"يمكن القول إن النصوص السردية بطريقةٍ ما خرجت إلى النور، وانفعلت، وتفاعلت، وتمردت في إطارها اللامحدود، حيث ظهر كُتّاب كثيرون على مستوى عالٍ من الإجادة، ولأنّ النص ابن لحظته وابن بيئته وعملية إغفاله اليوم ربما قادت لفقد الكثير من قيمه الجمالية والفنية (الكتابة السردية في اليمن، محمد جازم، ص123).
وللأسف، فإنّ هناك الكثير من الأعمال السردية التي صدرت خلال العشر السنوات الأخيرة، وهي ربما تؤرخ بطريقةٍ ما للحياة الاجتماعية والسياسية، ولم يلتفت لها النقاد والقراء على حد سواء، لأسباب كثيرة؛ منها عدم مواكبة النقد وعدم الترويج لها، بالإضافة إلى صعوبة وصولها إلى اليمن.
وتأتي رواية "سرير شاغر للموت"، في هذا الإطار، فهي رواية صدرت في العام 2016، عن مسارات للنشر والتوزيع (الكويت)، للكاتبة أسماء سليمان، وتدور حول الفتاة "حُلم" يتيمة الأم، وتعيش مع خالتها زوجة أبيها الأولى، حيث تتعقد علاقتها بها بذنب لم ترتكبه هي وإنما انتقامًا من والدتها الراحلة. وقد سلّطت الرواية الضوء على عدة قضايا اجتماعية وسياسية، وتداخلها من خلال الثيمة التي برزت خلال القراءة، وهي ثيمة "حضور المدينة"، و"رمزية الموت والحلم"، وتخللها تضمين الجانب الفلسفي برؤية جميلة، للكشف عن جوانب مختلفة من الحياة والوجود من خلال عيني البطلة "حُلم"، التي حملت عبئًا وذنبًا لم يكن لها يد فيه.
المدينة والموت هما وجهان أساسيان تدور حولهما الأحداث، حضور المدينة الكئيب والمفرح، وموت الرغبة، موت الثورات، موت الحب، حتى العنوان نفسه "سرير شاغر للموت" يشير إلى حضور الموت بشكل مباشر، ويظهر الموت في الرواية بصور عدة: الموت الحقيقي، كموت والدة حُلم، وابن حُلم لؤي، والموت الرمزي، كموت الأحلام والآمال والطموحات، والموت الروحي، كالشعور بالاغتراب والعزلة والانفصال عن الذات والآخرين.
رمزية الموت والحلم
يقول سمير عبدالفتاح في مفتتح روايته (السيد م): "الحياة ليست رواية واحدة، والموت كذلك ليس رواية واحدة"، وهي رواية تدور حول كابوس الموت، كما هو حال الرواية التي نتناولها هنا، حيث يحضر الموت ورمزيته بشكل كبير ضمن سياق القضية "الخطاب".
فالمدينة والموت هما وجهان أساسيان تدور حولهما الأحداث، حضور المدينة الكئيب والمفرح، وموت الرغبة، موت الثورات، موت الحب، حتى العنوان نفسه "سرير شاغر للموت" يشير إلى حضور الموت بشكل مباشر، ويظهر الموت في الرواية بصور عدة: الموت الحقيقي، كموت والدة حُلم، وابن حُلم لؤي، والموت الرمزي، كموت الأحلام والآمال والطموحات، والموت الروحي، كالشعور بالاغتراب والعزلة والانفصال عن الذات والآخرين.
