تعد الجامعة مقومًا أساسيًّا من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلًا عن كونها بيوتًا للخبرة ومعقلًا للفكر والإبداع، ومركزًا لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها، وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة واستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية.
وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث؛ المتمثلة في نقل المعرفة من خلال وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة من خلال وظيفة البحث العلمي، أو في استخدام وتطبيق المعرفة من خلال وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم، وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة، وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة. ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيلٌ غايته الكمال الأكمل، والتام الأتم، والكلي المطلق المجرد، والمثال الأمثل. وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم؛ فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة، والأكثر عدلًا، والأكثر جمالًا، والأكثر نفعًا، والأكثر صدقًا، والأكثر أمانة، والأكثر رقيًّا مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم، ومن أرقى ما تكون معالي الأمور.
فكيف حال الجامعات اليمنية اليوم؟
الجامعة مؤسسة أكاديمية حديثة في اليمن، إذ تأسست أول جامعة في عدن عام 1970، وفي عام 1971 تأسست جامعة صنعاء.
وعلى مدى نصف قرن من عمر المؤسسة الأكاديمية الوليدة في الجمهوريتين اليمنيتين المضطربتين في صنعاء وعدن، والجمهورية الثالثة بعد عام ١٩٩٠، ظلت تلك المؤسسة خاضعة للتقلبات والرهانات السياسية الأيديولوجية في البلد، ولم تتمكن من الاستقلال المالي والإداري والأكاديمي المفترض حتى تكون مثل اسمها؛ جامعة. إذ كانت الفكرة القانونية التي تعامل فيها جماعة من الناس كأنها وحدة نسقية أو مؤسسة مستقلة هي أساس نشوء الجامعات وتطورها في القرون الوسطى؛ إذ اعتبرت المؤسسة المتحدة Universities ومن المصادفات التاريخية أن الكلمة اللاتينية Universities التي تعني Corporation أي الجسم كله، قد انحصر معناها ليعني أماكن التعليم العالي التي تحتفظ باسم الـ Universities؛ أي الجامعات.
ويؤكد جينز بوست أن العلماء في جامعة باريس كانوا مع حلول سنة ١٢١٢، على أبعد تقدير، قد تبلور وجودهم على شكل هيئة، تدعى هيئة الأساتذة والعلماء، بوسعها أن تضع القوانين وأن تنفذ الالتزام بها. اليوم توجد في الجمهورية اليمنية قرابة ٣٠ جامعة حكومية وأهلية، فضلًا عن الكليات والمعاهد العلمية.
في مجتمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية، ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية؛ كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها؟
هذا التوسع الكمي في تأسيس الجامعات أفضى إلى إنتاج عشرات الآلاف من حملة الشهادات الأكاديمية من النوع الاجتماعي، ورغم ما لهذا من ملامح إيجابية عامة في شيوع أهمية الجامعة وشهادتها، إلا أنه أفضى إلى جعل الجامعات أشبه بالمدارس التقليدية التي تمنح الشهادات لغرض البحث عن وظائف ممكنة.
ونحن نعلم أن مسألة النمو العلمي وإزدهار العلم والتعليم هي مسألة ليست علمية فقط، بل سياسية حضارية وثقافية، فكذلك يمكننا القول، إن مشكلة الجامعة اليمنية ومعايير الجودة الأكاديمية ليست مشكلة فنية أو إدارية أو أخلاقية أو ذاتية يمكن حصرها وحلها داخل جدران الجامعة الأربعة أو في أداء عضو هيئة التدريس فقط، بل هي مشكلة أكثر تعقيدًا مما يمكن تخيله؛ إنها تتصل بنسق هائل من المستويات والعناصر الحضارية والتاريخية والفكرية وكل المنظومة الثقافية للمجتمع التقليدي أو الحديث، إذ إن الجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية التقليدية ظلت عرضة للاختراق من البنى والقوى والقيم والممارسات والعادات والمعتقدات التقليدية التي تشن حربًا لا هوادة فيها ضد هذه المؤسسة الوليدة، بدون وعي في معظم الأحيان، وبوعي أحيانًا، وهذه هي سنّة من سنن الحياة الاجتماعية. إنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث، بين التقليد والتجديد، بين المألوف وغير المألوف، بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الاستراتيجيات والغايات والأهداف، صراع بين المعروف والمجهول، بين الطبع والتطبّع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها.
