لليمن الموحد مكانة مرموقة في وجدان ومخيال غالبية اليمنيّين على امتداد المساحة الجغرافية للأرض اليمنية من المهرة شرقًا حتى حجّة غربًا ومن عدن جنوبًا حتى صعدة والجوف شمالًا، ومثّلت الوحدة اليمنية في 22 مايو، 1990، نقطة تحول استراتيجيّ في تأريخ اليمن الحديث، لما لها من دلالات عميقة في الجوانب السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، وفي جوانب الهوية الوطنية الضاربة في عمق التأريخ، والمتطلعة إلى عصرنة الحاضر والمستقبل.
وخلال ثلاثة عقود من تحقيق الوحدة اليمنية، برزت إنجازات تنموية ملموسة في كافة القطاعات الاقتصادية والاجتماعية، وشملت جميع المحافظات والمديريات، وفي نفس الوقت حدثت إخفاقات مؤلمة، وضاعت فرص ممكنة لبناء الدولة سياسيًّا ومؤسسيًّا، ولتطوير الاقتصاد الوطني واستغلال إمكاناته الواعدة في تنمية رأس المال المادي والبشري.
وبعد مرور ثلث قرن على تحقيق الوحدة اليمنية، برزت إلى السطح جماعات المشاريع الصغيرة، سواءً في شمال الوطن أو في جنوبه، فقد فشل خيالهم السياسي والاقتصادي في استيعاب متغيرات الحياة وإدارة الدولة والاقتصاد في ظلّ وطن موحد ينعم فيه الجميع بالأمن والسلام والاستقرار، ويُعظم فيه الاستغلال الأمثل لثرواته البشرية والطبيعية في عموم المحافظات.
ويمكن التركيز هنا على الجانب الاقتصادي لإعادة توحيد اليمن أرضًا وإنسانًا، وأبعاده المحلية والإقليمية والدولية، فتوحيد اليمن معناه توسيع الفرص الاقتصادية التي يحظى بها البلد، وتعزيز الشراكة بين مكونات الدولة من الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، وتأسيس بيئة حاضنة للاستثمار الوطني والخارجي، رغم وجود تحديات هيكلية عديدة، ومعوقات مؤسسية وثغرات تشريعية وقانونية، وهو أمر تواجهه المجتمعات في شتى بقاع الأرض بعزيمة وإرادة، واستطاعت تحويل تلك التحديات والمعوقات إلى فرص واعدة، كما هو الحال في التجارب التنموية في كوريا الجنوبية ورواندا وماليزيا وغيرها من الاقتصادات الناشئة.
الإمكانات الواعدة
يمثّل حجم السكان تحدّيًا للتنمية، ويمكن أن يكون فرصة واعدة أيضًا، فالتركيبة السكانية في اليمن تتسم بالفتوّة والشباب، وتبين المؤشرات أنّ الأطفال واليافعين (الفئة العمرية 0-18 سنة)، يشكّلون 47%، وأنّ الشباب والقوى العاملة (الفئة العمرية 19-60 سنة)، يشكّلون 46% من السكان.
هذا يعني أنّ اليمن يتمتع بثروة بشرية هائلة، وهذه ميزة نسبية عالية في منطقة الجزيرة العربية الغنية بالثروات المعدنية، وتواجه عجزًا مخيفًا في القوى العاملة، والفرصة الواعدة هنا تتمثّل في انتهاج سياسات وبرامج تستهدف تنمية الموارد البشرية من خلال تطوير مؤسسات التعليم العام والفنّي والجامعي لتأهيلها للدخول في سوق العمل المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
أصبحت البلاد مسرحًا للأطماع والتدخلات الإقليمية والدولية، وتحوّلت الكيانات الداخلية إلى بيادق في رقعة الشطرنج تحركها قوى خارجية كيفما شاءت وحيثما رغبت، وكل ذلك خصم من رصيد تطلعات وآمال اليمنيين وهويتهم ومستقبل الأجيال الحاضرة والقادمة.
وخلال العقود الخمسة الماضية، ساهمت القوى العاملة اليمنية في سدّ العجز بسوق العمل الخليجي، كما كان لتحويلات المغتربين دورًا محوريًّا في تعزيز الاحتياطي النقدي، وفي استقرار سعر صرف الريال في سوق الصرف الأجنبي، إضافة إلى توسيع حجم الاستثمار المباشر في الاقتصاد الوطني، وفي تحسين مستوى معيشة أسر المغتربين في الريف والحضر.
