لم يعد بالإمكان الحكم على أنشطة محال وشركات الصرافة وأسواق العملة في اليمن على أنها مشروعة أو غير مشروعة؛ فالانتشار الكبير لمحلات الصرافة، التي أصبحت أشبه بالدكاكين، جعل من عملها غامضًا وغير مفهوم.
وتستمر هذه الأنشطة بالتوسع بشكل مطرد من عام لآخر منذ بداية الحرب الدائرة في اليمن منذ العام 2015، وهو ما جعلها إحدى الملاذات الرئيسية لطبقة من الأثرياء والنافذين الذين كونتهم الحرب وقاموا بضخ أموال طائلة مجهولة المصدر في الاستثمار في هذا النوع من الأعمال، ومن ثم إحكام السيطرة على سوق الصرف في اليمن، الأمر الذي أدى إلى انقسام العملة، واختلاف عملية صرفها المتهاوية في عدن والمستقرة في صنعاء، وتوسع تكاليف عمولة الحوالات المالية بين المناطق اليمنية، إضافة إلى بروز ممارسات ضارة كالمضاربة بالعملة، والتسبب إلى جانب عوامل عديدة أخرى، في انهيارها بشكل كبير، وما رافق ذلك من تبعات كارثية على الأوضاع المعيشية لمعظم الفئات المجتمعية في اليمن.
في هذا الخصوص، رصدت "خيوط"، في وقت سابق توسع دائرة تجار العملة، وما رافق الحرب من انتشار مكثف ومتواصل لمحال الصرافة التي زادت بنحو خمسة أضعاف، خصوصًا في صنعاء وعدن- المراكز المالية لطرفي الحرب: الحكومة المعترف بها دوليًّا، وأنصار الله (الحوثيين). ففي صنعاء مثلًا، ترجح تقديرات، ارتفاع عددها إلى 1200 شركة ومحل، عاملة في مجال الصرافة، من 400 شركة مرخصة بمزاولة العمل، وفق آخر.
ويستغل تجار المال غياب الرقابة وانشغال السلطتين في صنعاء وعدن بالصراع السياسي، بدءًا بجني مئات الآلاف من قيمة الحوالات بين الطبعتين الماليتين الجديدة والقديمة للريال اليمني، والخصم من قيمة صرف فئات محددة من العملة الصعبة، والذي عده خبراء اقتصاديون عملًا غير شرعيٍّ ويخالف القانون، وصولًا إلى المضاربة بالعملة وغسيل الأموال.
ووصلت عمولة الحوالات المالية من مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا إلى مناطق نفوذ أنصار الله (الحوثيين) إلى نحو 55% طوال الشهر الماضي، وذلك بعد تهاوي سعر صرف الريال في عدن وتجاوزه حاجز 900 ريال للدولار الواحد، فكلما انخفض صرف الريال اليمني في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًّا توسعت عمولة الحوالات المالية.
أرباح غير مشروعة
شهدت اليمن انقسامًا سياسيًّا، تبعه انقسام مالي، فتح الفرصة لممارسات غير مشروعة تتسبب في نهب جيوب فقراء اليمن، البلد الذي وصفه المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، بأنه أصبح أسوأ مكان على وجه الأرض، وأن تلك الأزمة من صنع الإنسان 100% مضيفًا: "هذا يعني: لا طعام ولا وقود ولا نهاية تلوح في الأفق، هذا هو الجحيم، وأن 400 ألف طفل معرضون لخطر الموت في الوقت الحالي، هذا ليس مجرد رقم؛ هؤلاء أناس حقيقيون، هم بحاجة إلى دعم في أسرع وقت".
