حين أعود بذاكرتي اليوم إلى سنوات التحاقي بالدراسة في ريف مدينة تعز، المطل على مدينة عدن الساحلية، نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات- أتذكر بأنه كانت تلوح في الأفق بوادر نهضة حقيقية سوف تنطلق من هنا لتشمل اليمن بأجمعها، وقد كان ذلك التأثير جاريًا حين بنيت مدرسة البعث في منطقة الأعبوس- "بني علي" عام 1956. حقًّا إنني أزعم أن ثمة بوادر نهضة حقيقية اشتعلت ثم لم تلبث حتى خبت، لعوامل كثيرة لا مجال لقراءتها هنا. حدث ذلك انعكاسًا لحيثيات تعليمية بحتة، ثقافية وعلمية ومجتمعية، ويعود ذلك -في تقديري- إلى شغف المجتمع ووعيه بأهمية التعليم؛ الأمر الذي انعكس إيجابًا على المعلم أولًا، فقد كان للمعلم هيبة قلّ نظيرها، وكان يشعر بانسجام ملحوظ مع المجتمع والطالب (هدف العملية التعليمية)؛ إذا كان "غرامشي" قد ضم المعلمين إلى قائمة المثقفين الخاصة بالكهنة والإداريين، فإن المعلم الذي أشير إليه هنا ذلك المعلم الذي تجاوز هذه المنطقة إلى "المثقف الذي يمثل ضمير البشرية"، حسب جوليان بندا. ومما أتذكره أن المعلم كانت له حظوة تعادل الأنبياء والأولياء ومشايخ العلم، وكثيرًا ما كانت مرجعية المجتمع في الثناء على المعلم تنطلق من البيت الشعري الشهير الذي كتبه أمير الشعراء أحمد شوقي:
قُمْ لِلمُعَلِّمِ ووَفِّهِ التَّبجِيلَا *** كَادَ المُعلِّمُ أنْ يَكُونَ رَسُولَا
هذا البيت الشعري الذي كنت ألحظ التفنن في كتابته على الجدران والقوالب الخشبية المستطيلة والزوائد الأسمنتية، وهو عمل يقوم به الموهوبون من الطلاب؛ إيمانًا منهم بأهمية دور المعلم. وأهم ما ميز معلم تلك المرحلة أنه كان قدوة للتلاميذ، وكان وجوده الطاغي يجعله دائمًا في مقدمة الصفوف، هكذا رآه التلاميذ -وأنا واحد منهم- يحضر بكل تفاصيل الحياة ويتدخل في شؤون حياتهم التربوية، وخلفه تختفي صورة رئيس الجمهورية ووزير الدولة وتطغى صورته النموذجية على محافظ المحافظة ومدير المدرسة، وأحيانًا يخفت دور الأب والأم ليصبح المعلم هو الناطق الرسمي بلسان حال الحياة.
في تلك الفترة كانت المدارس أكثر نشاطًا من مدارس اليوم وأكثر فائدة وتأثيرًا على المجتمع، إلى درجة أن المعلم استطاع أن يحجز له عيدًا سمي بعيد المعلم بداية التسعينيات، وذلك جنبًا إلى جنب مع الأعياد المكرسة: عيد الأم، وعيد الفطر، وعيد الأضحى، والأعياد الوطنية المعروفة؛ سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر. ولم يكن يومها عيد المعلم تحصيلًا لحاصل، وإنما كان يعد له بعناية فينطلق التحضير له بداية قبل الموعد بأسابيع، وعلى منصة المدرسة كانت تعرض الفقرات التي أُعدت بإحكام؛ فيستمع الطلاب وأولياء أمورهم الذين يحضرون الاحتفال إلى الأنشودة والقصيدة والمقالة المُجوّدة عن المعلم ودوره العظيم في المنظومة التعليمية، وكان أهم ما يعرض على المنصة، المسرحيات التي تتجاوب مع الحدث، ومما استقر في ذاكرتي أن الكثير من المدارس استقطبت فقهاء القرى و"مشايخ" الدين، ودعتهم إلى الانخراط في صفوف التعليم لتدريس اللغة العربية والقرآن الكريم تحديدًا، وفي تصوري أن هذه التجربة نجحت كثيرًا على الرغم من أنهم لم يتلقّوا تعليمهم الأولي في معاهد المعلمين أو كليات التربية، ولم يطلعوا على طرق التدريس ومناهج علم النفس الحديثة إلا أنهم بالمقابل لم يكن لديهم ميول سياسية، ولا يقترفون إثم الفتوى، بل لم أسمع أن أحدهم فكّر في ذلك، رغم اكتسابهم قواعد تربوية أثناء الممارسة، وقد نجحت جهودهم. كان العديد من هؤلاء التربويين يمارسون مهام التعليم الأولي في الكُتّاب ثم انتقلوا إلى المدرسة؛ تماشيًا مع التحديث الذي رأته النخبة السياسية ومدخلات الثورتين اليمنيتين 26 سبتمبر و14أكتوبر، اللتين قلبتا موازين الحياة اليمنية لصالح التعليم يومها.
