نشرت مقالًا في عام 2009، تعقيبًا على قيام مجلس النواب بالتمديد لنفسه مدة عامين لمرة واحدة، "بحجة إعطاء الوقت للأطراف السياسية كي تتوصل إلى حل للأزمة وإجراء العملية الانتخابية". مشكلة مجلس النواب أنه خلال الفترة 2003-2006، ظل يتبادل المنافع مع الرئيس (تمديد مقابل تمديد)، و(إعادة انتخاب مقابل تثبيت حقوق إضافية للنواب، وإعادة تدوير بعضهم في عملية إحلال للأبناء والأقارب). حينها كنت أعتقد أنّ العملية برمتها لا تزيد على كونها عملية جديدة من عمليات ترحيل الأزمات؛ لأنّ الكل كان منشغلًا بتحسين وضعه الشخصي من خلال التقرب والإرضاء من بؤرة السلطة، وحتى الأحزاب السياسية نفسها في السلطة والمعارضة سلكت مسالك ابتزازية حيال بعضها، بينما تستمر البلاد في انحدارها نحو الركود المركب.
وقد صدقَت تكهناتي حينها؛ فقد انطوى العامان دون أن يحقق مجلس النواب أي اختراق في حلحلة المشكلات السياسية التي كانت بالأساس من صنع يديه، وبدلًا من ذلك خرج بمشروع جديد من التعديلات الدستورية التي زادت من حدة التوترات داخل المجتمع. كان جوهر التعديلات يتعلق بالمدة الرئاسية والبرلمانية، وسلب بعض اختصاصات مجلس النواب لصالح مجلس الشورى والتحول لنظام الغرفتين، وهو ما عُدّ خطة استباقية للطوارئ. بمقتضى التعديلات، يتم تقليص مدد الفترة الرئاسية والبرلمانية. ليس ذلك فحسب، بل وتقدم بعض النواب بعريضة تؤيد إعادة انتخاب الرئيس صالح، وهو ما يعني الإصرار على انتهاج أسلوب إدارة الأزمة باختلاق أزمات أخرى ثم المساومة عليها لاحقًا.
رأيت حينها أنّ اشتداد تهافت المعارضة على السلطة تحت أي مسمى واستماتة الرئيس وبطانته عليها، يمثّل مؤشرًا سيئًا لمستقبل البلاد برمته، وقد ألحقت ذلك ببحث مطول برهنت فيه على عدم قابلية النظام القائم للإصلاح. مبرري في رؤيتي تلك، كان ناتجًا عن غياب الضمانات الحقيقية من جانب المعارضة في التزامها بتنفيذ ما توافقت عليه في (التشاور الوطني)، وفي تنفيذ السلطة القائمة، لوعودها التي تطلقها هنا وهناك بدون حساب.
اليوم مرة أخرى نجد أنفسنا أمام وضع مشابه عند الحديث عن "اتفاق بين الأطراف اليمنية للعمل على خارطة طريق لدعم مسار السلام، معربة عن الأمل في إنجازها والتوقيع عليها في أقرب وقت"، الذي بشر به مبعوث الأمم المتحدة إلى اليمن. فبرغم المباركات التي أعربت عنها بعض الدول، خاصة الخليجية، فإن مواقف أهم دول مجلس الأمن لا تزال ضبابية وغير واضحة.
لقد كان مقررًا كما قيل، التوقيع على الاتفاق قبل أكثر من أسبوعين تقريبًا، ولكن الإدارة الأمريكية أجّلت الموعد لحسابات الربح والخسارة والابتزاز حول ما يجري في غزة.
مخاوف وتساؤلات
طبعًا، لا نعرف ما هو المضمون الأكيد لصيغة الاتفاق، وما هي طبيعة التزامات الأطراف التي ستوقع عليه ومن هي، وهناك تسريبات عن الحوثيين أنهم لم يخوضوا في تفاهمات مع غير الطرف السعودي؛ فهل يعني ذلك أنهم لن يوقعوا الاتفاق الجديد إلا مع السعودية؟
أن يتم تصوير السعودية كطرف وسيط في الحرب والسلام في اليمن، ذلك مجرد إجراء شكلي لا يغني عن الحقيقة شيئًا، فحالها هنا كحال الولايات المتحدة فيما يخص القضية الفلسطينية وقضايا المنطقة عمومًا. هذه الحالة لا تشكل خطورة بالغة نظرًا لمآلات الحرب ونتائجها، ولكن الخطورة تكمن -بنظري- في مدى توفر الضامن المسلم للالتزامات السعودية والخليجية لما بعد الحرب (تعويضات الحرب، وإعادة الإعمار، والدعم السياسي، والإسهام في التنمية الاقتصادية حتى بلوغ التعافي ومدتها وتاريخ بدء سريانها).