-يتوفر في اليمن حجم احتياطيات متواضعة من النفط والغاز مقارنة بدول الإقليم، إلّا أنّ هناك إمكانات واعدة لهذه الثروة، فالخارطة النفطية لليمن تشمل 105 قطاعات، ويتم إنتاج النفط من 12 قطاعًا فقط، وهذا يعني أنّ بقية القطاعات مفتوحة وتحتاج إلى الترويج لاستقطاب الشركات العالمية للاستثمار فيها، إضافة إلى أهمية تعظيم الاستفادة من عوائد تصدير الغاز، وحماية الحقوق السيادية للبلد من تلك العوائد، فهناك ضرورة ماسة لمراجعة اتفاقيات العقود مع الشريك المشغل فيما يتعلق بالتسعير وحصص الأرباح وحجم الغاز المباع للمشغل وفقًا للعقود، ورسوم منشآت المنبع وحجم الاحتياطي من الغاز وغيرها.
-استغلال الموقع الجغرافي المتميز لليمن، والذي يمتلك سواحل مترامية من ميدي غربًا على البحر الأحمر إلى حوف شرقًا على حدود عمان، ويقع على خط الملاحة الدولي الرابط بين آسيا وأفريقيا وأوروبا، وهذا يتطلب تطوير الموانئ البحرية والانضمام إلى مبادرة الحزام والطريق التي تتبنّاها دولة الصين، والاستفادة من مزايا الفرص الاستثمارية التي تروّج لها المبادرة، إضافة إلى أهمية حماية المياه الإقليمية والمناطق الاقتصادية البحرية الخالصة لليمن، وهي مناطق شاسعة تمتد حتى الجرف القارّي في عمق المحيط الهندي، وحسن استغلال الثروة السمكية أو الثروات المعدنية فيها، وحماية الجزر، وتحديدًا جزيرة سقطرى، باعتبارها إحدى ركائز الفرص الواعدة في المستقبل، والترويج للسياحة في كل مناطق اليمن.
-الاستغلال الأمثل للأراضي المحدودة والصالحة للزراعة، والتي تشكّل قرابة 3% فقط من إجمالي مساحة اليمن، والتركيز على التوسع في زراعة المحاصيل النقدية من الفواكه والخضروات والمحاصيل ذات الجدوى الاقتصادي، للمساهمة في ضمان الأمن الغذائي حاضرًا ومستقبلًا، بالإضافة إلى أهمية ترشيد استخدام المياه، والتي تمثّل تحديًّا هيكليًّا ليس للزراعة فقط، بل لحياة الإنسان على خارطة اليمن الموحد.
إنجازات وإخفاقات
في عام 1990، كانت مؤشرات التنمية البشرية والاقتصادية تصنّف شطرَي اليمن، في مجموعة الدول الأقل نموًّا، مع الفارق في الفرص الاقتصادية واستثمارات القطاع الخاص في الشطر الشمالي، وخلال ثلاثة عقود تمكّنت الحكومات المتعاقبة من المساهمة في برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وهذا يشمل:
- إعداد أربع خطط خمسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية، الأولى (1996-2000)، والثانية (2001-2005)، والثالثة (2006-2010)، والرابعة برنامج مرحلي (2012-2014)، وتمكّنت الحكومات المتعاقبة من حشد الموارد المحلية والخارجية لتمويل مشروعات التنمية لتلك الخطط بالتنسيق والتعاون مع الدول والمؤسسات الدولية والإقليمية المانحة، حيث عُقدت مؤتمرات المانحين لدعم تنفيذ خطط التنمية، كان أولها في بروكسل عام 1997، وثانيها في باريس عام 2002، وثالثها في لندن عام 2006، ورابعها في الرياض عام 2012، وبلغت إجمالي تعهدات المانحين من القروض والمساعدات في تلك المؤتمرات، حوالي 17 مليار دولار.
وللأسف، لم تتمكّن الحكومات من استغلال كلّ تلك الموارد، وتم الاستفادة والتخصيص للمشاريع التنموية بحوالي 40% من تلك التعهّدات، بسبب ضعف القدرات الاستيعابية لتلك التعهدات، إضافة إلى المعوقات المؤسسية والقانونية لأجهزة الدولة المعنية بتنفيذ المشاريع التنموية، وبالمجمل فقد حقّقت الدولة إنجازات ملموسة في تنفيذ مشاريع تنموية في مختلف القطاعات وفي عموم المحافظات، أهمّها الكهرباء، والطرق والجسور الرئيسية والطرق الفرعية والريفية، والمياه والصرف الصحي، ومدارس التعليم العام والجامعات والمعاهد الفنية، والمستشفيات والمراكز الصحية وغيرها.
وقد ساهمت تلك المشاريع في تحسين مستوى التنمية في اليمن بصورة نسبية، رغم توسع حجم الاحتياجات في كل القطاعات والمحافظات.
