لمحته يتجاوز الشارع بالعرض، فاعترضته وسلمت. سؤال عن الحال؟ وجواب يمني أصيل: زي الزفت، يلعن أبوها بلد! دائمًا نمارس الهروب حتى في الوعي الباطن فلا نتحمل المسؤولية، وبالتالي لا نبحث عن حلول، ونواصل الهروب: ربك سيعدلها. نحس بالارتياح، فنذهب الى أسرتنا أو إلى الدواوين ننتظر حصول المعجزات، فلا تحصل، بل تتفاقم مشكلاتنا فنواصل الهروب، أما إلى أين؟ فإلى لا شيء. فيمدد أي نظام ولا يبالي! وينتصر الجهل ليصبح سيدًا للحياة.
من جانبه يفاقم مشكلاتنا ويحصرها في زاوية اللقمة، ولذلك ترى الجميع حتى في الحروب يبحثون عن رزق وليس عن قضية؛ لأن لا قضية وطنية طوال الوقت أجمع الناس عليها غير السبعين يومًا، والتي لا تعرف الأجيال الشابة عنها شيئًا.
وأحمد أين؟
بتبرم قال: نائم ابن الكلب، هنا يكون اليمني في أقصى درجات الإحباط، خاصة وأنه لا ينام بسبب القات والهموم والدخان!
هنا تبدأ مشكلة يعانيها تقريبًا كل بيت يمني.
مشكلة صنعتها الدولة، إن صح التعبير أنها كانت دولة، الأنظمة العربية، ونحن أولها، حولت الثانوية العامة إلى بعبع مخيف في حياتنا؛ ولأن مصر قبلتنا، فقد جاء الأمر إلينا من هناك، فقد كانت المنظومة التعليمية مبهرة في الخمسينيات والستينيات، وللأسف لم يجرِ تطويرها بما يتناسب وروح المتغيرات المواكبة لتطور جارف رأيناه، ولا نزال في شرق أوروبا وغربها، لم تصل رياحه إلينا بسبب عقم العملية التعليمية، وأبرز صور عقمها الثانوية ومعدلها، والذي بسببهما تراجعت مصر، وضعنا نحن في دهاليز مناهج قاتلة ومدمرة إلى اليوم الذي يجري تغييرها بما يخدم اتجاهًا واحدًا بعيدًا عن بعدها الوطني ما يؤدي إلى أجيال من النسخ واللصق ستخوض صراعات دموية من وحي تربية عقيمة نراها في المساجد جلية، حيث يجري توزيع ما يسمى بالفكر، لا تراه ولا تجده سوى كلام إنشائي مشغول بأمريكا، يقتلها على الورق ولا يقول إن العلم وحده كفيل بأن ينقلنا إلى مستوى تطورها، ولو بعد 1400 عام من جديد!
بالكاد ينجح طلابنا في الثانوية العامة بسيف المعز وذهبه، والمعدل المصيبة هو من يحدد شكل حياتك القادمة.
في بلد صغير هو فنلندا، لم يعد للمعدل وجود ولا للسبورة، وشكل الصف الذي تعودنا عليه ولا للواجب البيتي حياة، وحتى أسوار المدارس ألغيت، وهي خطوة رمزية تعني أن المدرسة جزء من الواقع المحيط. وصار المدرس يلتقي بطلابه في الأسبوع مرة واحدة يحدد وطلابه فيها المطلوب، ويبحرون في هذا التطور المذهل "الإنترنت".
يتخرج الطالب اليمني، يهلل الأهل بالمنجز العظيم، لتطير السكرة وتأتي الفكرة. فقد تبين بسبب عقم المنظومة التعليمية أن لا منح ولا جامعات في الداخل ولا وظائف، ظللنا كل عام نفتخر بآلاف خريجي الثانوية، ولم ندرك أن أكبر جامعة فتحت، بل جامعات في كل حي موازية لأسوأ نظام جامعي "جامعات الشقق"، أسواق القات هي من استفادت من عقم المناهج وسوء التعليم وغياب التربية الوطنية.
قلت مالك زعلان من أحمد؟
بحنق: يا أخي قات كل يوم وإلى وقت متأخر ونوم طول النهار، أحمد فارغ بدون عمل، قلت: وهل وجدت له وظيفة ولم يقبل؟
عاد يقول: وأين الوظائف؟ أنا نفسي بطالة مقنعة، كنت أستلم مرتبًا وأنام! بسبب النظام تحولت الوظيفة إلى ملجأ عجزة وصار الراتب واجبًا!
إذن أحمد شاب طويل عريض، أكمل الثانوية والتحق بالجامعة، وحضر والديه حفل النصب والاحتيال بتخرجه، ولما عادوا إلى البيت واجههم السؤال القاسي: ماذا بعد؟
على الطريقة اليمنية يكون الجواب زواج فردي وزواج جماعي، وأطفال يتكومون بالدستة، الأم تفتخر أمام صاحباتها بفحولة ابنها! والأب مهموم بكيفية تدبير المصاريف له وللبيت؛ طماط وبطاط وحفاظات لكل حفيد وحق القات له و"للوليد".
هنا تبدأ المشكلة تكبر، وتستفحل، فيما مزارع الدواجن تقذف كل عام بالمزيد إلى سوق بلا عمل.
كانت الخدمة المدنية هي المشغل الوحيد، الآن الحرب هي المشغل الجديد، وعلينا والمشكلة مستمرة، أن نبحث عن حروب لنوظف شبابنا.
جلست إلى جمع من الشباب لا يكادون يُرون من الدخان. وجدت في رؤوسهم ألف سؤال يبحث عن جواب، ولا أحد يسمع لهم.
الذنب ليس ذنبهم، بل ذنب ما أسميت دولة ظلت تقذف إلى الشوارع بالآلاف، وجامعات خاصة تمتص جيوب الناس!
المسجد مغيب، يوزع أوراقًا لا تدري كيف تقرأ فيها، وإعلام لم يوجد حتى نحمله المسؤولية، إعلام طلبة الله، كانت صحفة تصل إلى شرعب ولا تجدها في تعز! فلم يؤسس لوعي جمعي ولا لتربية وطنية.
شباب يتطرف بكل أشكال التطرف؛ لأنه لم يجد جوابًا لأسئلته. ونحن نحمله مسؤولية الفشل ونرتاح.
أحمد فتح عينيه قبض على تليفونه، أول اتصال أجراه: أين ستخزنون؟ وكيف ندبر حق القات.
خالد وهو مدرس في كلية التجارة يلخص الأمر كله بالقول عندما تسأله يوميًّا إلى أين؟ يرد بإشارة نحو سوق القات: إلى سوق الدبور.
سوق الدبور يوازيه الآن أسواق تبيع كل شيء لشباب ضائع بسبب العقم.