وقد استطاع السارد أن يربط بين الموت والحياة، ليكشف عن حقيقة الوجود الإنساني وعمق التناقضات التي يعيشها الإنسان، ويأتي الحلم وهو العنصر الثاني الأساسي في الرواية، من خلال اسم البطلة حُلم، الذي يرمز إلى الأمل كما يرمز إلى الفجوة بين الواقع والأحلام، كما أن الأحلام تشكّل جزءًا مهمًّا من حياة شخصية البطلة وتؤثر بشكل كبير على مجرى الأحداث، ويستخدم الحلم بطريقتين؛ الحلم بصفته وسيلة للكشف عن الحقيقة، حيث تظهر في الأحلام جوانب مكبوتة ومخفية من شخصيتها، والحلم بديلًا عن الواقع، حيث تلجأ حُلم إلى التحليق هربًا من واقعها المؤلم؛ وبهذا تربط أسماء بين الموت والحلم لتكشف عن الصراع -بشقيه الاجتماعي والسياسي- الداخلي للإنسان وتناقضاته، وسعيه الدائم للبحث عن معنى للحياة، بالرغم من أن العنوان يُحيلك إلى رواية أحلام مستغانمي "عابر سرير"، غير أنّ رمز السرير الشاغر يقودك إلى موت الأب وانهيار النظام الأسري (المجتمع).
والموت هنا لا يظهر على أنه مجرد نهاية جسدية، بل يتخذ عدة أشكال، كما ذكرنا، فالموت هو نقطة تحول في رحلة حُلم، وهو الموت الذي رافقها حتى النهاية، وخلال رحلة الموت يدور الصراع مع خالتها التي تمثل رمز السلطة والهيمنة الاجتماعية داخل البيت (المجتمع)، ويتجسد خلال الصراع بين الرغبة والواقع الذي قام على علاقتهما الإجبارية، التي أظهرت الجوانب السلبية "المعروفة" في زوجة الأب. "ها قد جاء الصباح بكل ما يحمله من وجع، كل المواجع في هذه الحياة تبدأ كبيرة، ومع الأيام تصغر إلى أن تصل حد التلاشي. وحده الحزن من يعاشرني، ووحده اليأس يصر على أن يقتات من بقايا الأمل في قلبي، ووحده صوت خالتي يجلجل في كل إنحاء المنزل" (ص7)؛ تطلّ الرواية بهذه البداية المفتوحة على مآلات عدة، وكلما واصلنا القراءة يتضح لنا قدرة الكاتبة وأسلوبها، فتمكُّنها من الاهتمام بالتفاصيل والتركيز على حضور الموت، يجعلان القارئ يعيش "الموت" من قدرتها على تمثل الفكرة.
وقد استخدمت الكاتبة رموزًا عدة في الرواية؛ منها التاريخ المكتوب في بداية كل فصل، ودفتر المذكرات، واليد التي عليها الأمصال، وصالة الطوارئ في المستشفى، وأغاني أيوب التي تحيلك مباشرة إلى الحفاظ على الوطن والوحدة من خلال علاقتها بقصة الحب وعلاقتها بخالتها زوجة أبيها الذي لم يظهر طوال الأحداث، وهذه الرموز لا تظهر منفصلة عن بعضها، بل تتشابك لتشكل النسيج الأساسي للرواية.
تحمل المدينة في الرواية مستويين؛ الأول هو في حالة الكآبة، وهي مهد فارغ للموت في مرحلةٍ ما، وهي الجنة الموعودة للعشاق في مرحلة أخرى، وهو المستوى الثاني، ففي حالة الكآبة تحمل دلالات وتداعيات استطاعت فيها الكاتبة أن تسردها بشكلها المتداعي دون التدخل في مسارها، من خلال السارد الذي كثف مشاعر العزلة والمنفى "الاختياري" والانفصال لدى حُلم، فهو يعكس مشهد المدينة القاحل والبارد، وهو ما يؤدّي إلى عودتها إلى الداخل وتعميق تلك المشاعر.
حضور المدينة بشقيه
كما استدعت الراوية مدينة صنعاء القديمة عن طريق والدتها التي عشقت المدينة، والحبيب "كريم" الذي يملك محلًّا لبيع وتشكيل الفضة، وهو ما جعل صنعاء القديمة حاضرة من خلال رحلة العشق المشترك بينهما؛ فهو العاشق للمدينة القديمة بكل تراثها حتى النخاع، وهي الجنوبية المسافرة في رحلة عشق صنعاء، المدينة التي اكتسبت خصوصيتها في رحلة الحب.
