(1)
زيد مطيع دماج أحد كتاب القصة السبعينيين، الذين انهمكوا في تصوير حالة التحول في اليمن، من خلال إعادة تمثيل العديد من الحكايات والمشافهات، التي ارتبطت بالعهد المتوكلي الإمامي، ومن ثَمّ توظيفها جماليًّا في إبراز واضح لصوت الإدانة لتلك الحقبة. و"يحتل الفن القصصي لدى زيد، المساحة الأوسع في نتاجه السردي؛ وقد يكون ذلك بسبب إيمانه بأن فن القص هو فن اللحظة التي تلتقط الأهم والأكثر سخونة من قضايا الواقع"، كما تقول د.حفيظة شيخ، وقد "صنع لنفسه موقفًا خاصًّا في مجال القصة اليمنية القصيرة، بخاصة، سواء في اختيار موضوعاته الساخنة، أم لغته القريبة من القلب، أم في تعامله الواعي والذكي مع الرموز"، كما يقول د.عبدالعزيز المقالح، و"تتميز المعالجات القصصية عنده بمنحاها الاجتماعي، المتكوّن عبر رؤية فكرية انشدَّ إليها الجيل الذي ينتمي إليه، كقناعات لتأكيد ضرورة التغيير الذي آمنوا به. وتعكس تلك القناعات اعتراضاته على السائد من قيم متوارثة جهلًا وتقليدًا، في ظل تغييب الوعي داخل المجتمع، كمظهر للتخلف الذي بنى على أساسه النظام والقوى التي تحكمت في السلطة في اليمن قبل قيام الجمهورية"، كما يكتب د.حاتم الصكر.
تتحول الحكاية في المدونة السردية الشعبية ومشافهتها في كثير من قصص زيد إلى نوع مختلف التصوير، يتكثف فيما يمكن اختزاله بالدهشة التي تصير حالة مختلفة للتلقي، فـ"اللَّذة والإمتاع هي الجانب الإبداعي عند زيد، التي تستمد أصولها وجذورها من الذاكرة الثقافية الشعبية ومن المخيلة الشعبية أيضًا"، حسب هشام علي.
الالتفات إلى أعمال زيد دماج القصصية "يجعلنا نقول إن معظم حكاياته هي حكايات سياسية، ولكن بأسلوب القاصّ الذي يصنع الأحداث في قلب النظر الأدبي، ومن ثَمّ يقوم برسم شخصياته القصصية رسمًا عفويًّا صادقًا، وفي بناء دراميّ أصيل هو درامية الواقع نفسه"، كما يقول عبد الله علوان.
وقضية الهجرة بدوافعها الاجتماعية المباشرة، وأحيانًا ضغوطها السياسية، واحدة من متكآت الكتابة في تجربته القصصية الثرية التي بلغت خمس مجموعات، صدرت بين 1973 و1998، إذ احتوت هذه المجموعات على أربعة نصوص تامة التعيين ابتدأت بنص "العائد من البحر" في مجموعة طاهش الحوبان، وآخرها نص "قصة مهاجر حقيقي" في مجموعة "المدفع الأصفر"، وبينهما نصان آخران عنوان الأول "الذماري" في المجموعة الأولى، والثاني في المجموعة الثالثة "الجسر"، وعنوانه "خلف الشمس بخمس".
كل النصوص تقارب حالات الهجرة في الزمن المتوكلي الإمامي، الذي تشير إليه صراحة تعيينات الوقت والمكان وترميزات سلطة الحكم ذاتها، التي لعبت الأدوار المتقدمة في هجرة الأشخاص، بفعل استبدادها وتخليها عن دورها الاقتصادي والاجتماعي حيال المجتمع.
في النصوص المقروءة تتعين دوافع الهجرة، ولو بشكل مضمر، وتتضح أسباب العودة، وتاليًا الدوافع الجديدة التي تحمل نفس المهاجرين إلى اتخاذ قراراتٍ بعضها مأساوية للتخلص من العبء الذي تريد السلطة القاهرة تحميلهم إياها؛ بسبب هذه العودة.