ينأى القطاع المصرفي بنفسه عن التسبب بمشكلة ارتفاع عملات التحويلات المالية أو التكسب منها، إذ إن السبب الرئيسي في هذه المشكلة التي أضرت كثيرًا بالمواطنين اليمنيين وفق عاملين في القطاع المصرفي، يعود إلى رفض سلطة أنصار الله (الحوثيين) تداول العملة الجديدة المطبوعة في صنعاء ومناطق نفوذها
يحكي المواطن عبدالله لـ"خيوط"، قصة استغلاله من قبل تجار العملة الذين يستفيدون من وضعه ووضع الكثيرين من أمثاله، كونه يعمل في عدن ويستلم راتبه بالعملة الجديدة للريال اليمني، بينما تعيش عائلته في صنعاء، حيث لا يصلهم سوى 60% من قيمة الحوالة الشهرية التي يرسلها إليهم والتي تعتبر نصف راتبه، ويقول عبدالله إنه يبذل الكثير من الجهد لجني هذا المال وبدوامين، ليستطيع إعالة عائلته وتوفير حياة كريمة لهم، لكن هذا المبلغ لم يعد يكفيهم بسبب ارتفاع الأسعار واقتطاع أصحاب محلات الصرافة كلفة باهظة من حوالات وجهد البسطاء.
لمياء يوسف، صحفية تعيش في تعز، تقول: "إن هناك الكثير من الصعوبات التي نواجهها في التعاملات المالية، أكثر هذه الصعوبات في قيمة الحوالات، فعندما نحاول إرسال مبلغ مالي إلى صنعاء يتطلب رسوم تحويل ضخمة أو نصف قيمة المبلغ المرسل تقريبًا، ما يضطرنا لتحويلها إلى عملات أخرى كالدولار أو الريال السعودي، كي نستطيع إرسالها برسوم معقولة".
وتضيف يوسف أن الأشخاص الذين يستلمون مرتباتهم بالعملة القديمة يلجؤون لاستبدالها بالريال السعودي أو الدولار، ومن ثم صرفها بالعملة الجديدة للحصول على فارق صرف العملتين المحليتين، ليتضاعف المبلغ، وهو ما يزيد من ضعف قيمة العملة المحلية.
وينأى القطاع المصرفي بنفسه عن التسبب بهذه المشكلة أو التكسب منها، إذ إن السبب الرئيسي في هذه المشكلة التي أضرت كثيرًا بالمواطنين اليمنيين، وفق عاملين في القطاع المصرفي، يعود إلى رفض سلطة أنصار الله (الحوثيين) تداول العملة الجديدة المطبوعة في صنعاء ومناطق نفوذها، إضافة إلى توسع فارق الصرف بين مناطق نفوذ طرفي الحرب في اليمن، لذا يلجأ القطاع المصرفي إلى تعويض هذا الفارق في رفع نسبة عمولة الحوالات.
بدوره، يعلق الخبير المصرفي حافظ طربوش لـ"خيوط"، حول هذا الجدل الدائر المتعلق ببعض الممارسات المصرفية وارتفاع رسوم الحوالات المالية بين المناطق اليمنية والتي أرهقت اليمنيين كثيراً، بالقول إن الارتفاع المتواصل في رسوم الحوالات سببه وجود عملتين محلية في البلاد، إضافة إلى أن هناك فرق في أسعار صرف العملتين مقابل الدولار الأمريكي.
سوق سوداء
يعاني مواطنون وتجار من خسائر مالية كبيرة عند قيامهم بعمليات البيع والشراء في نقاط التماس بين المناطق التي تقع تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دوليًّا وجماعة أنصار الله (الحوثيين).
في محافظة إب والضالع والبيضاء تنتشر بكثافة السوق السوداء للعملة بشكل عام وعلني، والتي تُعرض على المسافرين والتجار، وفق حديث عبدالله مسعود، وهو تاجر سيارات لـ"خيوط"، تبادل العملات مقابل أرباح مالية غير شرعية وفي كثير من الأحيان يتم تغيير المليون ريال من العملة الجديدة بنحو 900 ريال من العملة القديمة، ويضيف مسعود: "نُقدم على شرائها بسبب ظروف العمل ومتغيرات المكان في اليمن والسياسة النقدية لكل طرف".
تسبب انهيار العملة وما يرافق الصراع الدائر في اليمن، خصوصًا في الجانب الاقتصادي، إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية بشكل كبير يفوق قدرات المواطنين اليمنيين الذين تسببت الحرب في فقدانهم مصادر الدخل التي يقتاتون منها، إلى جانب توقف صرف رواتب الموظفين الذين يعيلون أسرًا عدد أفرادها يقدر بالملايين، وهو ما أدى إلى تفاقم أوضاعهم ومعاناتهم المعيشية بصورة تفوق قدراتهم على تحملها
ويفسر مسؤول في وزارة المالية بصنعاء لـ"خيوط"، ما يجري للعملة الوطنية من تدهور وتوسع فارق كبير في تحويل سعر الصرف من الريال إلى الدولار، يعود سببه الرئيسي لطباعة كميات كبيرة من النقد المحلي، وفق حجر فقد عملت هذه الخطوة على استبدال هذه الكتلة النقدية الضخمة بنقد أجنبي يتم تهريبه إلى الخارج.