"ياه! لا أستطيع الوصول إلى حدود تلك السعادة التي غشيتني يومها وأنا أتوسط كل تلك العنابش والدقق والحروز والمَشاقِر والعصب والحجول والأساور التي تسمى (الشميلات)، فكل شيء أمامي كان يعبر عن هُوية ثقافية متميزة في ألقها وبهائها" (ص52).
تحمل المدينة في الرواية مستويين؛ الأول هو في حالة الكآبة وهي مهد فارغ للموت في مرحلة ما، وهي الجنة الموعودة للعشاق في مرحلة أخرى وهو المستوى الثاني، ففي حالة الكآبة تحمل دلالات وتداعيات استطاعت فيها الكاتبة أن تسردها بشكلها المتداعي دون التدخل في مسارها، من خلال السارد الذي كثف مشاعر العزلة والمنفى "الاختياري" والانفصال لدى حُلم، فهو يعكس مشهد المدينة القاحل والبارد، وهو ما يؤدي إلى عودتها إلى الداخل وتعميق تلك المشاعر.
ولأن العزلة تؤدي إلى الحوارات الداخلية فهي تضخم المشاعر والشوق، وهو ما ساهمت فيه خالتها زوجة أبيها، وموت والدتها زاد من تلك المشاعر؛ مما دفعها للبحث داخليًّا عن طرق الخروج إلى المستوى الثاني من حضور المدينة داخليًّا عن طريق قصة الحب مع كريم، وهو المستوى الذي انتقلت فيه حُلم إلى فضاء الحلم والخيال، وتتلاشى فيه معالم القبح والبؤس بما ينسجم مع حالة السعادة التي تعيشها، فيحضر حتى الموت بكامل أناقته.
"أيها الموت، تبدو لذيذًا وإلا لما نمَت الحدائق فوق قبورك، ما زالت الأقدام تحوم أمام باب الغرفة منذ ست ساعات، أسمع أصوات أقدام كثيرة تعبر ممرات المشفى، بدأ النشاط يزحف متثاقلًا في هذا المكان الكئيب" (ص101).
يتبين تعامل حُلم مع عشقها، وهي الفتاة الجنوبية التي لديها مساحة كبيرة من الحرية، وهو التعامل الذي يعيد تشكيلها من خلال "كريم" حبيبها ذي الجذور القبلية، الذي رضح لأهله رغم الانفتاح الذي كان يمثله، وهو ما جعل حضور العادات والتقاليد كموت رمزي يضاف إلى الموتات السابقة، وتصبح المدينة مرآة عاكسة للمشاعر المتناقضة، حيث تعبر عن الفرح والشغف، كما تعبر عن الألم واليأس والافتقاد.
إضافة إلى أن تداخل الزمان والمكان أضفى على الأحداث طابعًا شعوريًّا للقارئ الذي يجد نفسه مندمجًا مع الأحداث، ويحاول أن يجد معنى لها في ظل الفوضى والصراعات التي يبحث فيها السارد عن الهوية الذاتية وهوية الوطن الذي ينتمي إليه، وهي القضية التي تعتمل داخل السارد والقارئ في آن واحد.
الصراع الذي يدور بينهما حول هوية كلٍّ منهما هو صراع بين نقيضين، الانفتاح والانغلاق، في الوقت الذي تظهر فيه قيم ومعايير جديدة، ما زالت العادات والتقاليد حاضرة وبقوة بيننا، وهذا الموت الرمزي يعكس أزمة الهوية والانتماء لدى الجيل الجديد الذي يحاول الانطلاق بينما موت آخر يقيده، وهو يعكس الصراع الوجودي والروحي للإنسان، وبحثه عن المعنى والهوية في ظل واقع قاسٍ ومحبط ما زال يقيده إلى الماضي.
