لا يمكن الوصول إلى حلٍّ سياسي متوافق عليه بدون التشخيص الموضوعي والدقيق للوضع اليمني من مختلف الجوانب. فاليمن موزع بين ميليشيات مسلحة تمثل سلطات أمر واقع. فالشمال -باستثناء مأرب، وتعز، وأجزاء من محافظات أخرى- في قبضة أنصار الله (الحوثيين)، وتسيطر ميليشيات على مأرب، وأجزاء من الجوف، وهي موالية للشرعية، كذلك الحال في تعز وبعض أريافها، وأجزاء من الحُديدة تتوزّعها قوى إصلاحية ومؤتمرية وقبائل.
أما في الجنوب، فرغم أنّ السيطرة للأحزمة الأمنية والنخب التابعة للانتقالي الداعي للانفصال، إلا أنّها عمليًّا موالية للإمارات العربية المتحدة، وقد بدأت السعودية مؤخرًا بتكوين قوات تابعة لها، ومجموعة طارق عفاش في المخا، وبعض أرياف عدن وشبوة، وهو موزع الولاء بين السعودية والإمارات، وهناك وجود مباشر للإماراتيين والسعوديين في بعض المناطق، وتحديدًا في سوقطرة، والمهرة، وأرياف حضرموت، والجوف، ولا تخلو هذه الأطراف من انقسامات تصل حد الصراعات بين هذه المكونات المختلفة، وأحيانًا داخل المكون الواحد.
أما في الجانب السياسي، فالأطراف السياسية الداخلية، هي: أنصار الله (الحوثيون) الموالون لإيران، والشرعية الموالية للسعودية، والانتقالي الداعي للانفصال، وهو وإن كان جزءًا من الشرعية، إلا أنه حريص على الوجود المستقل، وهو موزع الولاء بين العربية السعودية، والإمارات العربية المتحدة، وإن كان أكثر ولاءً للإمارات، وربما جرى تبدل الولاء بسهولة ويسر.
في بدايات الحرب، وتحديدًا منذ 25 مارس، كان التأثير الخارجي للصراع الإقليمي: التحالف العربي، والإيراني- أقل حضورًا وتأثيرًا، ولكن مع تصاعد الحرب واستمرارها، تزايد تأثير الصراع الإقليمي والدولي على حساب العوامل الداخلية.
الأطراف المتقاتلة كلها لا مصلحة لها في حل سياسي، والحل الدولي أو الآتي من الإقليم لن يجيب عن أسئلة الشعب الذي ذاق ويلات الحرب، وجُلّ همّ الإقليمي والدولي حل خلافاتهم، واقتسام المصالح والنفوذ
الحرب الأهلية، وبعد سبعة أعوام من الحرب، أصبحت العوامل الخارجية فيها هي القوة الأولى، لتصبح اليمن ميدان قتالٍ وحربٍ بالوكالة، وأصبح الكل مرتهنًا لحل الصراع الإقليمي والدولي، أو مرتبطًا بتوافقهما، وحتى الهدنة المتكررة ليست بعيدة عن التوافق الإقليمي والضغط الأمريكي.
الوضع الاقتصادي الاجتماعي هو جذر الأزمة، وأساس المأساة في اليمن، وربما في العديد من بلدانِ ما اصطُلح على تسميته "العالم الثالث"- هو: "مَن يحكمْ يملكْ"، عكس القانون العام في البلدان الصناعية: "مَن يملكْ يحكمْ"؛ فاليمن البائس والفقير لا تتكوّن ثروات حكامه، وكبار مسؤوليه وموظفيه إلا من التسلط والنفوذ، ومن هنا يتركز الصراع على الحكم، والقتال المتجذر المتسلل والمتناسل على نهب المال، واكتساب الثروات.
توصيف ابن خلدون وقراءات علي الوردي الصائبة عن البداوة، وشرائعها في النهب، وولع القبيلة بالحرب كأداة إنتاج- تصدق أكثر على الوضع في اليمن، ولكن شيوع هذه الروح المتبدية في جُلّ التركيبة المجتمعية، خصوصًا في الأحزاب، ومنظمات المجتمع المدني، والمجتمع المدني والأهلي، وانخراطها في الحرب وتأييدها- هو السائد.
