أحنّ إلى شارع الزبيري”، هكذا أسرّني أحد الأصدقاء، بالرغم من أنه يسكن بالقرب من شارع الزبيري. لكنه باح لي -في لحظة جموح الليل والذكريات- وقال: “أحسّ بذلك دوماً, عندما أكون حزيناً! الحزن في شارع الزبيري له امتداداتٌ طويلةٌ في صدري, فأشعر بأن الحنين يكاد يلتهمني وألتهمه”.
لم أعلّق على هذا الحنين المتوحّش حينها، كان أشبهَ بحالةٍ غرائبيةٍ لا تُفسَّر. الآن، وأنا أحِنّ إلى أشياءَ غامضةٍ أيضاً، وجدتُ نفسي أستذكر حديثَ صديقي هذا؛ لكن لا أزال لا أفهمه، سوى أنني أحسّ به تماماً، وربما أكثر إحساساً وحنيناً.
لا أحِنُّ إلى شارع الزبيري أنا؛ بل إلى قريتي “عُبال”، تلكَ القرية النائية والنائمة فوقَ مرتفَعٍ بسيطٍ، بسيطٍ مقدارَ ارتفاع شامةٍ في خدّ فتاة. وبسيطةٌ هي قريتي أيضا وأهلُها.
يُطوّقها جبلان: “بُرَع” من ذات الشمال، و”حَراز” من ذات اليمين، ومن جوارها يمر وادي سِهام. ومزارع المانجو والموز، والقليل من الأحلام الخضراء، تحيط بها من كل بجانب.
بينما أنتَ تتصفح هاتفك، أو شارداً تنظر من النافذة، ستكون نازلاً من صنعاء مباشرةً للحُديدة، من اتجاه ذمار ومدينة الشرق. وبعد ثلاث ساعاتٍ، ستصل لأول ذرة رملٍ تتْبعُ محافظة الحديدة. إنها “عُبال”، مديرية الحجيلة، هي بالضبط ما أحِنّ إليه الآن. أحن إليها بغموضٍ شاسعٍ، وبضراوة الصَّيْف فيها وكرَم الأمطار والدمع، بأمّي وصلَواتها، والصِّبْية وأطفالِ الجيران، والحسناوات الحزينات، عيونِهن الناعسة وخَجَلِهن اللذيذ والجذاب. أصدقائي الحيارى، ورفاق رحلة المسير والمصير، الرفاق البسيطون، أحنّ إليهم؛ وأحنّ إلى ضحكتنا بعد المدرسة والشاي، إلى تعب المذاكرة والتسويف القديم.
ويذهبُ بي الحنينُ للبعيد، بعيداً حتى أعمق نقطةٍ، يقفز بي من الحنين الكلي إلى المُجزَّأ، وحنين التفاصيل الصغيرة. فلم يعد معروفاً وثابتاً؛ بل أصبح مُقطَّعاً كحشرجةٍ، ومُجزأً بين مفاصل ولحظاتٍ معيّنة، حيث تحِنّ إلى بيتكم لا إلى القرية، وإلى دقيقةٍ واحدةٍ من مشهد الغروب لا إلى الأيام كلها، وإلى شقاوة الرعي لا الرعي. ويصلُ بنا الحنين أحياناً إلى ما لا يُصدَّق! فنحِنُّ إلى ضحكةٍ معينةٍ في شخصٍ قد تخلّيْنا عنه، نعلم أننا فارقناه ولا يمكن العودة، ولا يمكننا أن نحبه مرةً أخرى؛ لكننا نشتاق إلى ضحكته وحدها، وليس إليه. وربما هنا قد يمر على بالي الأشخاصُ واللحظاتُ ومناظرُ بمفردها، حنينٌ إلى الحماقة القديمة -مثلاً- أو إلى ملل القرية وكسل صلاة الفجر والنسيم بعدها. أجل؛ أحِنّ إلى كل هذا، وإلى أشياءَ أخرى، أشياءَ كثيرةٍ لا أتذكرها الآن؛ غير أنني أحنّ إليها، ومتأكدٌ جداً من حنيني.
الانتماء هو الحنين، والحنين هو الانتماء. وحين نحِنُّ إلى شيءٍ، فإننا نحِنّ إلى ما ننتمي إليه. وللأماكن أرواحٌ، أرواحٌ تنتمي إلينا وننتمي إليها؛ حالةٌ خرافيةٌ، ومن شدة واقعيتها نحسُّ أننا لم نُخلقْ إلا من هذه الصخور والتراب. ليس ذلك الإحساس الكلاسيكي بأن الإنسان خُلق من ترابٍ ثم لا يحسّ ولا يشعر؛ بل إحساسك أنك من هذه الأرض خُلقْتَ مباشرةً، دفعةً واحدة، ودون أي عواملَ أخرى تساعدك. انبجسْتَ هكذا منها، كوردةٍ أو كشوكةٍ، لا يهم؛ المهم أنك تنتمي إلى هذه الأمكنة، وهي تنتمي إليك دون مبرر. وكل هذا الحنين إنما يدل على انتمائك الحقيقي، والذي لا يصدأ ولا يُنسى.
