أول ظهور لهذه العبارة بشكل مطبوع، كان في مجلة كنيسة إسكتلندا الحرة في عام 1844، من ضمن مراجعة لكتاب القس ألكسندر كيث، د. دي الذي كان من أوائل الزعماء المسيحيين المنخرطين في تبشير اليهود. وهي عبارة كان يُشار بها منذ البداية إلى أرض فلسطين، وبشكل متسارع انتشرت هذه العبارة، وما شابهها، خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وبالذات تلك التي تعطي الأحقية بالتملك: أرض بلا شعب، (لـ)شعب بلا أرض.
والأمر بمضمونه، هو إشارة إلى استحقاق سلالة بعينها لسيادة أرض، وفي الوقت نفسه تشريعٌ لتطهير عرقي لشعب لا ينتمي لتلك السلالة. وقد تم تسجيل العديد من الاعتراضات رسميًّا على هذا التدبير من قبل العالم بأسره، بما في ذلك المؤسسات الدولية، مثل مجلس الأمن، بداية من القرار رقم 42 في عام 1948، والقرارات المتلاحقة (بإجمالي 187 قرارًا( إلى القرار 2334 في 2016. هذا بالإضافة إلى الـ192 قرارًا للأمانة العامة للأمم المتحدة وغيرها من المؤسسات الدولية والإقليمية.
ومع ذلك نرى ما نراه اليوم من احتلال وانتهاكات باسم الدين والسلالة العرقية بلا عواقب حقيقية. ونتيجة لهذا الظلم، يوجد اليوم حوالي 8.5 مليون فلسطيني في المهجر بحسب بيانات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني في منتصف 2021، مقابل 5.23 في دولة فلسطين. فعلى مدى 75 عامًا صار عدد السكان في الشتات ضِعفَ العدد في الوطن الفلسطيني.
ما يحدث في اليمن، يجعلني أفكّر كثيرًا في تلك المقولة الشهيرة بشأن المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين: "أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض". المقاربة مع الشأن اليمني مخيفة؛ اليمنيون في الشتات يسعون للانتماء بأي طريقة إلى المجتمعات المضيفة، وإن كانت قلوبهم معلقة بالوطن الجريح
على الصعيد الوطني، هناك أكثر من سبعة ملايين يمني يعيشون خارج اليمن، بحسب إحصائيات وزارة المغتربين في تقرير لعام 2014، الرقم الذي -لا شك- تضاعف بشكل كبير بسبب الحرب القائمة في اليمن منذ ذلك العام. وبالتالي، على مدى سبع سنوات من النزاع المسلح، وصل عدد اليمنيين في الشتات إلى ثلث السكان على أقل تقدير. ولا أريد هنا أن أفكِّر مجرد التفكير في الأرقام التي ستصبح واقعًا مع استمرار الحرب في اليمن، كما هو الحال.
الكثير من هؤلاء اليمنيين أُجبِروا على ترك وطنهم لأسباب سياسية أو اقتصادية أو إنسانية أو حتى أسباب دينية. وعددٌ لا بأس منهم لا يستطيع العودة في الوقت الراهن بسبب ما سيتعرض له من الأذى الذي قد يصل إلى حد الإعدام. بالإضافة إلى أن التنكيل الحاصل في اليمن، ليس فقط باتجاه أولئك الذين في خارج الوطن، حيث إن القلة فقط هي من تستطيع فعلًا الخروج من بلد محاصر، سواء بسبب إقفال العالم أبوابه في وجه اليمنيين وشبه استحالة حصولهم على تأشيرات للعيش في بلدان أكثر أمانًا، أو بسبب صعوبة الخروج فعلًا لأسباب لوجستية واقتصادية، فالتنكيل الأكبر يحصل بين محافظة وأخرى، بل حتى بين حارة وأخرى في إطار المدينة الواحدة.
ما يحدث في اليمن، يجعلني أفكر كثيرًا في تلك المقولة الشهيرة بشأن المشروع الصهيوني لاحتلال فلسطين: "أرض بلا شعب، وشعب بلا أرض". المقاربة مع الشأن اليمني مخيفة؛ اليمنيون في الشتات يسعون للانتماء بأي طريقة إلى المجتمعات المضيفة، وإن كانت قلوبهم معلقة بالوطن الجريح، واليمنيون في اليمن يتضورون جوعًا ويتشردون في أرضهم كأنهم ليسوا أصحاب الأرض، وإنما دخلاء أو مواطنون من درجة ثانية يتلمسون رضى مجموعة مسلحة هنا أو هناك لا تعترف بالآخر، حتى إن كان الآخر هو الرفيق والجار، حتى الأخ!
العنصرية المقيتة التي تفاقمت في اليمن أكثر إيلامًا؛ لأنها تحدث بين أبناء الجلدة الواحدة، وأدّت إلى تمزيق النسيج الاجتماعي بشكل مفرط، سندفع ثمنه لأجيال متلاحقة. بدرجة أساسية، إن مفاهيم الهُوية الوطنية ووحدة المصير والمستقبل هي مفاهيم غائبة كليًّا عن حاضر الإنسان اليمني اليوم، وهو ما يكرّس التعصب الفئوي ويجعله القيمة الأساسية في المجتمع.
يستغرق صانعو السياسات ووسطاء السلام في بحث التفاصيل التي يمكن أن تؤدي إلى تقارب بين أطراف الصراع للوصول إلى سلام من نوعٍ ما، وأثناء ما يتم التفاهم على تقسيم الكعكة بين أصحاب القوى تضيع الهُوية الوطنية وملامح اليمن، وتآلف المجتمع تباعًا. إن تجارب الدول تكرارًا تؤكد أن هذا التشرذم يعطي بيئة خصبة لعودة النزاع، خاصة في ظل اقتصاد هش، وغياب الحكم الرشيد. وهكذا تستمر المأساة، وتضيع الجهود هباء.
علينا إذن، أن نتدارك تداعيات التشرذم الاجتماعي وغياب الهُوية الوطنية في بلد ينظر شعبُه في الداخل بحسرة إلى الفرص الكثيرة في الخارج، بينما يتطلع شعبُه المهاجر بحرمان إلى الوطن المفقود في الداخل. إنّ ما علينا فعله هو البَدء بلمّ الشتات في الداخل والخارج، عبر رؤية إلى مستقبلِ شعبٍ يتشاطر أبناؤه وحدةَ الهُوية والمصير.
* د. نادية السقاف من أبرز القياديات اليمنية النسوية في مجالات الإعلام والتنمية والعملية الديمقراطية والانتقال السياسي في اليمن. كانت أول امرأة تحتل منصب وزير الإعلام في حكومة الكفاءات في 2014، وقبلها شغلت منصب رئيس تحرير مؤسسة يمن تايمز الإعلامية لِمَا يقارب العشر السنوات. حازت على درجة الدكتوراه في العلوم السياسية من جامعة ريدينج البريطانية عام 2019، وتعمل -حاليًّا- باحثةً في المجال السياسي والتنموي وسياسات تمكين المرأة.