تجلس على كرسيها في منتصف الطريق وبجانبها تمرّ السيارات ومن عليها غير مكثرتين باللافتة التي تمسكها بين يديها، مطالبة بدفع راتبها الذي لا يأتي سوى كل بضع أشهر، فتاتًا يتلاشى فور استلامه. وفي اللافتة، تعلن هذه المرأة أن مرحلة اليأس بلغت أشدها ولم تعد تعبأ سوى في العيش ولو في منزل فارغ لا يوجد فيه أي شيء أو حتى بلا كِلية.
بعد خدمة دامت 30 سنة في مستشفى صهيب العسكري بمدينة عدن، وجدت الممرضة "نعمة" نفسها تلعب دور البطولة في مشهد مأساوي لم تعرفه المدينة في تاريخها، وفي داخلها تُمنّي النفس بأن لا تضطر لبيع كِليتها أو أثاث منزلها، وبأن يصل صوتها للجهات المسؤولة أملًا في أن تنقذ ما يمكن إنقاذه من حياتها وتسدد ديونها، وتجد ما تسد به رمق جوعها. تفاقمت أزمة نعمة وباتت تخنقها بعد تجاوز سعر صرف حاجز الدولار الواحد أكثر من ألف ريال، في استمرار لمسلسل نزيف العملة الذي بدأت فصوله في السنوات الخمس الأخيرة، لتبلغ ذروة المأساة ويواصل الريال اليمني كسر الأرقام القياسية في الانهيار.
ما كان في الأمس مجرد مخاوف بات اليوم واقعًا، وتجاوز الدولار حاجز الألف ريال في غضون أيام قصيرة كان فيها متوقفًا عند حاجز 950 ريال للدولار الواحد، ما ينذر بكارثة اقتصادية هي الأصعب في تاريخ المدينة، والمناطق الأخرى الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًا.
وينذر الانهيار القياسي للعملة اليمنية وتجاوزها حاجز تاريخي لأول مرة أكثر من 1000 ريال للدولار الواحد، بتداعيات قاسية على مختلف المستويات الاقتصادية والمعيشية والإنسانية، إذ من المتوقع استمرار مسلسل ارتفاع أسعار السلع والمواد الغذائية بوتيرة عالية، في حين قفزت رسوم الحوالات المالية من عدن ومناطق الحكومة المعترف بها دوليًا إلى صنعاء ومناطق نفوذ سلطة أنصار الله (الحوثيين)، من 50% كانت عليها نهاية يونيو/ حزيران الماضي، إلى أكثر من 60% مطلع الأسبوع الحالي.
بعد صمت طويل وحيرة وتردد، ظهرت الحكومة المعترف بها دوليًا، عبر مجلسها الاقتصادي، لتؤكد أن ما يحدث في أسعار صرف العملة الوطنية ليس لها عوامل موضوعية، بل "مفتعلة" جراء المضاربات وبث الإشاعات والتأثير على السوق النقدية
تأثر المشاريع الصغيرة
لا ينحصر الحال على الممرضة نعمة كحالة فريدة، هي فقط حالة واحدة تجسد المعاناة التي باتت ترافق غالبية الأهالي في مدينة عدن، عدا قلة قليلة تستلم رواتبها بالعملة الصعبة ولا يشكل انهيار العملة الوطنية أي قلق يذكر بالنسبة لها، تُغمض أعينها وتنظر من قصرها التاجي للفقراء دون أي اكتراث ولا تابه لمعاناتهم.
لم يسلم من تبعات انهيار الريال اليمني ملاّك المشاريع أيضًا؛ مشاريع أغلقت وأفلس أصحابها وبعضهم لم يعد يستطيع تحمّل كلفة الإيجارات فقرر التحوّل إلى النشاط الإلكتروني، أملًا في تدارك الخسائر والخروج بأقل الأضرار.
منى الخضِر، صاحبة محل "ستايلي كيدز"، كانت من ضمن من أعلنوا أن شهر يوليو/ تموز الجاري، سيكون آخر شهر لنشاط أعمالهم على أرض الواقع قبل التحول إلى النشاط التجاري الإلكتروني، مبررة قرارها بأن غالبية الزبائن لم يعد لهم القدرة على تحمّل أي ارتفاع في الأسعار، ولم يعد بأيدي منى، مثل الكثير من ملاك المحلات التجارية، تحمّل كُلفة الإيجار، وقد فعلوا كل ما بوسعهم في الشهور الأخيرة للاستمرار، لكنهم لم يعودوا يمتلكون النفس الطويل للصراع مع تبعات انهيار العملة المحلية أمام العملات الصعبة، والذي لا يقتصر تأثيره على القدرة الشرائية للزبائن فقط، أو الوفاء بمبالغ إيجار المحلات، فقد طالت موجة انهيار العملة بقية المصروفات، من شراء البضائع بالعملة الصعبة وتكلفة الشحن، إلى الضرائب وزيادة تكلفة الكهرباء بنسبة 100% في العام الماضي (2020).
محاولة يائسة
بعد مرور أيام من الارتفاع الجنوني للعملات الصعبة مقابل الريال اليمني، ومثل كل موجة انهيار سابقة للعملة، قامت محلات الصرافة بإغلاق أبوابها، وهو ما أعاد مرة أخرى، العديد من الأسئلة المتكررة لأذهان المواطنين الذين تساءلوا بدورهم عن محلات الصرافة وأسباب انتشارها بشكل واسع يثير الدهشة والاستغراب.
