قبل أيام قلائل وجه لي الصحفي والكاتب توفيق الشنواح سؤالا متشعبا، ضمن استطلاع صحفي، صاغه على هذا النحو:
- لماذا يتوق الجنوبيون لاستعادة دولتهم السابقة (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية) قبل دخولها في وحدة اندماجية في مايو ١٩٩٠ مع الجمهورية العربية اليمنية؟
- ما الذي كان يميزهم قبل قيام الوحدة وما الذي سلبته هذه الوحدة منهم لتصبح نذير شؤم في حياتهم كما يقولون؟
- نسمع باستمرار عن التطور والتحديث الذي انجز جنوبا، وخصوصا في قطاعات أساسية وحيوية في المجتمع كالتعليم والصحة والأمن والعدالة والمساواة والخدمات ... أين صارت هذه المكتسبات؟
قبل الإجابة على السؤال المتشعب والمركب سنعود قليلا إلى الوراء لبعض المعاينة التاريخية الموجزة، لتصير محطات هذه المعاينة السريعة تمثيلا لأوجه الإجابة على مرامي السؤال المطروح بتفريعاته المختلفة.
_____________________
منذ نهاية الحرب العالمية الأولى صارت مدينة عدن قبلة للهجرة الداخلية في اليمن، خصوصا للمجاميع التي كانت قريبة أو ناشطة في بنية السلطة التركية في احتلالها الأخير لإقليم اليمن، وكذا المتوجسين من توجهات سلطة الإمام يحيى بنزوعها الديني المتشدد، وصارت في ذات الوقت -أي مدينة عدن- أيضا حاضنة لوافدين من جنسيات متعددة أوروبية وآسيوية وأفريقية يبحثون عن فرص جديدة، بعد أن تحولت المدينة إلى مركز حيوي لتخزين الفحم في أهم خط ملاحي يتوسط ثلاث قارات تقريبا.
ومنذ انفصال عدن عن شركة الهند الشرقية وتبعيتها لوزارة المستعمرات في العام 1937 تحولت إلى مركز جذب اقتصادي، صار مع نهاية الحرب العالمية الثانية أكثر نشاطا واستقطابا للأيادي العاملة الرخيصة القادمة من يمن الداخل (المملكة المتوكلية) وسكان المحميات الغربية والشرقية أيضا، التي كانت تحتاجها عملية تأهيل البنية التحتية وإقامة المشروعات الاستراتيجية (مصافي عدن والميناء) وقطاع الإسكان والخدمات والمواصلات.
بدأت تبرز في المستعمرة البريطانية الكثير من قيم المدينة الحديثة وقوانينها الصارمة التي تنظم حياة المجتمع في أوجهها الاقتصادية والثقافية كما ترغب بذلك السلطة الاستعمارية وتخدم مصالحها، على عكس البيئات المحيطة بعدن التي بقيت غارقة في عزلتها وعلاقاتها العشائرية المتخلفة، بما فيها المحميات القريبة من عدن نفسها.
على هذه الخلفية وتراكماتها تشكل الوعي النقابي في أوساط الوافدين وتلازم لاحقا بالوعي السياسي في أوج فترة الكفاح المسلح ضد الاحتلال البريطاني، الذي صار أمرا متحققا بصفته استقلالا ناجزا في آخر أيام نوفمبر 1967.
بعد الاستقلال أمسكت الجبهة القومية- بتوجهاتها اليسارية المتشددة- بالسلطة وفرضت الكثير من القوانين التي رأت فيها أنها تخدم الفئات المسحوقة التي لم تعتن بها سلطات الاستعمار كما يجب، وأنتجت في ذات الوقت الكثير من المفاهيم والنماذج الجديدة في دولة قوية جمعتها ولمت شتاتها من أكثر من عشرين سلطنة ومشيخة وكيان قبلي.
استفادت الفئات المسحوقة، في قرابة ربع قرن، من قوانين الإسكان والتعليم، واجتماعيا من قوانين الأسرة والأحوال الشخصية، ووجدت نفسها في فضاء عام يهتم بالثقافة والفنون، لكنها بالمقابل عانت من القبضة الأمنية الشديدة وتهالك البنية التحتية والانكماش الاقتصادي بسبب بطء برامج التنمية، ومثل هذه المعضلات أنتجت نوعا من الحنين لسنوات الاستعمار، فكنت تسمع عبارة شائعة مثل "رحم الله أيام بريطانيا."
