الإهداء:
إلى الصديق الجميل والإنسان د. صالح عاطف، بروفيسور جراحة القلب، أحد أهم الأطباء الاختصاصين في مجال عمله، يجمع بين المهنية العالية وبين التعامل الإنساني مع كل المحتاجين إليه كونه طبيبًا، يحب مهنته بصفتها قضية إنسانية، دون حسابات مادية، ولذلك يطور ذاته العلمية في مجال تخصصه باستمرار. قام مرتين بإجراء عملية "قسطرة تشخيصية" لي بالمجان وساعدني شخصيًّا، كما كان كذلك مع آخرين، وهو من كان يتابع الإجراءات الإدارية والفنية بهذا الخصوص، وحتى اليوم ما زلت أتواصل معه لاستشارته حول بعض الحالات المرتبطة باختصاصه الطبي. د. صالح عاطف؛ إنسان بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ولذلك تميز بتعامله النبيل والودود مع الجميع.
_____________________
ما زلت أتذكر ونحن في قلب "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، وفي فريق "القضية الجنوبية"، أننا كنا نركز في حواراتنا على أنّ من أنتج "القضية الجنوبية"، في صورتها التي ظهرت فيها، فترة انتفاضة "الحراك الجنوبي السلمي"، وحتى التطورات الراهنة، إنما هي جريمة حرب 1994، (الحرب السياسية، والدينية التكفيرية)، وما تبعها من إجراءات سياسية وعسكرية واقتصادية، إجراءات وأعمال فيد وعنف ونهب لا سابق لها في تاريخ اليمن الحديث والمعاصر، على الأقل من حيث إنها جرت وتمت والعالم يضع أقدامه على عتبات بداية الألفية الثالثة، حرب حولت جنوب البلاد، وكل أرض دولة الجنوب السابقة، إلى فيد وغنيمة حرب، وكأنهم "أهل ذمة"، "أرض فتح". تطرق تقرير د. صالح باصرة إلى ذلك بحذر شديد، وبصورة مخففة، في تقليل من أرقام الفيد، التي تم فيها تفيد "الجغرافية الاقتصادية" لجنوب البلاد، بل وتحويلهم التاريخ الثقافي والاجتماعي للجنوب إلى حالة "فيد أيديولوجي للتاريخ" وفرض حالة فيد ونهب لأرض الجنوب، ولثرواته، ولتاريخه السياسي والثقافي والاجتماعي، لطغمة الحرب السياسية والعسكرية والدينية/ الطائفية، في محاولة ليس لتكريس وتعميم حالة النهب الاقتصادي، بل ولتغيير هويته، ومحو خصوصياته الذاتية، "المحلية"، بتعميم النموذج السياسي لـ"الجمهورية العربية اليمنية"، في أسوأ نماذجها تعبيرًا عن الفيد والتوحش، بما لا يعني أن ذلك يعكس ذهنية وسلوك وقناعات أبناء الشمال، كما يروج لها بعضٌ من المطالِبين بالانفصال، لمحو قضايا الوحدة التاريخية، والهُوية اليمنية، بين أبناء اليمن الواحد، في محاولة لخلق وصناعة هويتين متناقضين، متصارعتين، تكذبهما وحدة الجغرافية، والتاريخ، والنقوش، والآثار، واللقى الأثرية، فضلًا عن الشعر القديم/ الجاهلي، والإسلامي، حتى الحديث منه، والمعاصر. ولذلك أؤكد أن تلك الذهنية والممارسات، لا تعكس سوى عقلية الطغمة العصبوية الطائفية والقبَلية والعسكرية، التي بدأت باحتكار السلطة في طغمتها وزبانيتها الخاصة، في كل الشمال اليمني، حتى عملية تعميمها بالحرب العسكرية والدينية "التكفيرية" على كل الجنوب، بعد أن تمت وبشكل منظم وممنهج عمليات فصل وتسريح لجيش وأمن دولة الجنوب السابقة، وحتى اليوم واللحظة لم تسوَّ أوضاعهم المالية (مرتباتهم)، رغم الوعود العديدة، وقد بلغ عدد المسرحين والمفصولين؛ عسكريين ومدنيين، مئاتُ الآلاف، وذلك كان -سياسيًّا وعمليًّا- بمثابة عقاب جماعي، وصولًا إلى فرض "عقّال الحارات"، وإلغاء تنظيمات "لجان الدفاع الشعبية"، ذات الطبيعة الاجتماعية/ المدنية، حتى تعيينهم "شيخ مشايخ" لمدينة عدن. إلى هذه الدرجة وصل العنف الممزوج بالحقد والكراهية لكل ما هو مدني.