آه.. ما الذي يحسُّ به مَن ليس لهم أماكن يحِنُّون إليها؟!
قبل يومين، اتصل بي صديقٌ من الحديدة، يهنئني برمضان. تحدثْنا بعض الثواني كالمعتاد، وكالمعتاد كان سيقول لي: “أي خدمات؟” ويقفل الخط؛ لكنه، هذه المرة، أطلق تنهيدةً، وبحسرةٍ قاتلةٍ، وقال لي: “آه.. دمروا الدُّرَيْهِمي! الدريهمي التي رمضانُ فيها جنةٌ ومن أيام الله، كنا نحس أنه شهرٌ مباركُ وكريم”. أحسستُ بمدى الحنين في كلامه هذا، وحاولتُ أن أواسيَه، وعلقت عليه: “رمضان عندك أيضاً مليح، والدريهمي ستعود بإذن الـ…”، قاطعني بيأس: “خير، المهم أننا نعيش رمضان هذه السنة على ذكرياتٍ، نتفطّر بها ونسامرها الليل”.
أحزنني هذا كثيراً، وأدخلَني في دوّامة من الحنين إلى كل تلك الأيام الخالية، والأشياء التي دمرتْها الحربُ وعواملُ الحياة. أشياؤنا ولحظاتنا الماضية، التي فاتت وماتت، إلا أنها تعيش معنا بالحنين، وستبقى ويبقى الحنين إليها يراودنا كلما سنحتْ له الفرصة، يتسللُ إلينا من اتصالٍ واردٍ أو من نافذةٍ أو من صفحات كتابٍ، أو بالأصح من حيث لا نعلم.
الحنين حالةٌ إنسانيةٌ لا بدَّ منها كي تتأكد أنك مازلتَ على قيد الحياة والنبض، ولم تتحولْ إلى صخرة؛ مازلتَ أنت، ومازال بين أضلاعك إنسانٌ وقلبٌ ينبض وتُحْييه المشاعرُ وتُدميه. تحِنّ لتعود إلى شخصك القديم، صاحب الفطرة النقية، فطرة الله التي فطرنا عليها، لنفطِر قلوبنا ونُفطِرنا بالحنين. ونحنُ، حين نحِنُّ، نظلّ على اتصال بالله، بالروح والمنزل الأول، دهاليز الجنة والهدوء، تطواف الملائكة وسجودهم، ونحِنُّ إلى الأسماء التي علَّمَنا الله -بادئ ذي بدءٍ- ونحاول تذكرها.
والحنين، كالحب، مَراتِب: أيْسرها ما كنت تعرفه، كالحنين إلى شخصٍ أو إلى زمنٍ ماضٍ، إلى شيءٍ ما، تتذكّره وتحِنّ إليه وتعيه جيداً. أما أقسى مراتب الحنين وأشدُّها فـ”هو ما لا تعيه”؛ ذلك الحنين الغامض الذي لا تُحيط به علماً. وهذا الحنين لا يلازم إلا الأنفس العالية، تلك القلوب المثقوبة بأشياء لا تعرفها! المهم أنها حادّةٌ وقاسية.
هل جرّبتم يوماً هذا الحنين الغامض؟!
لا، وربما نعم. كل الاحتمالات واردةٌ؛ كأن تجلس بين الناس وفجأةً تغيب عنهم، شارداً بين ذكرياتٍ بعيدةٍ وأشياءَ لم تعد تتذكرها منذُ مدة. لكنها فجأةً، وبدون سببٍ، سقطتْ عليك، أخرجتْك عن عالمك وعنك، وللحظاتٍ فقط، وما تلبث أن تزول، ويتلاشى هذا الحنين.
ثانيةً، وأنت على فراش النوم، وربما في الباص أو على طاولة المطعم، تنتظر أحدهم؛ بين دقائق الانتظار تلك، ومن نافذة المطعم، تتسلل إليك ذكرياتٌ قديمةٌ، ذكرياتٌ مبْهمةٌ وهشّةٌ عفا عليها الزمن. في تلك الدقائق، وبينما تحاول فهْمَها ومعرفة هذا الحنين، سيأتي صديقك الذي كنتَ تنظره، وسيخرجك من حنينك الغامض، ستنسى وتعود إلى واقعك وتستمر الحياة.
قليلاً، سيتوقف الحنين للحياة ومشاغلها، لمرور قطار العمر، ولنا لدى المراهقة وعند ربط الحذاء، للعمل وخلف سمّاعة التلفون، وفي ملء هذه الفوضى. الحنين سيتوقف قليلًا؛ لكنه لن يموت.
وسنمضي قُدماً -أيها الشيء الغامض- غير أننا سنتراجع، نتراجع بين اللحظة واللحظة، ونرجِعُ للوراء؛ العمر فقط هو مَن يتقدم. أما نحنُ، فنظل مأسورين لأشياء قديمة، لدهشتنا الأولى، للطفولة وأيامٍ وثيابٍ صَغُر مَقاسُها عنا وكَبُرْنا، كبرنا وكبر حجم الحنين وتوحَّش، كبُر ولم يعد يُعرف.
صنعاء
الأربعاء – ٢٤ إبريل ٢٠٢٠