- جذب الاستثمارات الدولية في مجال استكشاف واستخراج وتصدير النفط والغاز في محافظات مأرب وحضرموت وشبوة، حيث تزايد إنتاج وتصدير النفط منذ عام 1993، ووصل أعلى مستوى له عام 2005، بكميات تصل إلى 500 ألف برميل يوميًّا، وأصبح قطاع النفط الرائد في الاقتصاد، حيث بلغت مساهمته بحوالي 30% في الناتج المحلي الإجمالي، وبحوالي 95% من إجمالي الصادرات إلى الخارج، ومنذ عام 2005، بدأ إنتاج وتصدير النفط بالتراجع، بسبب تناقص الاحتياطيات في الآبار النفطية من جانب، وعدم القدرة على جذب الشركات النفطية الدولية للاستثمار في القطاع؛ بسبب إخفاق الدولة في بسط الأمن والأمان في مناطق الاستكشاف، وانتشار ظاهرة اختطاف الأجانب، وبروز معادلة "الشراكة مع المستثمر مقابل الحماية" من المتنفّذين المتطفلين في أجهزة الدولة، كما تمكّنت الدولة من جذب الاستثمارات الأجنبية لاستخراج وتصدير الغاز منذ عام 2009، إلّا أنّ التقارير الرسمية والأحكام القضائية تبيّن أنّ العقود والاتفاقيات الموقعة مع الشريك المشغل شابتها شبهة الفساد والتفريط بالحقوق السيادية لليمن في العوائد والأرباح والاحتياطيات.
الصراع والاحتراب
منذ السنوات الأولى من عمر الوحدة المباركة، عجزت الأطراف السياسية عن تهيئة البلاد للاستقرار والوئام والتنمية، ونزعت إلى المماحكات والصراع ثم الاحتراب الداخلي، وتكرّر ذلك كلّ عقد من الزمن تقريبًا، بدءًا بحرب 1994، مرورًا بحروب صعدة في 2004 وما بعدها، وانتهاءً بالحرب الكارثية والمدمرة في 2014 حتى وقتنا الحاضر، وكل تلك الحروب، بغض النظر عن التبرير أو المعارضة لها، فقد سبّبت جروحًا عميقة في جسد الوطن الواحد، وأثّرت على مسار الاستقرار والتنمية، واستهلكت الكثير من الموارد المالية والبشرية، بل عزّزت من دعوات الانفصال والتشرذم وتبديد الثروات السيادية للمجتمع، وساهمت في تدحرج اليمن من دولة شبه مستقرة إلى دولة هشة ثم إلى دولة فاشلة ومنهارة.
وأصبحت البلاد مسرحًا للأطماع والتدخلات الإقليمية والدولية، وتحوّلت الكيانات الداخلية إلى بيادق في رقعة الشطرنج تحرّكها قوى خارجية كيفما شاءت وحيثما رغبت، وكلّ ذلك خصم من رصيد تطلعات وآمال اليمنيين وهويتهم ومستقبل الأجيال الحاضرة والقادمة.
الفرص الضائعة
مع نهاية عام 1994، كان اليمن يعاني من أزمة اقتصادية حادّة، تمثّلت في التدهور الشديد لسعر صرف الريال، (كان سعر الصرف في السوق الموازي حوالي 10 أضعاف السعر الرسمي)، كما وصل معدل التضخم إلى أكثر من 105%، وتراجع حجم الاحتياطي النقدي إلى أدنى مستوياته، وبلغت حجم القروض الخارجية والعجز في الميزانية العامة حوالي 20% و25%، من الناتج المحلي الإجمالي على التوالي، وهو ما دفع الحكومة حينذاك للتواصل والتنسيق مع كلٍّ من البنك والصندوق الدوليين، وتبنّت برنامج الإصلاحات الاقتصادية والمالية والإدارية.
يشكّل الجيل الذي تزامن مع تحقيق الوحدة اليمنية حجمًا هائلًا من عدد السكان في عام 2022، إذ تشير البيانات إلى أنّ مَن هم دون سن الأربعين يبلغون 26.2 مليون نسمة (ذكورًا وإناثًا)، ويمثّلون 82% من إجمالي السكان، وبالتأكيد فإنّ الغالبية العظمى من هذا الجيل، إضافة إلى النسبة العالية ممّن هم في الفئات العمرية الأعلى من الأربعين، يتطلعون إلى وطن موحد ومستقر.
وخلال الفترة (1995-2000)، تمكّنت الحكومات من تحقيق الاستقرار في أسعار الصرف، وتخفيض التضخم والعجز في الميزانية، والإعفاء من نسبة عالية من القروض الخارجية عبر نادي باريس، إلّا أنّ وتيرة الإصلاحات تراجعت بعد ذلك، وضاعت الفرصة على الحكومات المتعاقبة في معالجة العديد من الاختلالات، مثل:
- تزايد كلٍّ من حجم الدعم للمشتقات النفطية، وفوائد الدَّين العام المحلي إلى مستويات عالية، 20% و25% من الإنفاق العام على التوالي.
