بعد عمل استمر أكثر من سبع سنوات في محل خاص بإصلاح المفاتيح، تم سجن غيلان ياسين حوالي 6 أشهر، واستبعاده من الأراضي السعودية بتهمة ممارسة مهنة غير مسموح بها لغير السعوديين، وظلّ بعدها في منطقته الريفية، حوالي عام ونصف، اضطر خلالها إلى بيع مجوهرات زوجته من أجل تيسير أمور حياته.
بسبب سوء الوضع هنا، لم يستطع تأمين شيء له ولأسرته، إذ يقول ياسين في حديثه مع "خيوط"، إنه لم يجد وسيلة أخرى سوى التوجه إلى المناطق الحدودية مع السعودية شمالَ اليمن، ومحاولة إيجاد أيّ عمل يقتات منه، وإن كان تهريبَ نبتة "القات" إلى داخل السعودية. وذلك بعد أن تلقى عرضًا بهذا العمل من أحد معارِفه المهرِّبين الكبار، بأن يعمل معه بتهريب كمية من "القات" مقابل مبلغ قد يصل إلى 500 ريال سعودي، وقد يزيد المبلغ باختلاف الكمية وعملية التهريب.
يروي ياسين قصصًا مأساوية حدثت أمامه في الرقو -منطقة حدودية في أقصى غرب محافظة صعدة- التي كان يعبرها من أجل تهريب "القات"، وهو بحسب تعريف البنك الدولي: "نبات منشط يُستهلك على نطاق واسع في جميع أنحاء اليمن"، إذ تعتبر تلك المنطقة من أكثر المناطق الحدودية خطورة، حيث يقوم أفراد حرس الحدود السعودية بإطلاق النار بشكل مباشر على المهرِّبين والمتهربين؛ للعمل في السعودية على حدٍّ سواء.
يؤكّد ياسين أنه بعد أن تم إطلاق النار عليهم بشكل مباشر، وقتل شخص وإصابة آخر من الذين كانوا معه، عدل عن تلك الفكرة وتوقف عن العمل، وعاد وهو محمل بالألم والوجع النفسي لهول ما شاهده.
ترصد "خيوط" في هذا السياق، تكدس أعداد كبيرة من اليمنيين؛ للبحث عن فرصة عمل، ليس فقط في المناطق السعودية بل وفي مناطق من محافظتَي صعدة وحجة (شمال اليمن)، أو للتهريب، وهو العمل الشائع الأكثر رواجًا هناك. أضِف إلى ذلك انضمام كثيرٍ من العائدين المغتربين اليمنيين في السعودية إلى رصيف البطالة المتضخم في اليمن، بمستويات قياسية؛ بسبب سَعودة المهن وتوطينها.
منذ نحو 10 سنوات، أصدرت السلطات في السعودية قرارات بمنع العمالة الأجنبية من مزاولة أكثر من 50 مهنة، وحصرها على العمالة السعودية فقط، في إطار ما أسمته بتوطين المهن، بالإضافة إلى إنشاء برنامج توطين إجباري على المنشآت الخاصة، لينعكس على المهن عامة.
في الصدد، تقول منظمة هيومن رايتس ووتش إن أفراد حرس الحدود السعودي، قاموا بقتل آلاف الأشخاص بشكل متعمد على الخط الحدودي، باستخدام أسلحة ومتفجرات ومن مسافة قريبة، بالإضافة إلى أنّ حرس الحدود يقومون كذلك بقتل الأشخاص الذين يلقون القبض عليهم من المهاجرين اليمنيين والأفارقة.
توثق "خيوط" من خلال مصفوفة تتبع النزوح للمنظمة الدولية للهجرة؛ عودة نحو 55 ألف مغترب يمني من السعودية خلال العام الماضي 2023، إذ سجّل العدد ارتفاعًا كبيرًا خلال الأشهر الأربعة الأخيرة من العام، حيث سجلت مصفوفة تتبع النزوح خلال الفترة بين يناير وسبتمبر 2023، عودة 92,357 مهاجرًا، و40,078 مهاجرًا يمنيًّا عائدًا إلى اليمن. علاوة على ذلك، تلقّت مصفوفة تتبع النزوح التابعة للمنظمة الدولية للهجرة، تقريرًا مفصلًا عن عودة 76 مهاجرًا (من بينهم 74 إثيوبيًّا، وصوماليان اثنان)، كانوا قد سافروا في البداية من اليمن إلى عمان، ولكن تم ترحيلهم في النهاية إلى اليمن.
