لم تمنع الظروف الاستثنائية التي يعيشها اليمن، بما فيها انقطاعات الكهرباء، المسلسلات والأعمال الدرامية التركية من الوصول اللامحدود في أوساط الفتيات واليمنيات بشكل عام، اللواتي يقضين ساعات طويلة أسبوعيًّا في مشاهدتها، وهو الأمر الذي جعل منال، طالبة جامعية (20 عامًا)، تحفظ العديد من المصطلحات التي تردّدها في تعاملها مع أسرتها وزميلاتها في الجامعة.
وذلك بالرغم من الاختلافات الجوهرية في واقعَي مجتمع البلدين، بل إنّ هذا الاختلاف، يكاد يكون أحد الأسباب وراء الاهتمام المتزايد للفتيات بتفاصيل الحبكات الدرامية التركية، في وسيلة للهروب من واقعهن الغني عن التعريف. وكما هو الحال في أغلب الأُسر اليمنية، أصبح التلفزيون والقنوات الفضائية شيئًا من الماضي أو من النادر الذي طوي خلال أكثر من عشر سنوات من الحرب وانهيار الخدمات.
تتحدث منال لـ"خيوط"، عن أنّ شاشة التلفاز وبسبب انقطاع الكهرباء أصبحت آلة مهجورة، وعوضًا عن ذلك، فقد نما وعيها في السنوات الأخيرة على قصص المسلسلات التركية، من مواقع إنترنت قوم بتوفيرها بصورة غير قانونية، إلى جانب بيعها في "ذواكر" إلكترونية SD أو فلاشات USB، لدى بعض المحلات التي توفر تطبيقات وخدمات الهواتف. يتم تناقل الذاكرة الواحدة بين الصديقات، في حين تظل المشاهدة من الإنترنت، ولو بدقة ضعيفة، هي الغالبة.
ما بين الهروب من الواقع المعيش، والتنفيس عن النفس لواقع أفضل، والهروب من المشاكل أو لحلم لم يتحقق بسبب العادات المجتمعية- تتعدد الأسباب التي تقف وراء شيوع وانتشار هذه المسلسلات الدرامية بما تثيره مما تتضمنه من ثقافة ليبرالية غالبًا، تختلف عن عادات مجتمع محافظ كاليمن.
بدأت منال متابعة المسلسلات التركية، مذ كانت طالبة في المرحلة الثانوية، وتقول لـ"خيوط"، إن متابعتها مرتبطة بالعديد من الأسباب الخاصة بحبكة وقصص هذه المسلسلات، التي تختلف في جذب الاهتمام من مسلسل لآخر، إلى جانب رغبتها في التعرف على اللغة التركية، وعلى جوانب ثقافية أخرى من خارج الثقافة واللغة العربية، كما توضح أنها تتجنب الاستماع لأيّ ملخصات للمسلسلات، حتى لا تؤثر في انطباعها بشكلٍ مسبق.
منال، هي واحدة من يمنيات كثر لا يقتصرن على فئة عمرية، حتى من هن في سن الخمسين عامًا، بعضهن يتابعن المسلسلات بشغف، كما تروي منال عن إحدى قريباتها، التي تقول إنها تتابع المسلسلات المدبلجة باللهجة السورية، وتحرص على ألّا تفوت أي حلقة.
حبكة قوية وكسر التقاليد
وفي حديثها لـ"خيوط"، تقول أحلام (فتاة يمنية، تبلغ من العمر 30 عامًا)، إنها تقضي أكثر من ساعتين يوميًّا في مشاهدة المسلسلات التركية، مضيفةً: "أحيانًا يكون التعلق بالمسلسل كبيرًا لدرجة أنّني أؤجل أعمالي وأبتعد عن المناسبات الاجتماعية أو الخروج من المنزل".
وعمّا إذا كانت تفضل متابعة المسلسلات مترجمةً كتابيًّا أو مدبلجة باللهجة السورية، كما هو حال العديد من المسلسلات، تفضّل أحلام المسلسلات المترجمة على المدبلجة؛ لأنّها تحافظ -على حد تعبيرها- على روح المشاعر الأصلية الموجودة في المسلسلات التركية، الدرامية والرومانسية، وكذلك الآكشن، والتاريخية، والطبية، والكوميدية، وتضيف: "ما يجذبني إليها هو الحبكة القوية في القصص، والسيناريوهات المميزة، والموسيقى التصويرية، واللغة التركية التي بدأت أفهمها دون الحاجة إلى الترجمة".