- تعثّر في الإصلاح الضريبي، وعدم القدرة على توسيع القاعدة الضريبية، والإخفاق في تطبيق مبادئ العدالة والمساواة والشمول في التحصيل الضريبي.
- تعثّر في برنامج خصخصة الشركات العامة، وما صاحبه من عدم الشفافية وإهدار للممتلكات العامة.
وفي جانب الإصلاحات الإدارية والمؤسسية، كان سقف التوقعات عاليًا في تحديث الخدمة المدنية وإعادة هيكلة الأجهزة الحكومية وإصلاح نظام الأجور والمرتبات، والحد من العمالة الفائضة والمزدوجة والوهمية، وللأسف كان مستوى الأداء في هذا الجانب ضعيفًا ومتعثرًا، ولم يتم الاستفادة المثلى من برامج الدعم المقدمة من المانحين لتحديث وإصلاح الجهاز الإداري للدولة، ممّا جعل البنك الدولي يُلغي تمويل المرحلة الثانية من مشروع تحديث الخدمة المدنية.
كما ضاعت الفرصة في تأسيس نظام حكم محليّ، يعزّز اللامركزية المالية والإدارية، ويجسد شراكة المجتمعات المحلية في المحافظات والمديريات في صنع القرار وانتخاب قيادات المحافظات والمديريات للمساهمة في إدارة الشؤون الاقتصادية والتنموية بالتعاون والتنسيق بين المركز والأطراف، وهنا فرصة أخرى ضاعت، فقد جاء قانون السلطة المحلية دون التوقعات وأوجد كيانات هامشية، بل إنّ المركزية المالية تعمّقت إلى درجات مفرطة.
وعجزت الحكومات المتعاقبة عن تهيئة البيئة الملائمة والحاضنة للاستثمار الوطني والأجنبي، من خلال التعثر في الإصلاحات المؤسسية والتشريعية والقضائية والمصرفية، وبذلك ضاعت الفرصة في جذب الاستثمارات اليمنية المهاجرة أو الاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل مشاريع القطاع الخاص في القطاعات الواعدة والمجدية، باستثناء مشاريع محدودة في قطاعات النفط والغاز والفندقة، وخير دليل على ذلك الإخفاق في إنشاء منطقة حرة في عدن وفقًا لأفضل المعايير والممارسات الإقليمية والدولية، كما هو الحال في دبي أو سنغافورة.
نداء إلى جيل الوحدة
يشكّل الجيل الذي تزامن مع تحقيق الوحدة اليمنية حجمًا هائلًا من عدد السكان في عام 2022، إذ تشير البيانات إلى أنّ من هم دون سن الأربعين يبلغون 26.2 مليون نسمة (ذكورًا وإناثًا)، ويمثّلون 82% من إجمالي السكان، وبالتأكيد فإنّ الغالبية العظمى من هذا الجيل، إضافة إلى النسبة العالية ممّن هم في الفئات العمرية الأعلى من الأربعين، يتطلعون إلى وطن موحد ومستقر والعيش في ظلّه بأمن وأمان وسلام، ويرفضون مطلقًا كل مشاريع التشرذم والانقسام.
كما يرفضون أن يدفعوا أثمانًا باهظة للأخطاء الجسيمة التي يرتكبها السياسيّون (شمالًا جنوبًا) في حقّ وطنهم وفي تحديد مصير مستقبلهم، فأكثر من ثلثي هذه الفئة العمرية (دون سن الـ40)، هم في سنّ الطفولة أو ملتحقون بالمدارس الأساسية والثانوية أو في الجامعات، أو يبحثون عن عمل؛ أي إنّهم أصحاب المهن والتخصصات في المستقبل، ومن حقّهم الحصول على الوظائف المناسبة في ربوع وطنهم الممتد من المهرة حتى حَجّة، كما أنّ الثلث المتبقي هم من أصحاب التخصصات التطبيقية والنظرية أو ممّن يبحثون عن فرص عمل يدوية أو مهنية، ولهم كامل الحق في أن يعيشوا بكرامة ويحملوا هوية وطنهم الموحد في داخل البلاد وخارجه.
وكلُّ الدلائل تشير إلى أنّ جيل الوحدة فقَدَ ثقته بالطبقة السياسية المروجة لتجزئة اليمن وإعادة تشطيره، وكل الآمال معقودة على هذا الجيل لتصحيح المسار وبناء وطن واحد وواعد، حاضرًا ومستقبلًا.