بعد أن عمل محمد البشيري (51 سنة)، معلمًا في إحدى مدارس صنعاء الحكومية لأكثر من 20 عامًا، وجد نفسه على رصيف شارع النصر في منطقة سعوان بصنعاء، مع مجموعة من عمال الأجر اليومي، ينتظر أي عمل قد يكسب منه شيئًا يعود به لأسرته، إذ يقول البشيري في حديثه لـ"خيوط"، إنه أصبح يعمل بالأجر اليومي منذ أكثر من أربع سنوات، بعد أن قام ببيع كل مجوهرات زوجته ومقتنياته، ويئس من صرف مرتباته المنقطعة، ويشير إلى أنه قد حاول العمل في كثير من المهن التي لم يكسب منها سوى الكثير من التعب والقليل من المال، بسبب تقدمه في العمر وعدم قدرته على مزاولة بعضها.
يعول البشيري أسرةً مكونة من 6 أفراد، يعود إليهم في معظم الأيام خالي اليدين، بسبب عدم توفر أشغال، ويشعر بالألم ومرارة الحياة كلما تذكر بأنه موظف حكومي ومعلم من المفترض أن تكون حياته أكثر استقرارًا وأفضل من هذا الحال.
ويعاني حوالي 120 ألف معلم في اليمن من أوضاع مأساوية قاسية بسبب انقطاع مرتباتهم منذُ أكثر من 8 سنوات، لا سيما المتواجدين في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين)، وهم الأكثر عددًا بحكم الكثافة السكانية، وتهميشًا بفعل السياسة "الحوثية" تجاههم.
ولم تكتفِ سلطات أنصار الله (الحوثيين) برفض دفع رواتب المعلمين والموظفين في مناطق سيطرتها فقط، بل تجبرهم منذ سنوات على العمل دون أي مقابل مالي، بالإضافة إلى التنكيل والتخوين بحق كل المعلمين الذين قد يطالبون بمرتباتهم أو الاعتراض على سياسية التجويع التي تمارس ضدهم، فيما يمارس التعسف بحق الكثير منهم، وقد قامت السلطات بفصل كثير من المعلمين من عملهم واستبدالهم بآخرين من المتطوعين التابعين لها والأقل كفاءة وخبرة، وهو ما يهدّد سير العملية التعليمية برمتها.
إتاوات باسم المعلم
في العام 2017، أنشأت سلطات أنصار الله (الحوثيين) في مناطق سيطرتها ما أطلقت عليه "صندوق دعم المعلم والتعليم"، والذي قالت إنه يهدف إلى صرف مرتبات المعلمين ودعم العملية التعليمية، غير أنّ الجماعة ظلت تتحجج بعدم نجاح الصندوق وعدم إنشائه بشكل رسمي حتى العام 2019، وتم مناقشة مشروعية الصندوق في مجلس النواب نهاية العام ذاته، وتم التصديق على قانون إنشائه والذي صدر في العام 2020 وتم العمل به، وعين وزير التعليم يحيى الحوثي رئيسًا له.
في 20 يوليو/ آذار الماضي، أعلن نادي المعلمين والمعلمات اليمنيين، وهي نقابة تمثل كل التربويين الذين يعملون في التعليم العام في اليمن الإضراب الشامل في عموم مناطق سيطرة سلطة صنعاء التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) حتى يتم الاستجابة لمطالبهم، بعد معاناة طويلة ووعود كاذبة كثيرة.
يتحصل الصندوق إيرادات كبيرة، ووفقًا للقانون الصادر بإنشائه، فإنه يتم توريد 2% من إيرادات ضريبة القات إليه و1% من قيمة الرسوم الجمركية التي تضاف إلى الرسوم الجمركية للسلع والبضائع في المنافذ الرسمية، و1% تضاف إلى قيمة تذاكر السفر البرية والجوية والبحرية الخارجية، وأيضًا إضافة 5 ريالات إلى قيمة كل كيس أسمنت محلي وزنه (50 كيلو) معبأ أو سائبًا، و10 ريالات تضاف إلى قيمة كل كيس أسمنت مستورد وزنه (50 كيلو) معبأ أو سائبًا، و5 ريالات تضاف إلى قيمة كل عروسة سجائر محلية و10 ريالات تضاف إلى قيمة كل عروسة سجائر مستوردة، و1% تضاف إلى قيمة كل فاتورة اتصال هاتفي (الثابت أو النقال) وخدمات الإنترنت.
