"سيدة"، والتي تغير اسمها رغمًا عنها لأنه لم يعجب زوجها، أم يمنية ريفية واجهت كل صنوف المعاناة التي يمكن للمرء تصورها في المجتمع اليمني، تقول: "حتى اسمي استكثروه عليَّ وقاموا بتغييره في عقد قراني، نزولًا عند رغبة زوجي الذي اختار لي بدلًا منه سميحة، ففي مجتمعي يجب على المرأة أن تكون متسامحة، بل راضخة لكل ما يعجب الزوج ويتماشى مع رغباته".
وفي حديثها لـ"خيوط"، تضيف سيدة، وهي من أحد أرياف محافظة ذمار: "أصبحت أمًّا وأنا في الخامسة عشرة من عمري، بعد إرغامي على الزواج من رجل يكبرني أبناؤه بسنوات عديدة، وكنت لا أريده، فأنا لا أعرف ما معنى زواج غير أنني سأزف لرجل غريب، وظل غريبًا، وكان بداخلي نفور منه إلى أن حملت منه ورزقت بابني البكر".
مجردة من كل شيء، وكما قبلت الزواج مرغمة من أهلها فطلاقها بأيديهم أيضًا، تردف سيدة: "عندما حصل خلاف بين أهلي وزوجي أرادوا تطليقي منه، وحين رفضت قاطعني أهلي ثم تركني زوجي وعاد لغربته، ولم يكن لي حينها غير ابني أنيسي الوحيد وكل سعادتي، حين كنت أحتضنه أشعر وكأنه من كان يحتضنني ويواسي حالتي".
"في ذلك الوقت عرفت بأن عليّ حمل ثقيل وسأتحمله وحدي، وكنت وقتها أشعر بالقوة، فلدي عائلة، نعم فقد أصبح كل عائلتي تاركة خلفي ظلم الأهل وغياب الزوج" تقول سيدة، مضيفة: "تعبت وعانيت وتحملت وسهرت وحدي، كنت أذهب لجلب الحطب والماء وأعد الخبز والطعام ومعي ابني أحمله أينما ذهبت".
وفي كل مرة يعود زوجها من غربته كانت تحمل منه طفلًا جديدًا دون أدنى مسؤولية منه؛ تقول: "كان يتركني ويسافر ولا يعطيني أي شيء من المال، إلا ما كان يبقيه عند ابنه من زوجته الأولى، وما كنت أحصل على شيء منه"، بحسب وصفها.
وتقول سيدة وعيونها تذرف: "في أحد الأيام وأنا راجعة من الوادي وعلى رأسي حزمة حطب وأنا حامل بابني الثاني، قطع ابن زوجي مع خالته (أخت أمه المتوفية) طريقي وقاموا بضربي، وحاولت المقاومة، لكن ما قدرت فصحت حتى أنقذني أهل القرية من أيديهم".
اعتبارات كثيرة تدفع الأم للتخلي عن أغلب حقوقها، التي من أهمها حقها في الزواج مقابل حياة أبنائها، تقول فاتن الكوكباني لـ"خيوط"، إن الأم ترفض الزواج "لأن من عواقب زواجها حرمانها من أبنائها؛ لذلك تكون مجبرة أحيانًا على العيش بدون زوج من أجل بقاء أطفالها في حضانتها، وأحيانًا أخرى خوفها من إساءة تعامل الزوج الثاني لأولادها
ليست الحادثة الوحيدة التي تعرضت فيها سيدة للضرب، حيث كانت تواجه الأذية بين كل فترة وأخرى، لكنها رغم ذلك تقول: "عملت بكل جهدي على تدريس أبنائي الخمسة وبناتي الخمس، واحدًا تلو الآخر، حتى كبروا وصغرت معهم معاناتي، وتقلصت همومي ورأيت ثمرة تعبي".
منحت القوة رغم ضعفها
يبلغ سهيل من العمر 22 عامًا، ويدرس الجرافيكس في الجامعة، وقد نشأ مع أمه التي تخلت عن كل شيء مقابل حياة ابنها الكريمة.
أم سهيل تيسير محمد، تطلقت وهي حامل بابنها، ومن حينها كانت له الأم والأب والأخ والأخت وحتى الصديق؛ فهي تشاركه كل تفاصيل حياته، حسب قولها لـ"خيوط".
تضيف تيسير: "بعد ولادتي بسنتين التحقت بمعهد لتعليم الخياطة، تعلمت وتفوقت، وفور انتهائي من الدورة فتحت معمل خياطة في منزل والدي الذي طالما شجعني ودعمني معنويًّا وماديًّا، وأصبحت بعدها خيّاطة جيدة، تأتي الكثير من النساء للخياطة في معملي ومن هذا الدخل استطعت تعليم ابني في أفضل المدراس، ومنه وفرت له كل متطلباته في الحياة من ألعاب وملابس".
