بعد نشر كتاب «قواعد الفوضى: إنقاذ الدول الفاشلة» (Anarchy Rules: Saving Failed States)، للباحث الأمريكي ستيفن راتنر (Stephen Ratner)، أصبح مصطلح «الدولة الفاشلة» رائجًا في الاستخدام العلمي، وحلَّ محل «الدولة الرخوة» (Soft State)، وهو المصطلح الذي وضعه الاقتصادي السويدي غونار ميردل (Gunnar Myrdal)، في كتابه «الدراما الآسيوية - بحث في فقر الأمم» (1968) (Asian Drama. An Inquiry into the Poverty of Nations)، الذي حلّل فيه عدم الانضباط المجتمعي في الدول الآسيوية والكثير من البلدان النامية، الذي تمثل في عدم مراعاة القانون وإنفاذه، وعصيان الموظفين العموميين، وانتشار الفساد، وتأثير ذلك على إخفاقها في مجال التنمية الاقتصادية.
لم يقدم ستيفن راتنر تعريفًا واضحًا لمفهوم «الدولة الفاشلة»، ولكنه أشار فقط مع غيره من الباحثين إلى عدد من الدول التي تدخل في النطاق الدلالي لذلك المفهوم، مثل البوسنة والهرسك وليبيريا والصومال، والدول الجديدة التي تشكّلت بعد انهيار الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا، أي الدول التي تشكّكوا في قابليتها للحياة في ذلك الوقت.
سمات عامة للفشل
ومهما يكن من الأمر، يُجمِع الكثير من الباحثين على أنّ «الدولة الفاشلة» هي الدولة غير القادرة على الحفاظ على وجودها بوصفها وحدةً سياسية واقتصادية قابلة للحياة، وتكون الدولة المركزية في «الدولة الفاشلة» ضعيفة للغاية أو غير فعّالة لدرجة أنّها لا تسيطر فعليًّا على جزءٍ من أراضي الدولة، وغير قادرة على القيام ببعض وظائف الدولة. وتصبح مثل هذه الدولة غير قابلة للحكم، وتفتقر إلى الشرعية، في نظر المجتمع الدولي، بسبب تآكل سلطة الدولة نفسها.
وتوضيحًا وتكميلًا لما ذكرناه، نقول: هناك سمات عامة للدولة الفاشلة، ومنها أنّ الحكومة غير قادرة أن تفرض إرادتها على الشعب والأرض، وحماية حدودها، وتقديم الخدمات العامة، وتنفيذ السياسات العامة، وحماية الحريات المدنية وحقوق الإنسان، والتفاعل مع الدول الأخرى، ولا يوجد فيها نظام سياسي واقتصادي مستقر، وتتصف بتآكل السلطة الشرعية.
وبالرغم من أنّ التصريحات الرسمية الأمريكية تحذر من خطر الدول الفاشلة على الأمن القومي الأمريكي، من حيث إنّها مَرْتع ملائم للحركات السياسية الإرهابية، فإنّ الإدارة الأمريكية، في الواقع العملي، قد ساهمت مساهمة كبيرة في تكوين الدول الفاشلة.
والدليل على ذلك، هو أنّ أمريكا، ومعها سائر البلدان الأكثر تطورًا في العالم الغربي، قد شجّعت ثورات الربيع العربي، لا حبًّا ورغبة في نقل الشعوب العربية إلى حياة أفضل، بل من أجل هدم بناها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حيث عملت، من ناحية، على إطالة فترة النزاع، من خلال الدعم المحدود للمنتفضين، الذي يتيح لهم تصديع النظم السياسية القائمة، وفي الوقت نفسه عدم السماح بسقوطها الكامل، بغية إضعاف كلّ الأطراف المتصارعة، على ضوء استراتيجية الحروب الصفرية، التي لا غالب فيها ولا مغلوب.
يرجع تآكل نظام علي عبدالله صالح إلى عدم الرغبة في تأسيس دولة المؤسسات والقانون، إلى جانب نتائج حرب 1994، التي أدّت إلى تسريح آلاف الجنوبيين من الجيش والأمن والوظائف الحكومية المدنية، وهي المدماك الصلب الذي تأسس عليه الحراك الجنوبي.
في واقع الأمر، بدأت العديد من أعراض «الدولة الفاشلة» في الظهور إبان حكم علي عبدالله صالح؛ لأنّ نظامه لم يعمل على تأسيس دولة المؤسسات؛ أي الدولة التي تكون فيها تلك المؤسسات ممثلة للشعب، وتكون فيها السلطة مستقلة، وذات طابع قانوني وغير شخصي، ويتساوى فيها الجميع بالفعل وليس بالقول، أمام القانون.
كما لم يعِر نظام الرئيس علي عبدالله صالح أية أهمية لتكوين الدولة القانونية؛ أي الدولة التي تخضع جميع أنشطتها لقواعد القانون، ويمتثل فيها كل الرعايا وهيئات الدولة العليا للقوانين، والتي ينتفي فيها التعسف والاستبداد، والدولة البوليسية، فضلًا عن غياب القانون والنظام.
من المعروف أنّ حياة الدول ليست أبدية، ولم تكن الدولة اليمنية إبان حكم علي عبدالله صالح استثناءً من هذه القاعدة، حيث بدأ نظامه بالتآكل الشديد في مطلع القرن الحالي، وقدّم بذلك الأرضية المناسبة لثورة 11فبراير في عام 2011.
