يخبرك الأسفلت، في مرور عابر لك في "ساحة التغيير" بصنعاء، أن ثمة من عبروا هنا قبل عشرة أعوام، اختلف أو اتفق الشهود على شكل العبور ذاك، وما إذا كان له رائحة التراب والأرض أم الخيبة والندم .
فبعد عشرة أعوام من ثورةٍ شبابية أطاحت بنظام حكم لثلاثة عقود؛ بقيت شواهد صغيرة حاضرة من عبق الربيع ذاك، في المكان وفي أذهان من لا يزالون يراهنون على زهوره وذكراه العصية على الاقتلاع.
في قلب الساحة النابض تبرز منصة تتوارى خلفها بشكل جميل جامعة صنعاء، يذكرك طواف شباب حولها متجهين نحو الحرم الجامعي بقداسة أحلام عُمّدت بالدم، لا تدري لو أطل أصحابها، من مقبرة لا تبعد كثيرًا عن المكان، ما سيكون رأيهم بثورتهم بعد مضي عشرة أعوام عليها.
ولصعوبة قول الحقيقة على الموتى، تقف مشدوهًا أمام منصة الثورة، تفتش عن أحدهم ليقول شيئًا. يمر الجميع مشغولين بما في أيديهم من مشاكل وأحزان، لا نظرات تحملق ولو قليلًا في المكان، ولا يد ولو مبتورة يمكنك التجول معها في أنحائه لهش بضعة ذبابات لوثت الفكرة واكتفت بقطف ما أمكنها من عبقها.
وحده بائع البطاط، خلف منصة الساحة، يلفت انتباهك بأغنيات وطنية ثورية لأيوب طارش، كما لو كانت الثورة في أول أيامها. كانت ثورة شعبية حتى طغى عليها التوجه الحزبي والقبلي والديني، فحرفها عن مسارها.
خيبة وأحلام مجهضة
واضعًا ساقًا على ساق، حول نافورة لا تعمل تتوسط منصة ساحة التغيير، يعبر لـ"خيوط" نصر الصوفي، وهو طالب في كلية الشريعة، عن أسفه لما تلى ثورة 2011.
لن تنطفئ جذوة هذه الثورة في قلوب اليمنيين المؤمنين بها، ولن يتنازلوا عن أحلامها العظيمة، كما لن تدفعهم صعاب الطريق إلى اعتناق اليأس والنكوص عن درب الثورة
الصوفي وصف أحداث فبراير، بالثورة الشعبية ضد الفساد الذي استشرى في نظام علي عبدالله صالح، قائلًا: "لقد كانت ثورة شعبية، حتى طغى عليها التوجه الحزبي والقبلي والديني فحرفها عن مسارها. كانت الثورة بحاجة إلى حركة تصحيحية شعبية لنسف التوجهات التي حرفتها عن مسارها"، يتنهد مضيفًا": "أما آمالنا بها فتلخصت في بناء دولة حداثية ووطن قائم على العدالة والمساواة، ولا ميزة فيه بين طائفة وأخرى، إلا أن ما حدث لاحقًا خيّب الظنون وأنهى الآمال"، ينهي الصوفي حديثه.
وعلى حصير في حرم كلية الإعلام، يشاطر الصحفي عبدالسلام قطاوش رأي الصوفي بشأن أحداث فبراير 2011.
قطاوش، الذي تحدث لـ"خيوط" رأى أن الثورة لم تخرج بتغيير جذري، فحين "كان يفترض أن تغير من الحال السيئ إلى الأحسن، فعلت العكس".
وعن "من يتحمل مسؤولية تبعات الثورة وانحرافها عن مسارها؟" برأيه، قال إن النخبة المعارضة والرئيس هادي إضافة إلى الرئيس الراحل علي صالح؛ هم من يتحمل مسؤولية إفراغ الثورة من مضمونها.
"علي عبدالله صالح سلّم للرئيس هادي المعترف به دوليًّا، دولة بدون نظام، وبقي يديرها من خلف الستار بعد ثورة فبراير"، يضيف قطاوش.
"كانت لدينا آمال كبيرة؛ أن تخرج الثورة بنتائج جيدة، تحارب الفساد وتبني المدارس والجامعات، تدير البلد إدارة صحيحة، ترتقي باقتصادها المنهك، إلا أن شيئًا من هذا لم يتحقق، بل عاد كل شيء إلى الأسوأ"، يقول قطاوش.
تلتقي معهم في الرأي إيمان البشاري، وهي خريجة لغات، حيث لا ترى في فبراير ثورة بمعناها الحقيقي، بقدر ما كانت "حركة احتجاجية أدت إلى تغيير رأس السلطة فقط، وانتهت بتسوية سياسية".
وعن آمالها تحدثت البشاري لـ"خيوط" قائلةً: "تطلعنا لدولة يتساوى فيها الجميع وتتوزع فيها الخدمات بالتساوي، تتحقق فيها نهضة تعليمية، يتلاشى فيها أي اعتبار قبلي، يجد فيها الجميع تعليمًا مجانيًّا وفرص عمل، وقانونًا يحمي الجميع من الاستغلال".
نقطة تحول في التاريخ اليمني الحديث
وعلى النقيض من الاثنين، يرى أحمد قحطان، وهو طالب في كلية الطب، أن 11 فبراير كانت نقطة تحول في التاريخ اليمني، "عليها علقنا الكثير من الآمال، أبرزها انتهاء حقب من الفساد والاستبداد، والبدء بالتأسيس لدولة مدنية حديثة"، يقول قحطان لـ"خيوط".