هذا يعني أن التعليم الجامعي على صلة وثيقة بالسياق التطوري التاريخي للمجتمع وتراثه وقيمه ومؤسساته وبنياته وتقاليده من جهة، وبالمؤسسة الأكاديمية الحديثة وتاريخ نشأتها ومستوى تقدمها من جهة أخرى. إذ يصعب فهم وتفسير تخلّف مخرجات جامعتنا بمعزل عن تخلّف المجتمع والجامعة ككل. فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجًا منسجمًا معها للعلاقات الاجتماعية.
ومن المعروف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين، وكيفية تجسيد الحياة فيه، نابعة من علاقاتهم الاجتماعية. ففي مجتمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية، ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية؛ كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها؟ لا سيما إذا تركت مكشوفة لخصومها التقليديين بلا حماية، وبلا رعاية من الدولة والمجتمع، وبلا سلطة خارجية أو ذاتية، وفي ثقافة لا يزال بعض الناس فيها ينكرون الطبيعة وقوانينها، والإنسان وعقله وحريته، وغير ذلك من الظواهر والموضوعات التي هي الموضوع الأول والأخير لكل العلوم الطبيعية والإنسانية، وينكرون العقل الإنساني كأداة ومعيار للمعرفة العلمية، بل وينكرون الإنسان الذي كرمه الله وأكرمه بالعقل وبالقدرة على التمييز والمعرفة، ومن ثم فهو يستحق أن يعيش حياته بحرية وكرامة وأمن وأمان؛ هذا الإنسان الذي هو الموضوع الجوهري لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية، وفي ثقافةٍ رسميةٍ وشعبيةٍ ما زال مفهوم العلم فيها يثير الالتباس وغير متفق عليه، بل ما زال الاعتقاد الراسخ، بأن العلماء هم علماء الدين أو علماء الشريعة ولا أحد سواهم، وأن العلم هو العلم الشرعي النافع في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية، وأن "كل جديد بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار"، هذا الحديث الشريف الذي يحذر من البدع والابتداع في العقيدة الدينية الإسلامية الحنيفة السمحاء، الذي جرى تأويله وتعميمه -للأسف الشديد- على كل مناحي حياة المسلمين بسبب الغلو والتطرف في التأويل والتفسير، وفي مجتمع ما زالت فيه الثقافة السحرية والأسطورة والخرافة واللاهوتية تهيمن على كل الأفق الثقافي والفكري عند الخاصة والعامة. مجتمع ليس من بين مُثله العليا للنجاح، العلمُ والتعليم والتفوق العلمي والكفاءة الشخصية والأداء المتميز والمواهب الفردية، بل القرابة العشائرية القبلية والعصبية والنفوذ والمحسوبية والرشوة والوساطة والانتهازية، والمزايدات السياسية الأيديولوجية.
يقول "جون وجاردنر" في كتابه "التميّز، الموهبة والقيادة": "إذا أعدّت الرثاثة والهرجلة مجتمعًا ما، فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام".
وقد رصدت قبل سنوات بعض المعوقات التي تكبل المؤسسة الجامعية اليمنية، وتحول دون جودتها الأكاديمية في جملة من النقاط، هي:
1. غياب فكرة المؤسسة المستقلة من أفق الثقافة والممارسة العربية الإسلامية واليمنية أولها.
2. عدم وجود دور اجتماعي معترفًا به ومقدرًا تقديرًا إيجابيًّا للعالم أو للأستاذ الجامعي والمشتغلين في العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية، ومن ثَمّ احتقار العلم الوضعي بالقياس إلى العلوم الشرعية والدينية.
3. غياب الحرية الأكاديمية والاستقلال المالي والإداري في معظم المؤسسات الأكاديمية اليمنية.
4. أصبحت الجامعات أدوات لتقييد العقل وتبليد الشعور، ولم تعد الجامعات صالحة لتأهيل الابتكار العلمي والأدبي الثقافي وتنمية وتنوير المجتمع وحل مشكلاته.