بصرف النظر عن الكثير ممّا قيل في تقييم الدوافع، فإنّها لا تختلف كثيرًا، بالنسبة لأحلام، حيث تقول: "أكثر ما يجذبني هو طريقة تعامل أبطال المسلسلات مع الفتاة التي يحبونها، بخلاف تعامل الرجل اليمني مع حبيبته أو زوجته. إضافة إلى أن المسلسلات التركية تناقش كسر العادات والتقاليد، وبعض تلك العادات تشبه التقاليد اليمنية، لكن الفتيات التركيات يظهرن وهن يقفن في وجه المجتمع والأسرة، بخلاف ما يحدث في اليمن".
تتابع: "إلى جانب ذلك، تتناول المسلسلات التركية أيضًا الطبقية والعلاقات السرية بين الجنسين في مراحل الدراسة أو العمل، وهي قضايا قد تكون واقعية في المجتمع التركي. وبالمقابل، تفتقر الدراما اليمنية إلى مناقشة هذه القضايا، إضافة إلى أدوات التصوير المتقدمة، الإمكانيات، الحبكة الدرامية، الموسيقى التصويرية، الإضاءة؛ لذلك لا أتابعها".
الهروب وحلقات لا تخلو من الطُّرفة
تتنوع المسلسلات التركية من حيث عدد الحلقات؛ بعضها قصير يتراوح بين 12 و26 حلقة، وبعضها طويل يتجاوز 60 حلقة، وكل حلقة تتجاوز الساعتين. رغم طول الحلقات، تحرص أحلام على متابعتها، بل إنّ مدة الحلقة بالنسبة لصديقتها تغريد (26 عامًا)، تمثّل أحد أسباب اهتمامها؛ تقول: "لأنّها طويلة وتُشعِر المشاهد بالانتماء، بأن معه مسلسل يرجع له مع الوقت".
وتشرح تغريد لـ"خيوط"، سبب اهتمامها بهذه المسلسلات، بالقول: "سلسلة فيها تنوع من الآكشن و"الخرط" -المبالغة- الأجنبي والهندي، واللغة ممتعة جدًّا وسهلة"، وتُتابع: "الفارق بينها وبين المسلسلات اليمنية فرق ما بين السماء والأرض. كما أنّ المسلسلات العربية أفكارها متشابهة، وإن كانت لا تختلف بشكل أو بآخر عن الدراما التركية، لكن السيناريو التركي دائمًا يفوز؛ لأنه يلامس قلوب الناس، ولأنه يشرح مشاعر وأحاسيس يصعب شرحها بالكلام، يشرحها لك بكل سهولة".
أما أفنان فتشرح ما يجذبها إلى هذه المسلسلات، إلى جانب كون قصصها جذابة ومشوقة، فإنّها "هروب من الواقع، حيث إنّ واقعهم لا يشابه ما نعيشه نحن"، بالإضافة إلى تنوعها ما بين دراما وآكشن ورومانسي لكل "نوع في قصص مختلفة وأحداث متتالية، مما يجعل لكل مسلسل حماس وإثارة، بعكس المسلسلات الهندية".
وفيما تثيره المسلسلات بما تتضمنه من ثقافة ليبرالية غالبًا، تختلف عن عادات مجتمع محافظ كاليمن، ترى أفنان في حديثها لـ"خيوط"، أنّ المسلسلات التركية نوعًا ما "محتشمة"، بعكس المسلسلات المصرية، كما تتطرق إلى سبب إضافي، بقولها: "تنوع الممثلين والممثلات، وخاصة الأبطال، مما يجعل كل مسلسل مختلفًا عن الآخر بعكس المسلسلات اليمنية".
وبخصوص الأسباب التي تقف وراء شيوع هذه المسلسلات في أوساط اليمنيات، تعتقد أفنان أنها بمثابة تنفيس عن النفس لواقع أفضل، والهروب من المشاكل أو لحلم لم يتحقق بسبب العادات المجتمعية، وكذلك تمضية وقت.
تشابه العادات وتأثير القنوات
في سياق المبررات والتفسيرات التي تواجه بها اليمنيات سؤال: ماذا وراء هذا الاهتمام؟ تذهب أبرار (29 عامًا)، إلى أنّ "هذا الاهتمام ينبع من تشابه العادات والتقاليد المتعلقة بالمرأة بين تركيا والمجتمعات الريفية اليمنية"، حيث الجرأة التي تُناقش بها هذه القضايا في المسلسلات التركية، تسمح للمشاهدين بمعايشة قصص ومظالم النساء.
