خيوط الفجر
قليلون جدًّا من يقدرون على أن يقولوا: "لا". قليلون جدًّا من يدركون معناها وتأثيرها، قليلون جدًّا من يدرون اللحظة المناسبة لقولها، قليلون جدًّا هم المبدئيون، قليلون جدًّا هم الرجال ومن النساء، من يمكنك أن تعرفه بـ"الإنسان الموقف"، قليلون جدًّا جدًّا من يقرؤون الواقع، قليلون جدًّا من يدركون سر الواقع، قليلون جدًّا من ينطلقون إلى أفق المستقبل ويحددون أهدافهم من قراءتهم واستيعابهم الواقع ومتطلباته، قليلون جدًّا من يستطيعون تحديد الاتجاه بعد أن يستوعبوا كل الاتجاهات، قليلون جدًّا هم الرجال، وهذه البلاد خسرت منهم الكثير.
مسألة طبيعية أن تصعد أرواحهم إلى بارئها، لكنهم يظلون أحياء يرزقون في الذاكرة الحية، وفي كل ضمير حي، والشعوب هي وحدها ضميرها الجمعي حي، أما الغثاء، فلا ضمير له لأنه مجرد عدم.
يوسف الشحاري هو كل القيم العالية مجتمعة، وفي القمة سكن متفرّدًا كرجل يقولها في وقتها: "لا"، عندما يتعلق الأمر بمصلحة الناس.
يوسف الشحاري بنظارته، وكُوته (سترته)، وقميصه وفوطته، وصندله، كل إمكانياته، وظل يقولها في وجه الظلم والقهر والعبودية، في وجه من يرون البشر أمامهم مجرد عبيد أو في أحسن الاحوال، "رعيّة".
انحاز الشحاري للبسطاء وملح الأرض، أولئك الذين ينحتون الصخر وقاع البحر ليحصلوا على لقمة كريمة. لم يهادن ولم يخن مُثُله، ولم يتخل عن "صندله" الذي به حكى للأرض حكاية الإنسان الصلب من أجل الحياة. ظل الشحاري شحاريًّا مع الموبقات والفتن، انتصر دومًا للمثل الوطنية العليا، ورفع صوته نثرًا وشعرًا منحازًا إلى الناس. وكشاعر مجيد، لا زال كثيرون يرددون تلك القصيدة التي يقول في مطلعها:
"قتلوها وأمعنوا في البكاء
وأحالوا الربيع فصل شتاء
وأطالوا الزفير حتى
حسبنا أنهم من سلالة الأنبياء".
ظل عنوان القيم الكبيرة، وأحيانًا يكون الإنسان السامي عنوانًا لوطن، من بيت علم وشجاعة، لا يخاف في قول الحق لومة لائم.
الشحاري الشاعر، خلّد الوطن ورموزه بقصائد مشهورة منها قصيدة رثى بها الرائي الأكبر عبد الله البردوني. وهو لم يكن شاعرًا فقط، فقد كان، وهذه معلومة لا يعرفها كثيرون، مديرًا لتحرير صحيفة الثورة. وعلى مستوى الحياة العامة، فقد كان الشحاري ضابط شرطة، إذ تخرج من "مدرسة الشرطة" في العام 1956، وتولى إدارة أمن مدينة حيس، ومحافظتي تعز والحديدة، ثم معلّمًا في كلية الشرطة بصنعاء. كما أنه أحد مؤسسي حزب المؤتمر الشعبي العام، وصوته الذي لم يصمت أبدًا، وفي مجلس النواب، الذي وصل إليه ممثلًا عن البسطاء في الحديدة، كان هو الصوت العالي. لم يسكت حتى وهو نائبًا لرئيس المجلس .
توفي يوسف الشحاري في العام 2000، ورثاه الدكتور عبدالعزيز المقالح، شاعر اليمن الكبير، كما لم يرث أحدًا:
"هو في القلب مثواه
لا في التراب
وفي شاشة العين صورته
لا تغادر مساحتها
في بهاء الضوء والظل
تومش أفكاره وأحاديثه"
فرحمة الله وسلامه عليه.