5. هيمنة الوصاية الأمنية من قبل الأجهزة الحاكمة على كل صغيرة وكبيرة في نشاط الجامعات، والتعامل بحسب منطق الولاء الشخصي والحزبي والحسابات السياسية والممارسة الأيديولوجية الضيقة.
6. مصادرة وتقييد حرية الباحثين في المشاركة في الأنشطة الثقافية داخل البلد وخارجها بأساليب متعددة.
7. تسخير الجامعات لأغراض دعائية سياسية وأيديولوجية حزبية لتبرير السلطات المتسلطة والمستبدة بكل مقدرات القوة.
8. عدم توفر المعدات والأجهزة العلمية الحديثة وكل ما يحتاج طالب الدراسات في العلوم الطبيعية، فضلًا عن غياب المكتبات والمراجع والدوريات العلمية الحديثة والمعاصرة.
9. تسوّل التمويل للمجلات والمؤتمرات والأبحاث والدراسات العلمية.
10. غياب التقاليد الأكاديمية ومعايير التحكيم والإشراف الأكاديمي الرصين في ممارسة البحث العلمي.
11. طغيان النزعة المحلية والتقليدية في الدراسات الاجتماعية والإنسانية.
12. غياب القدرات الأكاديمية المتمكنة للتدريس والإشراف على طلبة الدراسات العليا.
13. ضعف الدوافع الذاتية عند طلبة الدراسات العليا والبحث واقتصار الغاية من البحث في الحصول على الشهادة والترقية والوظيفة.
14. ضعف الروح المعنوية والاهتمام، أو اختفاء الدوافع الإيجابية عند المعلمين والطلبة، وشيوع مزاج عام من الإحباط واللامبالاة واللاجدوى.
15. غياب المثل الأعلى للجامعة، المتمثل في التميز والتفوق العلمي والأداء الأكاديمي والإنجاز المعرفي والثقافة الرفيعة والحيادية والصدق والاستقامة الأخلاقية والعقلانية والتسامح والحوار الخلاق، والإحساس بقيمة الذات.
هذا كان قبل الحرب الناشبة في اليمن منذ سبع سنوات عجاف، أما الآن وقد تهشم كل شيء في اليمن فحال الجامعات من حال المجتمع اليمني المنكوب بأفدح كارثة سياسية وجودية في التاريخ المعاصر.
لم تدمر الحرب المؤسسات العامة فحسب، بما فيها المؤسسة الأكاديمية، بل ودمرت النفوس والعقول، وسوف تترك آثارًا غائرة في صميم البنية الاجتماعية برمتها. فعلى مدى السنوات الماضية عمت الفوضى العارمة، حيث تم اغتيال العشرات من أساتذة الجامعات اليمنية في عدن وصنعاء وتعز وحضرموت، والكثير من أعضاء الهيئة التدريسية والتدريسية المساعدة اضطروا للهروب من جحيم الحرب وتداعياتها إلى بلدان مختلفة، ومن بقي منهم يعيش حياة شديدة البؤس والقسوة بسبب الحرمان من المرتبات المستحقة، لمدة أربع سنوات. هذا فضلًا عن الإجراءات الإدارية والتشريعية والمنهجية التي أقدم عليها الحوثيون [جماعة أنصار الله] في مناطق نفوذها، بتغيير شبه كلي للمؤسسات الأكاديمية في صنعاء، وما شابها من تغيير في الإدارة والمناهج والتشريعات والرموز والشعارات وإغلاق أقسام أساسية، وقمع الحريات الأكاديمية وغير ذلك، بما أعاد تشكلها على صورتها الأحادية. هذا فضلًا عن أن الحرب المفتوحة على كل الجبهات قد أعادت تشكيلة المجتمع اليمني برمته، بما يشبع حاجاتها المهلكة؛ إذ بدلًا من أن تفتح أبواب الجامعات للشباب فتحت لهم معسكرات وجبهات قتالية، وقد أكلت الحرب عشرات الآلاف من الشباب الذين يفترض أن يكونوا في مدرجات الجامعة، وقد علمت بأن معظم الجامعات اليمنية تعاني اليوم من خلو مقاعدها من الطلاب، إذ غدت هياكل خاوية على عروشها.