التجار الكبار الوسطاء غادروا البلاد؛ مخافة النهب، والطبقة الوسطى اندغمت في الفئات الدنيا بعد إفقارها، والبلاد المحاصرة داخليًّا وخارجيًّا تعطل نشاطها الاقتصادي.
المزارع أحرقت، أو توقفت بسبب ارتفاع المشتقات النفطية، وانعدام اليد العاملة، والمياه، والرواتب توقفت، والصيادون لم يعودوا قادرين على الاصطياد بسبب قصف الطيران، وانعدام النفط، والثروة النفطية منهوبة، وإيراداتها يتم وضعها في البنك الأهلي السعودي.
المجاعة تتجاوز الــ80% حسب تقارير دولية، والعملة في هبوط مستمر، والأسعار في لحظة جنون، وقد أضحت الحرب الوسيلة الوحيدة لكسب الرزق، والبندق أداة الإنتاج الوحيدة كاقتصاد حرب؛ فلا نشاط تجاري مستقر، ولا رقعة زراعية يتم الاستفادة منها، وقد قطعت المرتبات، وتعطلت الأعمال في القطاعين العام والخاص.
حرب السبع سنوات دمَّرت اليمن جنوبًا وشمالًا، ومزقت النسيج المجتمعي، ودمَّرت البنية التحتية الضعيفة والهشّة، وعطّلت التنمية، ومسخَت الإدارة، وزيّفت التعليم المتحزّب الذي وُظِّف للصراع السُّنّي الشِّيعي، وجرى السطو على إمكانات اليمن وقدراتها، وآثارها، ومعالمها التاريخية والحضارية، ووزّعت العداوات بين فئاتها ومكوناتها في ظل الوضع البائس كله، فكيف يمكن أن يكون الحل؟!
الأطراف المتقاتلة كلها لا مصلحة لها في حل سياسي، والحل الدولي أو الآتي من الإقليم لن يجيب عن أسئلة الشعب الذي ذاق ويلات الحرب، وجُلّ همّ الإقليمي والدولي حل خلافاتهم، واقتسام المصالح والنفوذ.
غُيّبت أو غابت الأحزاب الحديثة، ومنظمات المجتمع المدني، وجرت شيطنة المجتمع الأهلي، بينما الجميع ضحايا الحرب؛ ففي حين تشتعل الحروب في المناطق القبلية، فإنّ المدن والقرى يتم محاصرتها؛ فتقطع الطرقات، ويتعاظم القتل، والمجاعة، وتنتشر الأوبئة الفتّاكة التي تحصد الجميع في أسوأ كارثة على وجه الأرض، أما القصف الجوي، فقد ألحق أفدح الأضرار بالبنية التحتية.
الأشاعرة يقولون لا معصية بعد الكفر، ويقينًا، فلا جريمة كجريمة الحرب. الجريمة البشعة -كجريمة حرب- عدمُ قدرة اليمني على الالتقاء بأخيه اليمني، والتحاور والتوافق على حل سياسي يرتضيه الجميع، ثم إيكال الأمر إلى الأطراف الإقليمية والدولية.
الحل الإقليمي والدولي المقبول بسبب العجز الداخلي، وشدة المعاناة، وتغول الحرب لن يحل المشكلة، كما أنّ قادة الحرب الأهلية لن يكونوا وحدهم قادرين على الحل. اشتراك ألوان الطيف المجتمعي اليمني: الأهلي، والمدني، والأحزاب السياسية، والشباب، والمرأة، والشخصيات العامة هن وهم الأقدر -عبر الحوار- على حل مشكلة وطنهم.
الهدنة مرحبٌ بها؛ لأنّها فقط تفتح الآفاق لإمكانية الحل، والأهم توقف قتل اليمني لأخيه اليمني، ولا بد أن نضغط لتحويلها إلى وقف شامل للحرب، وإحلال للسلام الدائم، وفك الحصار البري والبحري والجوي، وفتح المنافذ الداخلية، وبالأخص معابر تعز، والضالع، ومأرب-صنعاء؛ أي كل الطرقات بدون استثناء، بالإضافة إلى إطلاق المعتقلين والمخفيين قسريًّا، وإطلاق المرتبات، والحريات العامة والديمقراطية، وحرية الرأي والتعبير، وقبل ذلك وبعده، الخلاص من الارتهان للصراع الإقليمي والدولي، وخروج اليمن من الفصل السابع الذي فرض الوصاية على اليمن.