"مخرجات الحوار الوطني الشامل" كانت المدخل السياسي بآفاق وطنية سلمية، لتقديم إجابات سياسية وعملية واضحة "للقضية الجنوبية"، بل والقضية الوطنية اليمنية، على قاعدة دولة الحرية والمواطنة؛ ولذلك كان الانقضاض عليها بالانقلاب والحرب.
المدنية اليمنية المعاصرة عدن، تجد نفسها بحاجة إلى "شيخ قبَلي" ليدير وينظم أمورها وشؤون حياة الناس فيها؛ فهل بعد ذلك من عنف وحقد وكراهية، للمدنية وللحياة؟! هذا الموقف لوحده يكشف لنا الأبعاد السياسية والاجتماعية والثقافية والسيكولوجية، لجريمة حرب 1994.
الحرب التي أعتبرها شخصيًّا، جريمة سياسية ووطنية بامتياز، يجب ألّا يفلت مرتكبوها من العقاب، مهما طال الزمن، ضمن قانون "العدالة الانتقالية"، وكافة أشكال المساءلة القانونية، والمحاسبة السياسية، والجنائية، وعلى خلفية تلك الحرب/ الجريمة، يمكنك قياس النتائج الكارثية، سيكولوجيًّا واجتماعيًّا، لتلك الحرب/ المأساوية على جنوب البلاد، وعلى كل اليمن، بمثل ما يمكننا فهم وتفهم ردة الفعل الحادة عند قطاع معين من أبناء الجنوب اليمني، وقعوا تحت هول تلك الصدمة؛ "صدمة الحرب والنهب والتكفير"، على ما طالهم مباشرة من دمار مادي، ومن خراب معنوي عظيم طال بنية الروح، وهي التي لم نقف حتى اللحظة أمامها -أقصد حرب ١٩٩٤ - في قراءة موضوعية عقلانية نقدية، بعد مرور قرابة عقود ثلاثة من الدمار والخراب الذي سببته وتركته تلكم الحرب/ الكارثة/ التراجيو-كوميدية، في جميع تفاصيل السياسة والاجتماع والاقتصاد والإدارة، والعمل المؤسسي، بل وفي الوجدان، والوعي الوطني في كل اليمن، وتحديدًا لأبناء جنوب البلاد. يكفي أن ننظر لواقع حالة الردة الثقافية والاجتماعية، نتيجة لما وصل إليه وضع المرأة في المدينة عدن، وفي الجامعات، بعد إلغاء أجمل وأرفع "قانون للأسرة"، في كل المنطقة العربية -مع القانون التونسي- ترافقه هجمة أيديولوجية وسياسية وعسكرية، في غطاء سياسي/ ديني، ضد المرأة وحقوقها، وضد كل المعنى المدني، فانتكس فيها حال المرأة إلى ما قبل عقود طويلة من الزمن، إن لم يكن أكثر، حتى قياسًا بوضع المرأة في شمال البلاد، والأسوأ والأخطر بعثهم المنظم والممنهج للثارات والمشاكل القبَلية والعشائرية التي تعود إلى ما قبل مئة وعشرين سنة وأكثر، في أبين، وفي شبوة تحديدًا، وتوجههم لتقسيم حضرموت، وصولًا إلى تحويل أسماء الأحياء والمدارس والشوارع التي كانت بأسماء الشهداء، والأسماء الوطنية، والتاريخية، حتى محاولتهم إعادة كتابة التاريخ السياسي والوطني بلغة أيديولوجية المنتصر والمهزوم، (لغة مذهبية/ طائفية/ مناطقية/ عصبوية)، فضلًا عن العبث بالمناهج التعليمية في المواد الاجتماعية والتاريخية والوطنية، وهو ذات ما يحصل اليوم مع الجماعة "الحوثية"، وكأنها حلقة سياسية حربية "جهادية" متصلة ومتواصلة، تعبيرًا وتجسيدًا لأيديولوجية تناسل الحروب، وكأننا أمام رحلة حروب مستدامة، قديمة، جديدة، الاختلاف فقط في التفاصيل؛ في عناوين الأسماء المنفذة للحروب، وصولًا إلى صورة الحرب الجارية اليوم، في الشمال والجنوب، والعديد من هذه الأمور والقضايا طرحت وأُثيرت، بصورة أو بأخرى، في معظم فرق "مؤتمر الحوار الوطني الشامل" المختلفة، ووُجِد القليل من زبانية علي صالح، ممّن ينكرها أو من يبررها ولو على استحياء.