يحسب بيانات "جوجل تريند" عن عمليات البحث التي جرت خلال الخمس السنوات الماضية في جميع أنحاء العالم بعبارة "مسلسل تركي"، أتت اليمن في المرتبة الثالثة بين الدول التي ظهرت في الخريطة، بعد لبنان وسوريا، ومن ثم تأتي الأردن والعراق في المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي.
مع ذلك، تعتقد أبرار، وفقًا لحديثها لـ"خيوط"، أنّ المشاهدين لا يتابعون هذه المسلسلات بإرادتهم الحرة، بل نتيجة للإعلام العربي الموجّه الذي يعرضها بكثافة.
وتضيف: "في زمن غير بعيد، كان التوجه الأكبر للنساء في الوطن العربي للمسلسلات المكسيكية، ولكن الآن اختلف الوضع. في رأيي، القنوات هي من تفرض على المشاهدين ما يشاهدونه".
أسباب منطقية وتأثيرات سلبية
في السياق، يشير أستاذ نظريات الاتصال ورئيس قسم الإذاعة والتلفزيون في كلية الإعلام بجامعة صنعاء، الدكتور محمد الفقيه كافي، في حديثه لـ"خيوط"، إلى أنّ نتائج العديد من الدراسات بيّنت ارتفاع نسبة اهتمام النساء العربيات، واليمنيات خاصة، بمُشاهدة هذه المسلسلات من خلال القنوات الفضائية العربية، وما لها من تأثيرات مختلفة، من شأنها أن تُغير في ملامح سلوكيات وقيم المرأة ومحاولة محاكاة ما تشاهدهُ بالواقع.
ويضيف أنّ من الأسباب التي تدفع المرأة لمشاهدة هذا النوع من المسلسلات: "السلوك الاجتماعي اللائق، ومستوى التمثيل والإبهار فيها. وهي أسباب منطقية تتعلق بحالة عامة تخص العنصر الأنثوي، الذي يتعلق بكل شيء مقدم بشكل جميل ومتقن، وهذا يفسر سر انجذابها إليها".
إلى ذلك، يلفت كافي إلى سبب آخر لانجذاب المرأة إلى هذه المسلسلات؛ حيث إنّها تهتم بالمحتوى ذي النوع الاجتماعي والرومانسي أو العاطفي؛ لأنّها تخاطب وجدان المرأة، والهروب من الواقع الاجتماعي. أما عن التأثيرات، فيرى الفقيه أنها تُكسب المرأة قيمًا سلبية نتيجة التعايش مع أحداث المسلسلات والانغماس فيها، خاصة فئة النساء المطلقات مقارنة مع العزباوات والمتزوجات، ويعود ذلك -وفق حديثه- للفراغ العاطفي لديهن. وهذا لا يمنع أنّ المرأة اكتسبت قيمًا إيجابية أيضًا من مشاهدة المسلسلات المدبلجة، ولكن بنسبة أقل.
من بين التأثيرات أيضًا، حسب كافي: التأثير الثقافي على المرأة في الملبس والمظهر وتقليد شخصيات المسلسل (الأبطال)، والتأثير على القيم الاجتماعية لدى المرأة؛ كالترابط الأسري، والعلاقات الزوجية الجيدة، وحتى على سلوك المرأة اليومي؛ كون هذه المسلسلات تدعم، بقصد أو بدون قصد، بعض القيم السلبية وكأنها النموذج المطلوب لقواعد السلوك التي يجب أن يتبناها الفرد في المجتمع، والتأثير في الجوانب الاقتصادية، بحيث عززت ثقافة الاستهلاك لديهن.
بحسب بيانات "جوجل تريند" عن عمليات البحث التي جرت خلال الخمس السنوات الماضية في جميع أنحاء العالم بعبارة "مسلسل تركي"، أتت اليمن في المرتبة الثالثة بين الدول التي ظهرت في الخريطة، بعد لبنان وسوريا، ومن ثم تأتي الأردن والعراق في المرتبتين الرابعة والخامسة على التوالي، أما عند كتابة "مسلسلات تركية"، تتصدر السعودية قائمة أعلى الدول بحثًا. النسبة يتم تداولها في أغلب كلمات البحث بين هذه الدول، إضافة إلى مصر وعمان والجزائر وليبيا والأردن وتونس وغيرها. على أن كلمات البحث لا يمكن حصرها، بقدر كونها مؤشرًا نسبيًّا يدل على مستوى الاهتمام.
وتظهر البيانات زيادة عمليات البحث في اليمن، إذ ارتفعت نسبة عمليات البحث تصاعديًّا في الأعوام الخمسة الأخيرة، حيث وصلت ذروتها مع نهاية العام 2023 وبداية العام 2024.