كما يتم إضافة ريالٍ واحدٍ إلى قيمة كل كرتون مياه معدنية وجميع العصائر والمرطبات والمشروبات الغازية المحلية، و(ريالان) يضافان إلى قيمة كل كرتون مياه معدنية وجميع العصائر والمرطبات والمشروبات الغازية المستوردة، وإضافة مِئتَي ريال عند منح أو تجديد رخص الإقامة وتأشيرة الدخول والخروج وتصاريح العمل للأفراد غير اليمنيين، وريال واحد يضاف عن كل لتر من البترول والديزل، 50% من قيمة الرسوم المدرسية السنوية والتي تضاعفت إلى أكثر من 1000%، كما يتم فرض إتاوات ومبالغ كبيرة على التجار والقطاع الخاص، الذي أصبح ملزمًا بدفعها إلى هذا الصندوق تحت مبرر دعم المعلم والتعليم في كل فترة.
ورغم هذه الإيرادات المتنوعة والكبيرة التي تتحصلها الجماعة منذ سنوات ولا تتهاون بها أبدًا، لم تفِ بالتزاماتها ولم تصرف مرتبات المعلمين، ولا يتحصل المعلم إلا على مرتب واحد مجزأ في السنة يتم صرفه على دفعتين الأولى في عيد رمضان والثانية في عيد الأضحى.
ويرى المحلل الاقتصادي وفيق صالح، عدم وجود أي سبب يفسر عدم التزام السلطات الحوثية في مناطق سيطرتها بصرف المرتبات سوى أنها تتاجر بمعاناة المواطنين وتبتز المجتمع الدولي للضغط على التحالف والحكومة المعترف بها دوليًّا من أجل دفع المرتبات في مناطقها، ويشير صالح في حديثه لـ"خيوط"، إلى أن السلطات الحوثية تتعامل مع ملف مرتبات الموظفين في مناطق سيطرتها كورقة مساومة وابتزاز أمام المجتمع الدولي والأمم المتحدة وتستثمر المعاناة الإنسانية في البلاد من أجل تحقيق مكاسب سياسية ونفعية لقيادات الجماعة ودوائر سلطتها الضيقة.
حراك المعلمين
في 20 يوليو/ آذار الماضي، أعلن نادي المعلمين والمعلمات اليمنيين، وهي نقابة تمثل كل التربويين الذين يعملون في التعليم العام في اليمن، الإضرابَ الشامل في عموم مناطق سيطرة سلطة صنعاء التابعة لجماعة أنصار الله (الحوثيين) حتى يتم الاستجابة لمطالبهم، بعد معاناة طويلة ووعود كاذبة كثيرة.
في السياق، يقول أبو زيد الكميم- رئيس نادي المعلمين والمعلمات، لـ"خيوط"، إنّ مطالب النادي بسيطة جدًّا، وهي تسليم مرتبات المعلمين بشكل شهري وكاملة دون انقطاع، بالإضافة إلى تسليم المرتبات السابقة كاملة، عبر آلية معينة يتم إنشاؤها.
أحدث الإضراب الذي قام به المعلمون شللًا شبه كامل للعملية التعليمية وتوقفها في مناطق كثيرة، إذ قام النادي بإعلان الإضراب بعد أن تواصلت اللجنة التحضيرية في النادي مع قيادات النقابات التربوية ومدراء المناطق التعليمية من أجل تنفيذ عملية الإضراب، وقد تم الاستجابة في معظم المناطق الخاضعة لسيطرة الحوثيين، بحسب حديث الكميم لـ"خيوط".
من جهة أخرى، يقول الكميم أنّ اللجنة التحضيرية قامت بالتواصل مع مكتب زعيم الجماعة وطرح مطالبهم عليه والتواصل مع أعضاء مجلس النواب، الذين أثاروا القضية داخل المجلس، وألزم الحكومة المعينة من قبل الحوثيين بدفع رواتب المعلمين، واستدعاء وزير التربية والتعليم يحيى الحوثي لحضور جلسة الاستجواب، والذي رفض حضور جلسة مجلس النواب لأكثر من مرة لأسباب مجهولة.