ذلك أنّ مساحة الحوار الحر في قلب "مؤتمر الحوار الوطني الشامل"، كانت ممكنة ومتاحة أمام جميع المتحاورين، خاصة أنّ القاعدة الاجتماعية المدنية في داخل مؤتمر الحوار كانت عريضة وفعّالة؛ تجد نفسك وأنت في قلب مؤتمر الحوار، كأنك أمام مجتمعين: مجتمع الحوار المدني السلمي، المبشر بأفق الدولة المدنية المنشودة، ومجتمع خارجه يضج بكل تناقضات الواقع المأزوم؛ الأول، هو المجتمع المرتجى، الذي حملت معناه ومضامينه مخرجات الحوار الوطني وقراراته؛ والثاني، هو المجتمع المطلوب تغييره، بكفاح مدني صبور نحو أفق المدنية، ودولة المواطنة.
ذلك أنّ خارطة الاختيار السياسي والاجتماعي والوطني لأعضاء المؤتمر، كانت إلى حدٍّ بعيد موفقة، بسبب الاختيار الذي تم على قاعدة الكفاءة الوطنية، والموقف المدني، والمواطنة، التي شارك فيها الشباب بنسبة 20%، والمرأة 30%، وهي ظاهرة حوارية جديدة لم يعهدها اليمن السياسي في كل تاريخه القديم والحديث والمعاصر، وهي القاعدة الاجتماعية الواسعة التي كانت واقفة في صف الحرية والمواطنة والتقدم الاجتماعي؛ ومن هنا حقد ونقمة القوى السياسية الاجتماعية التقليدية والمحافِظة (الرجعية) ضد المؤتمر، وضد نتائجه السياسية.
ولذلك لم تتوقف محاولاتهم لقطع ذلك الحوار السياسي المدني السلمي، بالقذائف وبالصواريخ في صورة تفجير بؤر حربية هنا وهناك، من مناطق البلاد المختلفة في سياق أعمال المؤتمر، الذي تخللته عمليات اغتيالات منظمة وممنهجة لبعض أعضاء المؤتمر الفاعلين، كان الانقلاب والحرب تتويجًا لها، والعنوان السياسي البارز للانقلاب على تلك المخرجات.
إنّ "مخرجات الحوار الوطني الشامل" كانت المدخل السياسي بآفاق وطنية سِلْمية، لتقديم إجابات سياسية وعملية واضحة "للقضية الجنوبية"، بل والقضية الوطنية اليمنية، على قاعدة دولة الحرية والمواطنة؛ ولذلك كان الانقضاض عليها بالانقلاب والحرب، هو ردّ الفعل الانتقامي والثأريّ من قبل رموز الدولة العميقة، على تلك المخرجات، وهو الذي يشرح ويفسر كل تداعيات الحرب، بل الحروب الجارية منذ ذلك الحين، حتى ما يجري اليوم في كل الأرض اليمنية.