كانت جماعة الأنشطة المدرسية تنظم مع أساتذتها رحلات استكشافية إلى الجبال والتلال والأودية، وهناك يضربون الخيام، ثم يبدؤون في تنظيم أنفسهم إلى فرق تدريب وفرق حراسة والجميع يسجّلون انطباعاتهم عن المكان وأهميته
في تلك المرحلة، التي كان المعلم ينال فيها قدرًا كبيرًا من التقدير الأدبي والاجتماعي، تعاظم دور المدرسة في حياة التلاميذ إلى درجة أصبحت هي الرئة والحياة، وهي الحضن الدافئ بعد الأم، وهي المكان الآمن الذي بالإمكان أن يمارس التلميذ فيه الرضاعة العلمية بشهية، ومما أتذكره أن طلاب الإعدادية والثانوية كانوا يمضون إلى المدرسة برؤوس مرتفعة، وفي أذهانهم قد ترسخت الصورة الخلابة للمعلم الإيجابي، صاحب الشخصية المتوازنة الفريدة، منطلقًا من المعنى الذي قدمه المفكر الإيطالي غرامشي للمثقف، من أنه يؤدي وظائف أقرب ما تكون إلى حاجة المجتمع الذي نشأ فيه، ممتزجًا بالحضور العلمي والاجتماعي الفعّال، وبهذا المعنى الذي قدمه غرامشي، فإن المعلم حقيقة اتصل بإنتاج المعرفة داخل مجتمعه، وجعلها حيوية فعّالة تجري في دماء الطلاب، وتتضح في عملية التّطَور والاستمرار والصيرورة؛ لذلك فقد كانت جماعة الأنشطة المدرسية تنظم مع أساتذتها رحلات استكشافية إلى الجبال والتلال والأودية، وهناك يضربون الخيام، ثم يبدؤون في تنظيم أنفسهم إلى فرق تدريب وفرق حراسة والجميع يسجّلون انطباعاتهم عن المكان وأهميته، وفي هذا النشاط كان المعلمون يحثون طلبتهم على الاقتراب من الطبيعة ويعلمونهم حرية الاكتشاف وحرية السير في الظلام الدامس، من أجل التخلص من رهبة المجهول في الطبيعة.
لم يقتصر الأمر على هذا النشاط، وإنما غالبًا ما كان ينتظر الطلبة والتلاميذ سلسلة من الأنشطة المدهشة؛ فالرياضة بداية كانت إحدى الحصص الرئيسة، خلافًا لبقية الأنشطة؛ إذ كان يفتتح بها اليوم الدراسي ويختتم به أحيانًا، وبعد ذلك يتم ممارستها بكافة أنواعها، وفي كل الأحوال يعمد المعلم المختص إلى تنظيم مباريات تنافسية داخلية بين الفصول والشعب والأقسام؛ ثم يتم انتخاب فرق للمنافسة الخارجية بين المدارس البعيدة التي كان يستغرق السفر إليها نهارًا كاملًا أحيانًا، وأحيانًا نهارًا ونصف؛ فيما يتم قضاء الليل على رأس أحد الجبال الآمنة، كل ذلك ساهم في تكوين الكثير من معارف الطلاب، الذين اكتشفوا من خلال الأنشطة ميولهم التي يجيدونها، وهو ما أوضح نهجهم في الحياة بعد ذلك.
أما التربية الفنية فقد كانت مادة أساسية، وعلى جميع الطلاب والتلاميذ المشاركة. كل طالب وطالبة لا بد أن يكون لديه دفتر رسم، ليس ذلك فحسب، وإنما على كل طالب أن يحجز للوحته مكانًا في جدار الفصل، فإذا امتلأت الجدران فليس هناك سوى أخشاب سقف حجرة الفصل أو حجرة الإدارة والأروقة. ومن الأنشطة المهمة –أيضًا- التعرف على أنواع الخطوط والتعبير والإذاعة المدرسية، التي كانت تنافسية بامتياز بين الفصول المدرسية؛ أما الموسيقى فقد كانت تعني مشاركة التلاميذ في الأناشيد والأغاني التي تتخلل كل الأنشطة، ولعل الذاكرة ما تزال تختزن صوت أيوب طارش، وهو يتهادى معلنًا النشيد الوطني كل صباح:
عشت إيماني وحبي أمميّا ** ومسيري فوق دربي عربيّا
وسيبقى نبض قلبي يمنيّا ** لن ترى الدنيا على أرضي وصيّا
وفي الاستراحات ينوع الإداريون في توزيع الأغاني، ويختارون الأقرب إلى الذوق التربوي في تربية النشء، ومن الأناشيد التي ما زالت إلى اليوم تقفز إلى ذاكرتي، هذه الأنشودة:
"دمت يا سبتمبر التحرير يا فجر النضالِ..."