وفي تغريدة على تويتر، قال البرلماني أحمد سيف حاشد إن الحكومة لم تحضر إلى المجلس، وإن نادي المعلمين والمعلمات قدّم بلاغًا عاجلًا إلى مجلس النواب ضد وزارة التربية والتعليم بسبب تنصلها من صرف مرتبات المعلمين، وأصدرت عبر مكاتب التربية والتعليم توجيهًا إلى مُديرِي المدارس بالعمل بالجدول الطارئ من أجل كسر الإضراب، وحذرت من عواقب هذا التوجيه على العملية التعليمية والطلاب.
تعنت السلطات
تسبب الحراك الذي قام به النادي بحالة إرباك لدى سلطة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء، والتي أعلنت عن توزيع حافزٍ مالي للمعلمين في كافة مناطقها بمقدار 30 ألف ريال (60 دولارًا) لكل معلم، وألزم رئيس المجلس السياسي التابع للحوثيين حكومته بانتظام عملية دفع الحوافز شهريًّا، في المقابل يؤكد الكميم على أن عملية دفع الحوافز كان الغرض منها إسكات المعلمين بالمطالبة بحقوقهم، وأن حوالي 90% من المعلمين استلموا تلك الحوافز وعادوا لمواصلة الإضراب، الذي يهدف إلى تسليم مرتباتهم كاملة ومنتظمة.
من جانب آخر، فإنّ السلطات تعاملت مع القضية بطريقة فجة ومتعنتة، إذ ترى أن من يطالبون بمرتباتهم مجرد خونة وعملاء لدول التحالف، وقامت بإنشاء حملات إعلامية عديدة للتحريض عليهم، وفي خطاب مسجل لرئيس المجلس السياسي التابع للحوثيين، مهدي المشاط، قال إن المطالبة بالمرتبات تأتي ضمن خطة أمريكية اطلع عليها، تهدف إلى زعزعة الاستقرار، وحمل ذلك الخطاب الكثير من التهديدات بحق كل من يطالب بمرتباتهم.
لا يتوقف الأمر هنا فقط؛ إذ نفذت السلطات عمليات اعتقالات واسعة للمعلمين والمشاركين في الإضراب في مناطق كثيرة، إذ يشير الكميم إلى أنهم يتعرضون للكثير من التهديدات، وأن النادي رصد العديد من عمليات الاعتقالات التي قامت بها السلطات، وقام الفريق القانوني في النادي بمتابعة الموضوع، وقد أفرجت السلطات عن المعتقلين، الذين استمر اعتقال بعضهم أكثر من يوم، فيما يظل أمين عام النادي محسن الدار مخفيًّا منذ أكثر من أسبوع، ولا يعلم أحد مكانه حتى الآن.
وكانت قد أطلقت حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت وسم #رواتبنا_من_نفطنا_وغازنا، من أجل تهييج الرأي العام ضد الأطراف الأخرى، وتبرير آخر منها بأن مرتبات الموظفين كانت تسدد من عائدات النفط والغاز، وفي السنوات السابقة كانت قد تحججت السلطات بعدم وجود عائدات وإغلاق ميناء الحديدة، قبل أن يتم الاتفاق بين الأطراف السياسية في العام 2018، على أن يتم فتح ميناء الحديدة ويتم توريد عائدات الميناء والجمارك والضرائب هناك إلى حساب بنكي في البنك المركزي- فرع الحديدة، من أجل صرف المرتبات وفق بنود اتفاق ستوكهولم المنعقد في ذلك الوقت، وهو ما أكّده عصام المتوكل الناطق الرسمي باسم شركة النفط، في مقطع نشره على حسابه على تويتر، إذ قال إنه يتم توريد ضرائب المشتقات النفطية إلى البنك المركزي، وفقًا لما نص عليه الاتفاق منذ العام 2018.
وفي السياق، يقول صالح إنّ الموارد في مناطق سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) تضاعفت بشكل كبير، لا سيما بعد فتح ميناء الحديدة بشكل كامل وتحويل مسار حركة سفن الحاويات إليه، وبالتالي أصبحت الجماعة تجثو على إيرادات ضخمة تنمو وتتضاعف باستمرار، في الوقت الذي ترفض فيه الإنفاق على الخدمات الأساسية ودفع رواتب الموظفين، ويؤكّد صالح أنّ هناك موارد مالية هائلة تسيطر عليها سلطات الحوثيين، وهي تكفي لدفع رواتب كافة الموظفين في الجمهورية اليمنية بشكل شهري ومنتظم.