في نص "العائد من البحر"، في مجموعة "طاهش الحوبان"، يتظهر المهاجر باسمه "علي بن علي"، لقد عاد ومعه المال الكثير، يلبس الأبيض والأزرق، ولديه بندقية زكي كرام، وجنبية مذهَّب، وحذاء من "عدن"، ويشرب السجائر الفاخرة، ويُحمل له الماء البارد في ثلاجة صغيرة أينما ذهب، ليقيل في مقايل القات.
يعود إلى قريته دون علم الشيخ، ويبتني مسكنًا في أرض بور على أطراف القرية، كان قد رسم تفاصيله بمخيلته منذ كان مهاجرًا، يشتري أرضًا من فلاح، ويخطب ابنة فلاحٍ آخر أيضًا دون علم الشيخ، وحين يعلم الأخير يستخدم كل الأساليب لتركيع المهاجر، تبدأ أولًا بتنفيذ العسكر عليه، وحين يرفض الحضور، يُتهم بالاعتداء على العسكري، فيضطر عمه إلى "تهجير" (إرضاء) الشيخ بثور، لكن علي يرفض الإذعان، ويطلب أن تحال قضيته إلى الحاكم، وحين يصل إلى مقر الحاكم في "المقام الشريف" يجد أمامه وكيل الشيخ، الذي يدعي قيام المهاجر بتزوير أوراق شراء الأرض، وأنه ليس لديه مسكنًا في الأصل في قرية الشيخ، فيطلب المهاجر العائد من الحاكم شخصيًّا أن يخرج إلى القرية للتحقق من كذب ادعاء وكيل الشيخ، وحين يصل الحاكم إلى القرية بموكبه، يطلب منه أن يريه مسكنه، وحينما يصلان مع الجموع الغفيرة إلى المكان، لم يجدا المبنى، ووجدا بدلًا عنه أرضًا مفلوحة، بدأ الزرع ينبت فيها، ولا أثر للبناء ومخلفاته من أحجار وأخشاب، وفي غمرة دهشته واستغرابه، يقترب من الحاكم وبندقيته متدلية إلى الأمام، بيده تترنح، وأشار الحاكم نحو عساكره فتحركوا نحو علي بن علي ليطوقوه، ولما اقتربوا منه دوت طلقة نارية، سقط على إثرها الشيخ مضرَّجًا بدمه.
"خلف الشمس بخمس" تقوم فكرته على مغادرة شاب فقير، لقريته في جبل بعدان باتجاه مدينة عصب، "تلك المدينة التي راودت خياله دائمًا منذ بدأ غيره من شباب القرية والعزلة والناحية يهربون إليها من الفقر والجوع الذي صنعه عساكر ومأمورو الإمام يحيى".
في نص ثانٍ في ذات المجموعة عنوانه "الذماري" تتكرر مأساة المهاجر العائد، من خلال شخصيةَ عائدٍ من وراء البحار، كان يعمل بحارًا ويجيد العديد من اللغات يعرف باسم الذماري، يصل صنعاء بعد عام من فشل حركة 1948 الدستورية، بملابسه العصرية وهيئته المتمدنة التي تثير الريبة في مدينة مغلقة ومحافظة. يسكن في سمسرة "وردة"، فتنشأ بينه وبين المقهوية علاقة ألفة، وحين يذهب إلى مقر عامل صنعاء، للحصول على وظيفة مترجم للطبيب الإيطالي الوحيد في البلاد، يتعرض للنصب من أحد العساكر، حين يوهمه بشراء هدية للحاكم من محل أقمشة، يمكنه بواسطتها الحصول على الوظيفة، وحين يشكوه صاحب محل الأقمشة للحاكم لعدم وفائه بسداد المبلغ، يتعرض لابتزاز جديد من كاتب الحاكم، وحين يرفض الإذعان يُرمى في سجن "الرادع" (أحد أشهر السجون في صنعاء)، لا يخرج منه إلا بعد تعيين حاكم جديد، وبشرط عدم بقائه في صنعاء.