من غباء النخب السياسية والعسكرية المتناحرة على السلطة أنها لم تعمل على تحييد هذا المنجز، ولم تسلّم أمرها للاهتمام به كطوق نجاة، متناسية أن الثورات الاجتماعية الكبرى لم يقم بها إلا معلمون أَكْفَاء
وأخيرًا لا أخفي على القارئ أنني تذكرت ذلك اليوم نظرًا لوضع المعلم البائس، الذي يمكننا أن نقول عنه، بمزيج من الحزن والأسى، أن ليله ما يزال عابسًا ومكفهرًا. ولا مناص من الإشارة هنا إلى أن كل ما سبق لم يكن سوى تمهيدٍ لتوضيح ضيق الحال الذي طال هذه الشريحة المهمة، التي كان الاهتمام بها –فيما لو تواتر- يعد نقطة الانطلاق إلى عالم الحداثة والمغايرة، ولكن الإخفاق الذي وصل إليه الحال لا يعني سوى أن هناك مرضًا يتغول في النخب الحاكمة، مرض أصاب ذاكرة المعنيين وجعلهم ينظرون إلى هذه الشريحة بمنظور العنصرية المقيتة التي لا يمكن قبول مخرجاتها أو السكوت عنها؛ على هذا النحو الذي يعمل على إغراق كل من في السفينة. يقول المفكر المغربي الكبير "المهدي المنجرة": "إذا أردت أن تهدم حضارة أمة فعليك بهدم الأسرة وهدم التعليم وإسقاط القدوات"، وهذا ما حدث مع المعلم، وقد قال الشاعر قديمًا:
العلم يبني بيوتًا لا عِمادَ لها *** والجهلُ يهدِمُ بيتَ العِزِّ والكَرَمِ
ولعل المجتمع الذي تسببت الحرب في ضرب كل مقوماته التاريخية، لا يدري كيف يعيد لهذه الشريحة العميقة مجدها، فمن غباء النخب السياسية والعسكرية المتناحرة على السلطة أنها لم تعمل على تحييد هذا المنجز، ولم تسلّم أمرها للاهتمام به كطوق نجاة، متناسية أن الثورات الاجتماعية الكبرى لم يقم بها إلا معلمون أَكْفَاء؛ فالمعلم باعتباره المثقف الأول للطلاب لا يصبح مجرد فرد أو صورة، وإنما عالَمًا من الرمزية والمبادئ السلوكية القويمة والعامة. ولكن هذا الوضع المشين، حدا بالبعض إلى القول إن هذا الاستبعاد المقصود للمعلم، يعد أسوأ من النظرة العنصرية للسود في أمريكا وجنوب أفريقيا سابقًا. إن بقاء الوضع كما هو عليه، أدى إلى إعاقة قيام الدولة اليمنية الحديثة ذات الهُوية الواحدة، وهو ما يعني ارتفاع منسوب الشرخ الاجتماعي والتداعي النفسي المستمر وغياب المشروع الوطني وأحد ركائز النهضة.
إن أخبار المعلمين اليوم في مناطق النزاع، التي تدخل ضمن دائرتها مدينتي صنعاء وعدن، تعبر عن مدى الاحتقان الذي وصل إليه حال المعلم؛ فقد أضرب المعلمون في العام المنصرم في عدن طوال العام الدراسي، وذهب المعلمون في صنعاء إلى المدارس دون أي حماس أو اكتراث في ممارسة التعليم، وهو ما يدل على أنهم يعيشون حالة من فقدان الأمل في كل شيء؛ نظرًا لأن الكثيرين منهم يعيشون انتكاسات متعاقبة، والبعض منهم فقدوا الأمل في استعادة رواتبهم التي انقطعت منذ 6 سنوات، ونتيجة لذلك انخرط 26 ألفًا منهم في صفوف الجبهات المتناحرة، ويكفي أن تعرف أنك تجد بعضهم في الشوارع والأحياء يطلبون ثمن الدواء أو الغذاء والمواصلات، وبعضهم يستعطفون طلابهم الميسورين أن يمدوا لهم يد العون، وما خفي كان أعظم؛ ناهيك عن موت البعض منهم بسبب الفاقة أو عدم حصولهم على ثمن الإسعافات الأولية، وكثيرون أقدموا على الانتحار بشكل أو بآخر؛ لأنهم لا يستطيعون النظر إلى وجوه أطفالهم وزوجاتهم، وهذا الملف محزن وشائك، ترتب عليه انخراط الأبناء في جبهات القتال؛ لأنهم يئسوا من قدرة آبائهم على الوفاء بالتزاماتهم.