على أنّ ذلك مجرد مدخل للعملية السلمية فقط. فالإشكال الحقيقي سيبدأ عقب توقيع الاتفاق "الإطاري" (إن حدث التوقيع). فقد أشار المبعوث الأممي إلى "أنه سيعمل مع الأطراف في المرحلة الراهنة لوضع خارطة طريق تحت رعاية الأمم المتحدة، تتضمن هذه الالتزامات وتدعم تنفيذها"؛ فهل يعني ذلك أنّ الأمر كله ما زال في مرحلة الأماني؟ بمعنى هل سيكون إنجاز خارطة الطريق منوطًا بالأطراف اليمنية؟ وإذا كان الأمر كذلك، فأيهما أسبق، وقف إطلاق النار وتحسين ظروف الحياة وفتح الطرقات أم إنجاز خارطة الطريق؟ وكم هي المدة التي تحتاجها صياغة تلك الخارطة؟
المخاوف التي تساور الجميع تتعلق في طبيعة الاتفاق المزمع توقيعه ومدى تشابهه مع المبادرة الخليجية، حيث صبغتها المخاوف الأمنية الخليجية، فأتت مليئة بالثغرات والنواقص، ولكنها لبّت احتياجات دول الخليج اللحظية، وأهملت مصالح الناس التي تطحنها الأزمة.
تتركز المخاوف الأساسية من تكرار نفس السيناريو، والدخول في متاهات التفسيرات المتناقضة، لما ستتفق عليه الأطراف نفسها، وغياب الضامن القوي والمحايد والنزيه، الذي يقف على مسافة واحدة من كل الأطراف، بحيث يلزمها بتنفيذ التزاماتها أمام الآخرين.
متاهة التفسيرات
أول مطالب المبادرة كانت في التفسيرات المختلفة لبنودها من جهة، ومن جهة أخرى عدم امتثال القيادة اليمنية بتحديد من يتولى تفسيرها أو يكون مرجعًا لتفسير بنودها، وحتى بعد وضع الآلية المزمنة لها، والتي أفرغتها من محتواها المتواضع أصلًا قياسًا بعمق الأزمة؛ أزمة النظام وأزمة الثورة وأزمة القيادة والتنظيم، وشرعنت لمطمطة الفترة الانتقالية إلى ما شاء الله.
لقد فشل رعاة المبادرة الخليجية الثمانية عشر ومعهم الأمم المتحدة في ضمان خروج البلاد إلى بر الأمان، بل ساعدت هذه الأطراف على حدوث تجاوزات مريعة في مسار الحوار الوطني، وفرطت بمصالح معتبرة لكثير من القوى والفئات، خاصة لجهة عدد الأقاليم وحدودها وعلاقاتها، دون مراعاة لموقف السكان والقوى الفاعلة على الأرض، وفشلت في ضمان التبادل السلمي الحقيقي للسلطة، إلى جانب التفريط بالعدالة الانتقالية واستبداله بالعفو المطلق عن رموز النظام دون أن يقود ذلك إلى نتائج ملموسة في الممارسة السياسية.
تتركز المخاوف الأساسية، أولًا: في تكرار نفس السيناريو والدخول في متاهات التفسيرات المتناقضة لما ستتفق عليه الأطراف نفسها، وغياب الضامن القوي والمحايد والنزيه، الذي يقف على مسافة واحدة من كل الأطراف، بحيث يلزمها بتنفيذ التزاماتها أمام الآخرين.
وثانيًا: مدى مصداقية، وقدرة الأطراف السياسية والطائفية والمناطقية اليمنية في القبول، بمبدأ التعدد والتنوع والقبول بالآخر، خاصة بعد ما طال المناهج الدراسية من تجريف وتدمير للمفاهيم الوطنية، وإحلال مفاهيم بديلة تكفّر وتخوّن وتجرّم الآخر.
لا توجد للأمم المتحدة سابقة ناجحة في حل المشكلات الدولية، وفي منطقتنا بوجه خاص، ومِن ثمّ فإن الإشارة إلى إشراف الأمم المتحدة ورعايتها للاتفاق إنما يعمق فينا مشاعر الخيبة.
كل الأطراف المحلية المنخرطة في الحرب، تفتقد استقلالية قرارها منذ البداية، وهي بالتأكيد ستكون غير قادرة على ممارسة لعبة التنازلات لبعضها بناء على احتياجات استراتيجية وطنية تضمن في المحصلة موقفًا منافحًا مشتركًا عن سيادة الدولة، ولا سيادة عليها من خارجها.
باختصار، لقد غاب المشروع الوطني بغياب الحامل الحقيقي له مع حضور صارخ لمشروع الحرب وحاملي لوائه، يبدو أننا على أعتاب ترحيل جديد، ولكنه ترحيل للحرب.