"خلف الشمس بخمس" عنوان النص الثالث المقروء، وهو ضمن محتوى مجموعة "الجسر"، وتقوم فكرته على مغادرة شاب فقير، لا يمتلك غير مئزر يغطيه من الركبة إلى السرة، لقريته في جبل بعدان باتجاه مدينة عصب، بعد أن ضاق به الحال، وأكلت "الشريعة" (التقاضي) كل ما يمتلكه الأخ الكبير، وبعد رحلة مضنية يكون فيها الناجي الوحيد من غرق زورق متهالك ركبه مع آخرين، يصل إلى عصب، "تلك المدينة التي راودت خياله دائمًا منذ بدأ غيره من شباب القرية والعزلة والناحية يهربون إليها من الفقر والجوع الذي صنعه عساكر ومأمورو الإمام يحيى".
وبعد حياة قاسية في المدينة، كان يقتات بها من السرقة، بمعية أحد أهالي قريته، عمل بمغسلة إحدى البواخر، فجاب معها كل الأصقاع، وحين تبقى الباخرة التي يعمل عليها لأشهرٍ في مدينة ليفربول للإصلاح، يتعرف على إنجليزية شقراء تزوجته لأنه من بلاد البن "المخا"، يفتح معها بقالة وينجب منها خمسة أولاد، وبدلًا عن مواصلة عمله في البحر، عمل في مجال مراهنات سباقات الخيل التي كان يكسب منها كثيرًا.
"انفجار الحرب العالمية الثانية، وتوقف سباقات الخيل والملاحة، وبين أزيز صفارات الإنذار ودوي القنابل، وأضواء الكاشفات، والمناطيد المعلقة والخراب والدمار في كل مكان، جرَّب حظه في تجارة جديدة، تجارة الأسلحة، إلى أمريكا اللاتينية وإلى الشرق الأوسط والأدنى والأقصى، ونجح وتسلطن كتاجر أسلحة. انتهت الحرب وقد أصبح ثريًّا".
يتزوج من مغنية ملونة تعرف عليها في حانة، لا يدري من أين قذفت بها الحرب ويجوب معها العالم، ومنها البرازيل التي كان يحلم بزيارتها، وحين يملّ يطلقها، وبعد أعوام يحن إلى بلاده. يصل المخا فيجدها مدينة أطلال ولم يعد هنالك أي أثر لتجارة البن فيها، وبعد انتظار لأيام للسيارة الوحيدة التي تنقل أشياء الإمام، وصل إلى تعز- العاصمة الجديدة للإمام، ومنها إلى إب، وحين يصل إلى قريته يسبقه حمار عليه ملابسه وجهاز الراديو وآلة الطرب، يُستقبل ويحتفى به لأيام.
وجد القرية بذات الكيفية؛ "الشريعة ما زالت كما هي مع غريمهم، المخمنون والكشافون وعساكر الأمير والعامل والحاكم، تنهال على قريته كما كانت في أيامه، لا شيء تغير سوى أن قبة الفقيه قد تهدمت، وأن بيت الله الصغير قد كُسرت بعض أخشابه، مما أدى إلى تسرب مياه الأمطار إلى داخله، وحين يعرف الحاكم بالراديو وصندوق الطرب يأمر عساكره بإحضارهما، سلَّم الصندوق والراديو ودفع غرامة مالية ورشوة كبيرة للجند حتى لا يأخذوه إلى السجن. وانتهى ما لديه من نقود، وباع ما تبقى لديه من أشياء، حتى ملابسه، لكي يسدد عن أخيه أعباءه التي تراكمت بوصوله".