الاغتراب في طرق الموت
بسبب عدم قدرته على شراء تأشيرة سفر (فيزا)، اضطر محمد عبدالرؤوف السفر بالتهريب إلى المملكة العربية السعودية في بداية العام 2017، وعمل هُناك عامًا كاملًا في أحد محال بيع الهواتف، وعاد بالطريقة ذاتها إلى اليمن من أجل دخول الأراضي السعودية بشكل قانوني وشرعي، بعد أن استطاع شراء تأشيرة الدخول، التي كلفته مالًا يفوق ما جمعه طوال العام بأضعاف، على أمل العودة والعمل بشكل رسمي.
في المرة الثانية، عمل محمد بشكل قانوني في العمل السابق ذاته، إلا أنه تفاجأ وغيره من العمال بعد أشهر قليلة بقرار أصدرته السلطات هناك، بإخلاء العمالة اليمنية من مجموعة من المهن التي تم سَعْوَدتها (مسموحة فقط لحاملي الجنسية السعودية).
يقول عبدالرؤوف لـ"خيوط"، إنه بقيَ عاطلًا عن العمل مدة أربعة أشهر، وبعد ذلك عمل بشكل متقطع في توصيل القات من التاجر إلى المشتري، واستمرّ مدة ستة أشهر بالعمل، واستطاع خلالها قضاء ديونه وإرسال مصاريف أهله بشكل دوري، إلا أنه تم القبض عليه بعدها، وحجزه مدة شهر، ثمّ رُحِّل إلى اليمن.
مع اشتداد الحرب وتفاقم الأوضاع الإنسانية في اليمن، واعتماد معظم العائلات على الإعانات والمساعدات الإنسانية، وجد محمد نفسه أمام خيار العودة -تهريبًا- مرة أخرى إلى الأراضي السعودية، من أجل تأمين مصاريف لأهله، والعمل في توزيع القات سرًّا، وبعد مدة سنة تم القبض عليه، وصدر حكمٌ بحبسه 6 أشهر، كونه متعاطيًا لا تاجرًا، إذ يقول محمد إنه لا يشعر بالندم على حبسه؛ لأن انعدام فرص العمل والبطالة لا يقل سوءًا عن السجن، مع فارق أنه على الأقل الآن، يتدبر حاله.
منذ نحو 10 سنوات، أصدرت السلطات في السعودية قرارات بمنع العمالة الأجنبية من مزاولة أكثر من 50 مهنة، وحصرها على العمالة السعودية فقط، في إطار ما أسمته بتوطين المهن، بالإضافة إلى إنشاء برنامج توطين إجباري على المنشآت الخاصة، لينعكس على المهن عامة، مثل "المهن القانونية ومهن التسويق والمحاسبة"، وتبدأ نسبة العمالة السعودية في هذه المنشآت من 20% لتصل إلى 70%، وتم فرض غرامات على كل من يخالف، قد تصل تلك الغرامات إلى استبعاد العامل الأجنبي من الأراضي السعودية ودفع غرامة مالية، كما يغرم صاحب العمل بمبلغ يقدر بـ20 ألف ريال سعودي، مقابل كل شخص مخالف؛ الأمر الذي جعل آلاف العمال اليمنيين عاطلين عن العمل وأمام خيارات صعبة تقتضي عملَهم سرًّا؛ الأمر الذي قد يعرضهم للمساءلة القانونية أو العودة إلى اليمن.
الجامعة البديلة لليمنيين
دفعت هذه الإجراءات والقرارات المتواصلة منذ أكثر من أربع سنوات، بآلاف العائدين والمسرّحين من أعمالهم في السعودية، إلى العودة ومواجهة مصير قاتم ومجهول، في بلد تعاني تبعات حرب وصراع تسببت بالعديد من الأزمات الاقتصادية والمعيشية والإنسانية.
في حين وجد كثير من اليمنيين العاملين في السعودية أنفسَهم أمامَ العمل في توزيع القات، بعد أن أصبحوا عاطلين عن العمل؛ بسبب الإجراءات التي يرون أنها تستهدف وجودهم هناك، إذ يتعاملون مع "هوامير" كبار، يقومون بتهريب القات من اليمن إليهم، وغالبًا يكون هناك تجار سعوديون مسؤولون عن توزيع القات إلى العمال، الذين بدورهم يقومون بتوزيعه إلى عملاء معروفين لديهم.
يتحدث سعيد فرحان، لـ"خيوط"، أنه بحث كثيرًا عن عمل، لكن لم يكن هناك أي خيار أمامه سوى العمل في مجال "القات" بعد أن تم سعودة مهنته السابقة في محال الملابس النسائية، خاصة بعد أن ظل فترة طويلة عاطلًا عن العمل.
يشير فرحان إلى أنه يعمل تحت إشراف تاجر سعودي الجنسية، يقوم بتوصيل "القات" من الأراضي اليمنية، مستغلًّا التسهيلات التي يحصل عليها بسبب جنسيته، وهذا ما يسهل عملية وصول القات إلى العاصمة السعودية الرياض.