رفضت تيسير كل من تقدم لخطبتها، والسبب كما تقول: "رغبتي بالبقاء مع ابني وتحمل مسؤوليتي تجاهه، والآن ابني التحق بالجامعة وتخصص الجرافيكس الذي لطالما كان جديرًا بهذا المجال، فقد دعمته وقدمت له كل ما يدعم قدراته وموهبته في هذا المجال".
وتؤكد تيسير: "سأكمل ما بدأته دون تكاسل أو ندم، فما قدمته له كان يمدني بالسعادة، وإن تخلله التعب والكفاح، وبرغم كل ما يقذفه علي المجتمع من قاذورات أفكارهم تجاه المرأة المطلقة".
مخاض عسير
لم تكن "بشرى أحمد" أفضل حالًا من سيدة، فهي الأخرى أنجبت ابنها في سن السادسة عشرة من عمرها، تقول لـ"خيوط": "حين مررت بآلام المخاض ظننته أصعب ألم سيمر في حياتي، غير مدركة أن أمامي مخاضًا عسير الولادة؛ نظرات المجتمع التي لطالما تتشبث بالمطلقة"، مضيفة: "تطلقت وعمر ابني سبع سنوات، وخلالها تحملت الكثير من أجل أن يعيش في جو أسري متماسك، لكني أدركت متأخرة أن ما تحدث من مشاكل قد تؤثر عليه سلبًا، وفي الوقت نفسه ما عدت قادرة لتحمل المزيد، بعدها نسي والده بأنه ولده، ورمى كل المسؤولية على كاهلي وأنا تلك التي لم تكمل تعليمها بسبب زواجي المبكر، فكلما تقدمت لوظيفة يسألوني عن مؤهلي ولم تكن الحالة المادية لأهلي تسمح بتكفل مصاريفنا".
سجلت بشرى في معهد لتعليم اللغة الإنجليزية ودورات الحاسوب، وحصلت على الشهادة بعد أشهر لتقدم على وظيفة في أحد مكاتب المحاماة، وتم قبولها، وتيسر حالها قليلًا، ومن بعدها عزمت على إتمام تعليمها الثانوي والجامعي وبالفعل أكملت الثانوية، وهي الآن في عامها الثاني بقسم إدارة الأعمال في كلية التجارة.
كلما تقدم لها أحدهم للزواج يكون شرطها الوحيد أخذ ابنها معها، ولأن جميع من تقدم لها لا يقبل شرطها، ترفض الزواج قائلة: "سعادتي لا تساوي شيئًا مقابل سعادة ابني، ولا أريد التخلي عنه كما تخلى عنه والده. يكفيني من الحياة وجوده بقربي، فنحن سبب وجوده في الحياة، ولا بد أن نجعله يعيش حياة كريمة، فليس ذنبه زواجنا الخاطئ أو طلاقنا".
أصبح محمد في الصف السابع، ويملك هوايات متعددة في الرسم وصناعة المجسمات ويحصد درجات مرتفعة في صفوفه الدراسية، في وقت ملأت أمه كل فراغاته في الحياة.
عطف الأمهات سلاح لمواجهة المجهول
اعتبارات كثيرة تدفع الأم للتخلي عن أغلب حقوقها، التي من أهمها حقها في الزواج مقابل حياة أبنائها، تقول فاتن الكوكباني لـ"خيوط"، إن الأم ترفض الزواج "لأن من عواقب زواجها حرمانها من أبنائها، لذلك تكون مجبرة أحيانًا على العيش بدون زوج من أجل بقاء أطفالها في حضانتها، وأحيانًا أخرى خوفها من إساءة تعامل الزوج الثاني لأولادها، ورفض أغلب المقبلين على الزواج من مطلقة قبول أولادها، فتضطر بعض الأمهات إلى إلغاء فكرة الزواج".
ترى الكوكباني أن الأم لها القدرة على إسعاد أبنائها، ومنحهم القوة وتعزيز ثقتهم بأنفسهم رغم معانتها، وتردف: "أظن أن الأم هي من تقوم بهذا الدور، سواء كانت مع زوجها أو منفصلة عنه، وتستطيع فعل ذلك من خلال ابتسامتها دائمًا، وعدم إشعارهم بمعاناتها، ومحاولة توفير معظم متطلباتهم، وغمرهم بالحب والود".
وتؤكد الكوكباني أن "تعزيز الثقة بأنفسهم تأتي، كما يوضح أخصائيو التربية، من خلال عدم نقد أولادها أو لومهم أو الصراخ عليهم أو كبت مشاعرهم، لتبقى شخصياتهم قوية كما خلقها الله، والاهتمام بتعليمهم، وبذلك تكون قد أسعدتهم وجعلت بأيديهم سلاحًا قويًّا يواجهون به مستقبلهم المجهول".