ويرى أن كل الحلول المقترحة لحل هذه المشاكل المتعلقة بالتداول النقدي، تندرج في إطار الحرب الاقتصادية الراهنة التي تتعرض لها اليمن.
ويضعف الحصار الاقتصادي الذي يعيشه البلد، عملية الاستيراد والتصدير، ويلقي بظلاله على احتياطي العملة الأجنبية، ويجبر البنوك والتجار، وكذلك المنظمات العاملة في اليمن على استخدام فئات قديمة أو تالفة من العملات الصعبة لدفع رواتب موظفيها؛ ما يخلق فرصة لتجار العملة للتلاعب والخصم من سعر صرفها، بحجة تلفها أو قِدمها، وهو ما قال عنه المحلل الاقتصادي مصطفى نصر لـ"خيوط"، "عادة يمنية ليست موجودة في العالم كله، وتصرف غير قانوني دأب عليها تجار العملة في التعامل مع فئات معينة من الدولار أو فئة ما دون المئة الدولار، وهذا يعكس حالة عدم الالتزام بالقانون، في الوقت الذي يفترض فيه التعامل مع العملة وفقًا لقيمتها، ما عدا التالفة تلفًا يخرجها عن صلاحيتها".
كما يرجع هذا الوضع في اليمن لحالة الفوضى في مسألة السياسة النقدية والمالية، التي تعود إلى ضعف البنك المركزي وغياب دوره الفاعل في الرقابة، والذي سمح للكثير من تجار العملة ومحلاتها أن تمارس المضاربة بالعملة، وهذا عمل، وفق حديثه لـ"خيوط"، يخالف القانون ويعتبر ربحًا غير مشروع.
نهب أموال الناس
يرى مصرفيون وخبراء اقتصاد أن تهاوي العملة والتلاعب بها، وبروز عديد من الممارسات السلبية بسبب الصراع الدائر في البلاد، واستخدام الاقتصاد كورقة في هذا الصراع، أدى إلى نهب أموال الناس بغير وجه حق، وتوسع رقعة الفقر والتسبب بأكبر أزمة إنسانية على مستوى العالم، وفق تصنيف الأمم المتحدة.
وتسبب انهيار العملة، وما يرافق الصراع الدائر في اليمن، خصوصًا في الجانب الاقتصادي، إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية بشكل كبير يفوق قدرات المواطنين اليمنيين، الذين تسببت الحرب في فقدانهم مصادر الدخل التي يقتاتون منها، إلى جانب توقف صرف رواتب الموظفين الذين يعيلون أسرًا عدد أفرادها يقدر بالملايين، وهو ما أدى إلى تفاقم أوضاعهم ومعاناتهم المعيشية بصورة تفوق قدراتهم على تحملها.
كما أن الحلول لا يمكن أن تكون إلا إذا أوقف طرفا الأزمة في اليمن اللعب بالورقة الاقتصادية، ليتم تحييدها بعيدًا عن التدخلات الخارجية والمصارف المحلية، والتوقف عن طباعة عملات جديدة دون غطاء حتى لا يحصل تضخم في السوق اليمنية.
ويجمع المحللون على أن تفعيل عملية الرقابة على تجارة العملة ووضع ضوابط صارمة لمحاسبة المخالفين والمستغلين، ودعم احتياطي البنك من العملة الصعبة وإعادة وضع استراتيجية جديدة للسياسة النقدية، والعمل على استقرار العملة هي أهم الحلول الممكنة لمنع استغلال البسطاء، ورفع الضغط عن كاهل المواطن، والحفاظ على الاقتصاد من انهيار أكبر وشلل قد يهدد حركة البيع والشراء، ويعمق شبح الجوع القابع على رقاب ملايين اليمنيين.
تحرير/ خيوط