النهايات المقترحة للشخصيات المهاجرة التي عادت إلى القرى والمدن هي ردود أفعال طبيعية لأشخاص لم يعد الإذعان متحكمًا بوعيهم وقراراتهم، بعد أن أكسبتهم الهجرة طرائق جديدة في التفكير
من جديد لبس المئزر الذي يغطيه من السُرَّة إلى الركبة، وغادر من جديد الى عصب، بذات الكيفية التي هاجر إليها في المرة السابقة شابًّا، ومُودعًا من أخيه الكبير بذات السخرية "بعد الشمس بخمس"، أي اذهب إلى آخر الدنيا غير مأسوف عليك.
"قصة مهاجر حقيقي" عنوان النص الرابع من نصوص زيد القصصية التي تعنى بموضوع الهجرة، وخلاصته أن مهاجرًا يعود من مرسيليا عبر أسمرة، وكان كل الذي يشغله كيف يصل بهدية معتبرة لشيخ القرية، بعد تجوال طويل بين المرافئ والموانئ، فلم يجد أفضل من بندقية "أبو ناظور" وزجاجة نبيذ فاخر.
بعد رحلة مضنية يصل إلى قريته ليلًا فوق حمار متهالك يصل "مرهقًا وكان بحاجة للنوم، عذرته زوجته قبل والدته إشفاقًا عليه، لكنه رغم ذلك لم ينم، كانت لا تزال هدايا الشيخ في هاجسه، ترى كيف سيقابل الشيخ؟! وهل الهدايا لائقة؟!
وحين يصل إلى بوابة دار الشيخ المسمى بدار الزهور وساحته، تفاجأ بعدم وجود زهور أو أي نباتات خضراء عكس ما كان يتوقع، فقد وجدها "قطعة جرداء ممتلئة بروث البقر والبغال التي تقطن الدور الأسفل من الدار، وعشرات الخرفان التي يسوقها المزارعون كل يوم، وبعض من الحطب الشوكي اليابس الملقى هنا وهناك".
يُستقبل بعدم اكتراث من قبل الشيخ وضيوفه، لكنه حين يقدم هديته للشيخ يتغير الوضع، إذ يُجلس في مكان قريب من الشيخ، ويُعطى من قاته الفاخر، ثم بعد حين يسأله عن الرحلة ومشاقها، وكيف وصل إلى البلاد؟
بدأ يقص رحلته منذ مغادرته لميناء مرسيليا في بلاد الفرنجة، وكيف تنقل من ميناء إلى آخر، ومن بلدة الى أخرى ومن بحر إلى بحر!!
لم يعر الشيخ أو أي من حضوره ذلك اهتماماً، وحين قاطعه الشيخ بالسؤال عن كيفية وصوله من أسمراء؟! أجابه جوًّا، فوق السحاب، وتارة تحتها، على الطائرة، حديد يطير في السماء وعليه مسافرون؟! نعم، يا سيدي. وحين اعتقد الشيخ بأن المهاجر يسخر منه، أمر عساكره بسجنه وتكبيله بالحديد، لكن حينما أغارت طائرات بريطانية في عام تالٍ على القرية تذكر الشيخ المهاجر، فأمر معاونه إحضاره من السجن، عله يفصح عن مكنونات ذلك الوحش الحديدي الطائر، وسرعان ما عاد المعاون، ودنا منه وهمس في أذنه: لقد هاجر من جديد، إلى "وراء البحار" منذ مدة، ولم يعد حتى الآن!
(**)
النهايات المقترحة للشخصيات المهاجرة التي عادت إلى القرى والمدن هي ردود أفعال طبيعية لأشخاص لم يعد الإذعان متحكمًا بوعيهم وقراراتهم، بعد أن أكسبتهم الهجرة طرائق جديدة في التفكير، أقلها العودة مرة أخرى إلى حيث أتوا، إن لم يتخذوا قرارًا أصعب، وهو التخلص من مركز الظلم، كما حصل مع شخصية نص "العائد من البحر" علي بن علي، حين يقوم بقتل الشيخ.