وبينما تواصل العملة مسلسل انهيارها في عدن، وهو ما يصفه خبراء اقتصاديون بالوضع بالكارثي وبأنه أخطر ما يواجه اليمن منذ بداية الحرب الدائرة منذ أكثر من ست سنوات، يلاحظ استقرارها في صنعاء ومناطق نفوذ أنصار الله (الحوثيين) عند 599 ريال للدولار الواحد.
ويطالب أهالي عدن "الجهات المعنية" بوضع حلول سريعة وعاجلة، والقيام بدورهم في الحفاظ على الاقتصاد الوطني من الانهيار.
لكن بعد صمت طويل وحيرة وتردد، ظهرت الحكومة المعترف بها دوليًا، عبر مجلسها الاقتصادي، لتؤكد أن ما يحدث في أسعار صرف العملة الوطنية ليس لها عوامل موضوعية، بل "مفتعلة" جراء المضاربات وبث الإشاعات والتأثير على السوق النقدية، وأعلنت عن مجموعة إجراءات لمواجهة انهيار العملة وتلافي تداعياتها وتبعاتها الاقتصادية والإنسانية.
أبرز الأسواق الشعبية في مدينة عدن، والتي تشهد ازدحامًا خانقًا كل سنة قبيل عيد الأضحى، لم تبلغ الذروة بعد، رغم أنه لم يتبقّ سوى خمسة أيام على حلول يوم العيد
ووضع المجلس عدد من الإجراءات والتدابير التي قال- وفق بيان صادر عنه اطلعت عليه "خيوط"، إنها تهدف إلى وضع حلول لوقف "التدهور غير المقبول" في أسعار صرف العملة الوطنية، والذي ينعكس بآثاره على معيشة وحياة المواطنين اليومية.
كما اعتمد المجلس مجموعة من السياسات الخاصة باتجاه تعزيز الإيرادات وتنويعها وتوسيع أوعيتها وضمان وصولها إلى الحساب الحكومي العام، وضبط وترشيد النفقات، بحيث تقتصر على الإنفاق الحتمي والضروري، وبما يؤدي إلى تحقيق الاستقرار المالي والنقدي.
وشددت الحكومة المعترف بها دولياً على المضي في تنفيذ كل السياسات والإصلاحات النقدية والمالية، واتخاذ كل ما يلزم من إجراءات لتعزيز الإيرادات ومكافحة الفساد، وانتهاج الشفافية ومعاقبة المقصرين والجهات التي لم تؤدِّ عملها على الوجه الأمثل.
موجة غلاء عاصفة
ويشكو أهالي عدن من موجة غلاء هي الأصعب، عصفت بقدرتهم على توفير احتياجاتهم من المواد الغذائية والاستهلاكية والملابس، في وقت يُرجع فيه التجار الأمر إلى ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل تدهور العملة المحلية .
وانعكس الأمر بصورة سلبية على الحركة الاقتصادية في المدينة، خاصة وأن العادة تقضي مع دخول شهر "ذو الحجة" أن تزدهر حركة البيع والشراء وتبلغ الذروة, لكن هذا العام، يبدو مختلفًا، كما تؤكد المواطنة الأربعينية أم أحمد، من مديرية كريتر، في حديثها لـ"خيوط". وترى أم أحمد أنه لا داعٍ لشراء كسوة العيد، وأنها ستكتفي هي وأسرتها بإعادة ارتداء ملابس عيد الفطر، وهو ما يبدو أنه بات في حكم العادة لغالبية العائلات في المدينة، والذين هم بأمس الحاجة لفرحة تزيل عن كاهلهم هموم العيش في مدينة باتت تفتقر لأبسط الخدمات العامة، كالكهرباء، والماء، يضاف إليهما غلاء متوحش ينهش ما تبقي للمواطنين من عقل وجسد.
انهيار الطبقة المتوسطة
ويؤكد كثيرون من أرباب العائلات متوسطة الدخل، ارتفاع أسعار مستلزمات وملابس العيد الجاهزة بما يفوق مقدرتهم على شرائها، وأنه ليس أمامهم سوى حلّ واحد، وهو شراء الملابس المستخدمة التي تُعرض في البسطات في الشوارع.
سوق "الشرطة مول" وسوق "شارع الحب" في الشيخ عثمان، وسوق "الطويلة" وسوق "البَزّ" في كريتر، هي أبرز الأسواق الشعبية في مدينة عدن، والتي تشهد ازدحامًا خانقًا كل سنة قبيل عيد الأضحى، لم تبلغ بعد الذروة، رغم أنه لم يتبقّ سوى خمسة أيام على حلول يوم العيد. وبالمقابل، تشهد المولات والأسواق الكبيرة ازدحامًا شديدًا، وهو ما يثير الاستغراب ويسيل الحِبر على العديد من الأسئلة: هل توشك الطبقة المتوسطة على الاندثار في المدينة؟ وبالمقابل، رغم الفقر والغلاء، هناك من بات يشق طريقه نحو طبقة فاحشة الثراء، تتسلق على أجساد الغالبية العظمى من الجياع، من بات همّهم كسرة خبز تسدّ جوعهم، وشربة ماء تزيح اللهاث عن ألسنتهم التي كفت عن المطالبة بحقوقها، وابتلعها الصمت كما يبدو إلى أجل غير مسمى.