الأنَّات التي لم تستمع إليها السلطة المنتصرة، بعد أن وضعت الحرب حمولتها ومن ثم تجريمها للأصوات المطالبة بإصلاح مسار الوحدة، صارت مع الوقت مظلومية تجتذب الكثيرين، وصار أصحابها يسوقونها بصفتها قضية حقوقية، قبل أن تصير حراكا سلميا تعبر عنه المظاهرات والاحتجاجات المستمرة التي قابلتها قوى الأمن بالقمع.
كارثة يناير أنتجت الشرخ الأكبر في بنية المجتمع بعد قرابة عقدين من الاستقلال وبناء الدولة الوطنية الديمقراطية، كما كان يسوق الخطاب الرسمي، وظن الجميع أن الوحدة الاندماجية الفورية التي ذهب إليه النظامان السياسيان المتناقضان في الشمال والجنوب ستعيد ترميم حياة السكان المتنوعين بدون حمولات الثأر السياسي، غير أن نتائج حرب صيف 1994 أعادت تثبيتها بصيغ أخرى تأسست على الإزاحة، وتغول السلطة المنتصرة وقهرها، واستكلاب نافذي السلطة وحلفائها على الموارد وابتلاعها، ومصادرة المجال العام وطمس الهويات المحلية وإلغاء المكتسبات الاجتماعية.
الأنَّات التي لم تستمع إليها 7/7، بعد أن وضعت الحرب حمولتها، ومن ثم تجريمها للأصوات المطالبة بإصلاح مسار الوحدة، صارت مع الوقت مظلومية تجتذب الكثيرين، وصار أصحابها يسوقونها بصفتها قضية حقوقية، قبل أن تصير حراكا سلميا تعبر عنه المظاهرات والاحتجاجات المستمرة التي قابلتها قوى الأمن بالقمع.
حاولت السلطة امتصاص الغضب بتشكيل لجان ترقيع عشية احتجاجات 2011 أشهرها لجنة (باصرة/ هلال) التي رفعت تقاريرها التي تضمنت تعديات المتنفذين على المساكن والعقارات ومؤسسات القطاع العام، غير أن الأمر كان قد صار خارج السيطرة تماما مع تفشي الفوضى وانهيار المؤسسات، وتعالي الصوت المطالب بفك الارتباط (الانفصال) واستعادة جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية بحدود 21 مايو 1990.
في ربيع 2015 اجتاحت قوات تحالف الحرب الداخلي الصالحوثي المحافظات الجنوبية وقبلها غرب اليمن ووسطه، لتعيد إنتاج صورة يوليو 1994، غير أن يوليو 2015 كان مغايرا، إذ استطاعت المقاومة الجنوبية فيه تحرير عدن والمحافظات المحيطة من القوات (الغازية.)
مع تدخل التحالف في الحرب وإنتاج الطرف الثاني فيه (دولة الإمارات العربية المتحدة) لأذرعه الأمنية من المجاميع الانفصالية المتشددة وتثبيتها على الأرض وتسليحها مع إضعاف المكونات الحكومية الأخرى، لأهداف بعيدة، تعاظمت نبرة الكراهية لكل ما هو شمالي مع تغذيتها الممنهجة في وعي الشارع الذي أفرغ كل مكبوتاته في هذا الخطاب السائل.
صار الحنين إلى دولة جمهورية اليمن الديمقراطي جزءا من متلازمة الهوية التي يراد استعادتها، على الرغم من أن الصوت المنفعل الذي يروج لها هو نتاج دولة الوحدة وليس الدولة التي ذابت شخصيتها القانونية في الكيان الجديد الذي فتحوا أعينهم عليه وتربوا في كنفه.
ومن كانوا قبل ذلك يحنون لأيام بريطانيا هم في الأصل من أبناء جيل الاستقلال الذين ترعرعوا وتفتقوا وكبروا في سنينه بكل تعرجاتها الدامية وغير الدامية، ونخشى اليوم، مع تفشي الفوضى والانهيار وتهافت الصوت المطالب باستعادة الدولة وفساد رموزه وارتهانه، أن يصير الحنين لنموذج السلطة المقبورة، سلطة 7/7، هو الغالب في خطاب الجيل الذي تشكل في أتون الحرب، ويعاني اليوم من ارتداداتها القاتلة في حياته اليومية التي انعدمت فيها فرص العمل وانهارت الخدمات وتزايدت الجريمة، والأخطر من كل ذلك هي العتمة التي تترصد الجميع في طريق المستقبل.