يقوم التجار بتوزيع القات إلى عمال كثر، بمعدل 200 كيلو جرام، لكل واحد، وتكون في العادة مغلفة بقصدير حراري؛ من أجل حماية القات من الحرارة التي قد تتسبب بإفساده، إضافة إلى ذلك يسلم التاجر العمالَ قائمةً بأسماء العملاء وعناوينهم وأماكن تسليم القات لهم، وهم بدورهم يقومون بتلك المهمة؛ بحسب ما قاله فرحان.
يعاقب بعقوبة إضافية تتمثل بمنع السعودي الجنسية من السفر مدة مماثلة لعقوبة السجن التي قضاها بسبب تلك الجرائم، بحيث لا تقل مدة المنع على سنتين، أما غير السعودي فيتم إبعاده عن السعودية بعد تنفيذ العقوبة، ولا يُسمح له بالعودة إليها.
من جانب آخر، فإن العمّال الموزعين يتقاضون مبالغ مالية قد تصل إلى 1000 ريال سعودي في كل عملية، إلى جانب نسبة قد يحصل عليها كل شخص يكسب عملاء جُددًا، وهذه العملية هي الأصعب من وجهة نظر فرحان؛ لأنها قد تكشفهم، ويؤكّد فرحان أن زبائن القات لا يقتصرون على المغتربين اليمنيين هناك فقط، بل إن بعض السعوديين أصبحوا يتعاطون القات بشكل دوري وكبير.
مغالطات قانونية
يجرّم القانون السعودي تجارة أو حيازة أو تعاطي القات، ويصنف ضمن المواد المخدِّرة بنظام مكافحة المخدرات والمؤثرات العقلية، بالرغم من وجود خلاف في تصنيفه من منظمات ومؤسسات دولية، تعتبره مادة "منشطة".
تختلف العقوبة باختلاف الفعل؛ إذ يستوجب العقوبة بالسجن مدة لا تقل عن ستة أشهر ولا تزيد على السنتين، مع تشديدها، أيُّ شخص تم القبض عليه متعاطيًا، ويعاقب بالسجن مدة لا تقل عن سنتين ولا تزيد على خمس سنوات، والجلد بما لا يزيد على 50 جلدة في كل مرة، وغرامة من 3000 ريال إلى 30,000 ريال سعودي لكل من تم القبض عليه وبحوزته "قات" بغير قصد الاتجار أو الترويج أو التعاطي، فيما يعاقب بالسجن كلُّ من روج له، لأول مرة بالسجن مدة لا تقل عن 5 سنوات، ولا تزيد عن 15 سنة، والجلد بما لا يزيد على 50 جلدة في كل مرة، والغرامة من 1000 ريال سعودي إلى 50,000 ريال، أما إذا روّج أحدهم للقات للمرة الثانية، فيُحكَم عليه بالإعدام، كما يعاقب بالإعدام كل من تورط بتهريب أو تصدير أو زراعة القات، بالإضافة إلى ذلك فإن كل من يثبت ارتكابه إحدى الجرائم المتعلقة بمادة القات، يعاقب بعقوبة إضافية، تتمثل بمنع السعودي الجنسية من السفر مدة مماثلة لعقوبة السجن التي قضاها بسبب تلك الجرائم، بحيث لا تقل مدة المنع على سنتين، أما غير السعودي فيتم إبعاده عن السعودية بعد تنفيذ العقوبة، ولا يسمح له بالعودة إليها، إلا بما تسمح به تعليمات الحج والعمرة، وقد تُشدّد العقوبات بحسب الفعل.
ومع ذلك فإن الجهات الأمنية قد تتلاعب بالقضايا هناك بحسب مصلحتها؛ إذ يقول مهيوب عبدالرؤوف في حديثه لـ"خيوط"، إنه تم القبض عليه وبحوزته كمية كبيرة من القات (300 قرن)، وبدلًا من توجيه تهمة التجارة بالقات ومحاكمته على ذلك الأساس، تم تسجيله متعاطيًا وليس تاجرًا. ويضيف عبدالرؤوف أنه طلب من الشرطة الإفراجَ عنه ما داموا قد تغاضوا عن كمية القات التي بحوزته، وتم تسجيله بتهمة متعاطٍ، إلا أنهم رفضوا، وعلّل الشرطي رفضه بأنهم ملزمون بالقبض اليومي على من يتعاطى أو يتاجر بالقات، لكنه اكتشف في وقتٍ لاحق أنّ الشرطيَّين اللذين قبضا عليه تحايلا عليه، وباعا القات لحسابهما الشخصي، ليجد صاحبه والمسؤول عنه بأن قاته يباع في السوق، ولكن ليس عبر موزعه.