العادات والتقاليد "الموت الدائم"
برزت العادات والتقاليد في الرواية من خلال عادات الزواج بين أهل الشمال والجنوب، والنظرة التي يحملها بعض أهل الشمال للمحجبات بأنهن متبرجات، ومن خلال حديث كريم عندما فاتحته "حُلم" في موضوع الزواج قائلًا إن أهله سيرفضون زواجه منها بسبب عاداتهم وتقاليدهم، وأن عليها أن ترتدي النقاب كمرحلة أولى حتى يوافق أهله على زواجه بها، بعد أن خاض صراعًا معهم لأجلها، وهو التنازل الأول لها، وهي إشارة إلى أن "الوحدة السياسية" بين النقيضين سوف تفشل، وهو ما آلت إليه العلاقة بعد ذلك رغم قصر فترة زواجهما الذي لم يستمر سوى شهر واحد، بحجة أنها من أسرة "مزينة" بعد أن تدخلت الخالة لتُفشل الزواج، وتنتقم من والدتها التي تزوجت زوجها بعد أن رحل بعيدًا عنها.
يدور الحوار بينهما (ص58-59):
- حُلم، ثمة أشياء قد تموت إن خرجت من أعماقنا، منها الاعتراف بالحب.
- الاعتراف بالحب حياة، وليس موتًا.
- لكنه بالنسبة لي موت، تعرفين بأنك من الجنوب وأنا من الشمال عاداتنا وتقاليدنا مختلفة، إضافة إلى أنني من طبقة لها مكانتها وغرورها في المجتمع حتى لو رغبت بالزواج منك لن تسمح لي قبيلتي التي أنتمي لها، سيقفون أمام قراري بالسلاح وسيجبرونني على الزواج من أي فتاة من نفس مستوى عائلتي. حُلم، بعد الزواج تنتهي التفاصيل الجميلة للحب، لا تفجعي حبنا بطلبك القاتل هذا، دعينا نعيش الحب من أجل الحب، هذا هو الحب الحقيقي.
- حُلم، لا تقتليني بالغياب.
- أنت من قتل الحب.
- لستُ أنا، القبيلة هي من فعلت ذلك.
وهذا الصراع الذي يدور بينهما حول هوية كل منهما هو صراع بين نقيضين، الانفتاح والانغلاق، في الوقت الذي تظهر فيه قيم ومعايير جديدة، ما زالت العادات والتقاليد حاضرة وبقوة بيننا، وهذا الموت الرمزي يعكس أزمة الهوية والانتماء لدى الجيل الجديد الذي يحاول الانطلاق، بينما موت آخر يقيده، وهو يعكس الصراع الوجودي والروحي للإنسان، وبحثه عن المعنى والهوية، في ظل واقع قاسٍ ومحبط ما زال يقيده ويجره إلى الماضي.
استطاعت الكاتبة أن تسير بتحولات الشخصية المتغيرة، ابتداء باختيار السارد، وانتهاء بأن تجعل القارئ يذهب معها نحو فكرة الموت حتى النهاية، وبالرغم من أن هناك بعض الهنات في الرواية بجانب بعض الجُمل الطفولية، فإننا نستطيع أن نعتبرها ضمن حالات عودة الذاكرة للطفولة، والنهاية المفتوحة على المآلات هي رسالة بأن رحلة الموت لم تنتهِ، ورحلة المجتمع و"الوحدة" ربما ما زالت في بدايتها.
"لم أعد أحتمل نظرات الشفقة المستلقية على وجهي من عيون الممرضات، بدأت أشعر بالانطفاء البطيء. سأغمض عينيّ. أسمع صوتًا ينادي باسمي، ويد مرتجفة تلامس كفي! أفتح عينيّ بصعوبة، يكاد قلبي يجزم بأنه أنت...
وحروف درويش تنزلق من فمي دافئة:
والآن أشهد أن حضورك موت
وأن غيابك موتان
والآن أمشي على خنجر وأغنّي، قد عرف الموت أني أحبك" (ص102)