاملةفي عدن جنوب اليمن، إلى مختلف المناطق، في الشمال والجنوب، إضافة إلى تفريخ القطاعالتجاري وتكوين طبقة تجارية خاصة تحتكر تجارة وصناعة المنتجات الغذائيةوالاستهلاكية والتحكم بعمليات الاستيراد والتصدير.
وشهدت اليمن استنساخاً لشركات أعمال في كافة المجالات، من استيرادوتصدير وتجارة المشتقات النفطية وغيرها من الأعمال التجارية المرتبطة بالاستيرادوالتصدير.
وحسب مصادر مطّلعة تحدثت لـ"خيوط"، فقد شهدت السنواتالأربع الأخيرة، ظهور فئات تجارية جديدة كوّنتها الحرب تديرها وتتحكم بها أطرافالصراع في صنعاء وعدن ومختلف المدن والمناطق اليمنية.
وتشير المصادر إلى أن هذه الفئات، تحصل على تسهيلات ومزايا تفضيليةفي الاستيراد، خصوصاً في التجارة المتعلقة بالأغذية والمشتقات النفطية وغيرها من السلعالأساسية، إضافة لاحتكار القطاعات الخدمية والسلع الأكثر طلباً وربحاً في الأسواقاليمنية.
نقاط التفتيش والجبايات فيروسات أخرى
يعاني قطاع النقل والشركات العاملة فيه عدة مشاكل ومعوقات فرضتهاالحرب والصراع الدائر في البلاد قبل وصول فيروس كورونا، والذي ضاعف انتشاره أعباءومشاكل هذا القطاع.
وتطرق بيان لنقابة شركات النقل البري إلى بعض هذه المعوقات، منها ماتتعرض له حافلات الشركات نتيجة الإجراءات المتّخذة من قبل عشرات النقاط الأمنية المنتشرةفي كل محافظة، حيث يتم توقيف حافلات النقل لساعات طويلة، بما لذلك من إهلاك لمحركاتالحافلات وأجهزتها التشغيلية، ما يؤدي إلى رفع تكاليف التشغيل للحافلات، كون الجهاتالأمنية لم تتفق على آلية ونافذة واحدة للجميع. وإلى ذلك، تأتي مشكلات الجباياتالمفروضة في كل المحافظات، واهتزاز العملة الوطنية وعدم استقرار سعر الصرف، والذيانعكس سلباً على أداء هذه الشركات من ناحية تطوير أدائها وتلبية احتياجاتها من قطعالغيار أو تحديث أساطيلها من الحافلات.
كما أثرت الأزمات المتلاحقة في الوقود على مختلف القطاعات الاقتصاديةوالخدمية ومنها قطاع النقل، إذ تشكو الشركات العاملة في قطاع النقل البري من تفاوتأسعار الديزل منذ بداية الحرب في اليمن، وارتفاعها بنسبة كبيرة عن السعر الرسمي أوبحسب السعر العالمي.
وعانت هذه الشركات من انتشار باصات النقل المتوسطة، وعزوف المواطنين عنالسفر بالحافلات الكبيرة، التي اعتبرتها النقابة في بيانها، "الوسيلة الأكثرأماناً والأنسب للسفر في جميع بلدان العالم إلا في اليمن، فقد توجهوا إلى وسائل النقلالأصغر رغم خطورتها".
ويرجع البيان سبب ذلك إلى التوقفاتالمتكررة والمضايقات التي تواجه المسافرين بواسطة حافلات شركات النقل الوطنية المنتظمة،معتبراً تفضيل الناس لاستخدام الوسائل الأصغر، إلى عدم إيقافها في نقاط التفتيش،ملمّحاً إلى سبب عدم إيقافها بالقول "كلنا نعرف السبب".
وحسب محمد فضل، وهو مالك شركة نقل، فإن الحصار الجوي والبري والبحريالذي فرضه التحالف العربي بقيادة السعودية والإمارات، منذ بداية الحرب على اليمن،كان له أثر بالغ أضرّ كثيراً بقطاعات النقل المختلفة، إذ وصلت كثير من الشركاتوالمكاتب نفسها إلى شفا التهاوي والإفلاس.
وأضاف في حديثه لـ"خيوط"، أن تأثيرات انتشار كورونا، سيكون"عبارة عن المسار الأخير الذي سيُدق في نعش هذه النوع من الأعمال والشركاتوقطاعات النقل المختلفة". وتابع: "نحارب وحيدين للبقاء، وذلك في ظل أوضاعقاسية وصدمات، دون التفات أحد من المعنيين الذين ينفذون الإجراءات دون النظر إلىقطاعات العمل والتشغيل، التي عملت إلى حدٍّ ما طوال سنوات الحرب الماضية على تماسكالمجتمع، وتوفير ما أمكن من الأعمال، أو المحافظة على كودارها وعدم رميهم إلى رصيفالجوع والبطالة".
ويحتاج القطاع الخاص والشركات والأعمال إلى حزمة عاجلة من الحوافزوالخدمات والمزايا التي تساعده على بقاء مختلف الأنشطة والأعمال الخاصة التي تشغلنحو 60% من القوى العاملة في اليمن، والمساهمة في مواكبة مرحلة التعافي مستقبلاًواستعادة نشاطها ودورها في عملية التشغيل.