يضيف: "من الإجحاف تحميل فبراير وثورة الشباب ما تبعها من أحداث وانقلابات، يتحمل مسؤوليتها صالح ونظامه، وكذلك القوى الإقليمية والدولية".
وكما ينظر كثيرون للمبادرة الخليجية آنذاك، رأى فيها قحطان أنها "المسمار الأكبر في جسد الثورة، والضربة القاصمة التي أدت إلى نصف حل للثورة وما تبعها من انقلابات وصراعات تعاش حتى اللحظة".
يوافقه في الرأي وأبعد، عبدالله شروح، وهو طالب هندسة مدنية، حيث رأى أن ثورة فبراير "جاءت في وقتها، كضرورة وكسبيل وحيد لتجاوز حالة الانسداد التي كانت قد وصلت إليها البلاد، لا سيما على الصعيد السياسي، وأيضًا لحماية الجمهورية من السعار الذي أخذ يبديه النظام الحاكم حينها، وبخطوات عملية صريحة ومتسارعة، لتكريس التوريث وإفراغ الجمهورية من معناها تمامًا"، يقول شروح لـ"خيوط".
تشاطرهم الرأي، الناشطة باسمة علي، حيث ترى أن ثورة فبراير كانت "نبراسًا تشع منه أحلامنا بيمن جديد، ووطن جديد، نحبه، ويبادلنا حبًّا بحب. يمن الجميع، يمن لكل أبنائه، يمن يقتلع الطغاة واللصوص من جذورهم. يمن ينافس بشرف، ويباهي بعقول وسواعد أبنائه أمام العالم".
وعن الحاضر وما آل إليه الوضع بعد فبراير 2011، قالت باسمة لـ"خيوط"، إنه "يطل بحزن على يمننا وأحلامنا له وفيه، لكننا، ورغم ذلك، مؤمنين بأن الثورة لا تموت، وبأن الشعب لا يموت، وبأن دماء فبراير ستظل شعلة وهّاجة في سماء التطلعات والحرية. شعلة ستأخذنا لأحلامنا وتجلب اليمن المنشود إلينا"، تنهي حديثها.
مجردون من عوامل الانتصار
في ذات الصدد، يتحدث لـ"خيوط" وسام محمد، صحفي وكاتب، عن مرور عقد على الثورة، خائضًا غمار تفاصيلها بالقول إن "العمر السياسي للشباب الذين بادروا لإشعالها لم يتعدَ بعدُ عشرَ سنوات، لقد قمنا بالثورة بدون أي برنامج، الثقافة السياسية السائدة لم تساعدنا على بناء رؤية واضحة".
"العدة التي كانت لدينا هي عدة المنظمات غير الحكومية، وثقافة الديمقراطية الشكلية وحقوق الإنسان"، يتابع محمد.
"كان قد تم تدمير التعليم بشكل ممنهج، لهذا عندما اندلعت الثورة كنا شبه مجردين من شروط انتصارها"، يضيف، "لهذا تسيد هذا الوضع وفشلنا حتى الآن في إنتاج أطرنا التنظيمية وبناء استراتيجية ثورية واضحة، وذلك يعود إلى كوننا عند الحديث عن الثورة نتوقف عند سنة 2011، بل عند الأشهر الأولى للثورة ثم نتوقف ونحيل الواقع الراهن إلى أطراف وسياسات أثبتت فشلها بل وقامت الثورة ضدها"، يتابع وسام محمد حديثه.
أما عن الآمال والتطلعات حينها، فيرى أنها "مرتبطة بوجود برنامج يطرح إشكال الواقع القائم كجزء من مهام الثورة، بدون ذلك نحن نستسلم ونسلم أنفسنا لليأس ثم لاستباحة الأحلام، والأكثر كارثية تسليم مستقبل البلاد لقوى رجعية مستبدة أكثر بشاعة من النظم التي ثرنا عليها".
وهج لا ينطفئ
على الرغم من الانتكاسات التي تلت الربيع، وتشظي البلاد في حروب دائرة رحاها منذ أكثر من ستة أعوام؛ لا يزال بعض شبابها متمسكًا بها ومعلقًا عليها آمال الخلاص.
من أولئك، وائل عفيف، وهو مهندس مدني، يرى في الأحداث الدائرة منذ فبراير 2011، عوامل محرضة له على التمسك بفكرة الثورة وصوابيتها.
"كواحد من ثائري فبراير، لم تزدني إلا إيمانًا وتمسكًا بمبادئها؛ تلك التحديات والإرهاصات التي اعترضت طريق الثورة، وحاولت إعاقتها عن الوصول إلى أهدافها وتطلعاتها"، يقول عفيف لـ"خيوط"، وكثائر يعرف غايات ثورته، أعي جيدًا من هم أعداء ثورتنا وحلمنا في بناء وطن كما أردنا وأرادت ثورتنا، وكلما اشتد الكيد عليها زدتُ يقينًا بأن نصرها قادم حتمًا وإن تأخر"، يضيف وائل.
"لن تنطفئ جذوة هذه الثورة في قلوب اليمنيين المؤمنين بها، ولن يتنازلوا عن أحلامها العظيمة، كما لن تدفعهم صعاب الطريق إلى اعتناق اليأس والنكوص عن درب الثورة درب الحرية والكرامة والخيار الوحيد لبناء الوطن الذي يستحقه اليمني"، ينهي عفيف حديثه.