وقال لـ"خيوط" أحمد حسن، مدير الاتصال والإعلام في الغرفةالتجارية والصناعية بأمانة العاصمة صنعاء، إن القيام بإجراءات عشوائية في إطارتوجه "السلطات المعنية" في مكافحة فيروس كورونا، خصوصاً في الجانبالاقتصادي والتجاري، ستكون عواقبها وخيمة في حال استمرت في تجاهل مؤسسات القطاعالخاص وعدم التنسيق معها لتلافي أية عواقب على وضعية الأسواق وقطاعات الأعمال.
وتغلب حالة من الفوضى والارتباك على الإجراءات الوقائية الرسميةلمكافحة فيروس كورونا، فيما يرى حسن، افتقاد "السلطات المعنية" للخبرةفي إدارة هكذا أزمة متشعبة ومتعددة التأثيرات، وعدم توفر الكوادر الإدارية المؤهلةالتي بإمكانها "قيادة الدفة إلى بر الأمان".
من المرجح أن تؤدي هذهالظروف إلى انخفاض متزايد في القوة الشرائية لملايين اليمنيين الذين يعانون بالفعلمن انعدام الأمن الغذائي، وعدم تمكن معظمهم من توسيع فرص الدخل
اَثار ضارة ومقترحات إنقاذ
توقع تقرير صادر حديثاً عن قطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية حصلتعليه "خيوط"، تأثر الاقتصاد الوطني جراء الآثار الضارّة التي ستُلحقبمختلف قطاعاته المتعددة، الخدمية منها والإنتاجية والصناعية والتجارية، وهو ماسيؤدي إلى انكماش الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي الذي كان قد بدأ يتكيف تدريجياً،خاصة في عام 2019، بعد أن انكمش في السنوات السابقة، والذي وصل إلى مستويات غير مسبوقةبسبب الحرب، وخاصة في عام 2015، حيث انكمش بحوالي 30%. فمن المتوقع أن يعود إلى المعدلاتالسالبة مجدداً عام 2020، نتيجة جائحة كورونا واستمرار إجراءات الوقاية، والذي سينتجعنها تداعيات عدة اقتصادية واجتماعية.
وحسب التقرير، لا تتوقف الآثار الضارّة على القطاعات الاقتصاديةوالخدمية، بل ستصل بشكل مباشر لتضرب المساعدات المقدّمة لليمن، وعلى عملياتاستيعابها وتنفيذها على الأرض، إذ قد يتزامن خفض المساعدات المقدمة لليمن والحالة الصعبةالتي يواجهها حالياً مع التوجهات الجديدة للأمم المتحدة لخفض مستوى المساعدات المقدمة،نظراً لأن المانحين والمنظمات الإغاثية يؤكدون أنه لم يعد بإمكانهم إيصال المساعداتالغذائية الموجهة لملايين الأشخاص، خاصة وأن مناخ العمل قد تراجع بدرجة كبيرة في الأشهرالقليلة الماضية، وسيكون لهذا التوجه تبعات كبيرة، ليس على المستوى الإنساني فقط وإنمايمتد ذلك إلى مخزون اليمن من العملة الأجنبية، الأمر الذي سيؤدي إلى اضطراب في أسعارالصرف وبالتالي ارتفاع الأسعار والخدمات في البلاد.
وخلصت عديد من الآراء والاقتراحات التي قدمها لـ"خيوط"خبراء ومعنيون بالشأن الاقتصادي والتجاري والخدمي في اليمن، في ضوء توصيات تقريرقطاع الدراسات والتوقعات الاقتصادية، إلى عديد من الاستنتاجات والحلول التي تقتضي التنفيذبصورة عاجلة بعد تضمينها في مصفوفة عمل واقعية لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لتلافيالكارثة التي يمكن أن تحل في مختلف جوانب الحياة، في حال استمر نزيف مثل هذهالقطاعات التي توفر نسبة متوسطة من التشغيل ويمكن أن تلعب دوراً محورياً فيالتماسك الاقتصادي والاجتماعي.
يأتي في طليعة هذه الحلول دعم قطاعات الأعمال والمشاريع الصغيرةوالمتوسطة، والتعامل مع التأثيرات الاقتصادية السلبية الناجمة عن أزمة كورونا، واتخاذإجراءات مناسبة لتعزيز التعافي الاقتصادي، وإطلاق مبادرة لتخفيف الأعباء عن الشركاتوتحفيز قدرتها على مواجهة ظروف السوق الصعبة، إضافة إلى توسيع وتحسين خدمات التمويلالصغير والأصغر خاصة للأنشطة الانتاجية.
ويتطلب الأمر توصية المصارف الخاصة بإعفاء المَدينين من تسديد فوائد الدينأثناء الأزمة، وبالسماح للشركات الصغيرة والمتوسطة والعاملين لحسابهم الخاص بوقف سدادأصل الدين بصورة مؤقتة، وتعليق الرسوم الضريبية والجمركية على السلع الأساسية من أجلتسهيل وصولها بأقل الأسعار الممكنة للمواطنين.