يرجع تآكل نظام علي عبدالله صالح إلى عدة أسباب سياسية، ومنها: عدم الرغبة في تأسيس دولة المؤسسات والقانون، وكذلك نتائج حرب 1994، التي أدّت إلى تسريح آلاف الجنوبيين من الجيش والأمن والوظائف الحكومية المدنية، وهي المدماك الصلب الذي تأسس عليه الحراك الجنوبي.
استراتيجية احتواء الثورة
وبالإضافة إلى تلك العوامل، هناك عوامل اقتصادية واجتماعية هامّة أسهمت في خلق الظروف الملائمة لثورة 11فبراير في عام 2011، وأهمّها: الفساد، حيث "احتل البلد المرتبة 146 من أصل 178 بلدًا عام 2010، في مؤشر الفساد الذي تعدّه منظمة الشفافية الدولية"، وتدني دخل الفرد (بلغ متوسط دخل الفرد سنويًّا 1300 دولار)، حيث كان "يعيش ما يقرب من نصف السكان على أقل من دولارين يوميًّا"، وتزايدت معدلات البطالة، حيث بلغ معدلها أكثر من 50% بين الشباب؛ بسبب فشل النمو الاقتصادي وعدم توافقه مع معدل النمو السكاني، الذي بلغ 3% سنويًّا. (انظر: «الجذور الاقتصادية للاضطرابات الاجتماعية في اليمن»- موقع مركز مالكوم كير- كارنيغي، مارس 2011).
عملت الدول الغربية ودول مجلس التعاون الخليجي على احتواء ثورة 11 فبراير 2011، بما يخدم استراتيجياتها، حيث عملت على عدم السماح للقوى المنتفضة بحسم الصراع في مركز الحكم، وفي الوقت ذاته، سمحت لها بالانتصار في بعض مناطق البلاد، بغية تكوين كيانات سياسية متعددة، فكانت حرب السنوات التسع بمثابة انتقال من حالة «الدولة الفاشلة» إلى حالة اللادولة.
والشواهد التي تثبت انتقال اليمن من حالة «الدولة الفاشلة» إلى حالة "اللادولة" عديدة، وأهمّها عدم وجود دولة واحدة في الجغرافيا اليمنية، وعدم وجود معظم سمات الدولة وعناصرها ووظائفها في أي كيان من الكيانات السياسية القائمة، التي يعلم الجميع أن سياساتها مرهونة بسياسات الدول الإقليمية والغربية.
وقد يقول قائل: لِمَ لا نعتبر أنّ كل كيان سياسي حاليّ في اليمن دولة بالمعنى القانوني، ومن ثَمّ لا صحة للقول بأن اليمن تعيش في حالة اللادولة، حيث إنّ كل كيان من الكيانات السياسية القائمة لا يخلو من بعض علامات الدولة؟
وتلك العلامات، حسب علماء القانون هي: وجود منطقة معينة، ووجود سكان دائمين، والحق في إصدار القوانين، وفرض الضرائب، ووجود جهاز بيروقراطي، وسيادة السلطة داخل البلاد واستقلالها في الخارج، ووجود الحدود، والحق في ممارسة العنف المشروع.
أمام ثلاثة احتمالات
ليس هناك أدنى شك، بأنّ كل تلك العلامات هي صفات جوهرية لأية دولة، وعلى أساسها يمكن تعريف الدولة بوجه عام، ولكن هذه المقاربة غير صحيحة لإثبات أن كل كيان سياسي يمني في الوقت الحالي هو دولة؛ لأن الناس في الداخل لا يعترفون بالحدود القائمة بين تلك الكيانات وكذلك المجتمع الدولي، ولأن العديد من تلك العلامات في الكيانات السياسية القائمة ليس لها طبيعة قانونية، وأخيرًا، لأن تلك الكيانات غير قادرة على القيام بالوظائف الأساسية للدولة.
ومن الجدير بالذكر في هذا السياق، أنّ الأمم المتحدة لا تملك صلاحية تحديد ما إذا كان كيانٌ معين دولة أم لا، وتعتبر هذه المسألة مسألة اعتراف قانوني دولي من الدول والحكومات الأخرى، وتسمى هذه النظرية بالنظرية التأسيسية للدولة، وفحواها أنّ الاعتراف الدولي هو الشرط الجوهري لوجود الدولة.
وخلافًا لتلك النظرية، تؤكّد النظرية التصريحية للدولة على أنّ وجود الدولة مستقل عن الاعتراف الدولي، وقد أقرّت في المادة الثالثة من اتفاقية مونتيفيديو، التي وقعتها في عام 1933، عددٌ قليل من الدول الأمريكية، ولكن كما هو معلوم للجميع، لا يعمل المجتمع الدولي بهذه الفكرة.
وخلاصة القول؛ في المرحلة الراهنة من تاريخ اليمن المعاصر نحن أمام ثلاثة احتمالات: إما أن تعمل الدول الخارجية اللاعبة في الشأن اليمني على إبقاء حالة اللادولة فترةً طويلة، وتجعل الأزمة اليمنية أزمة منسية، وإما أن تقوم بتقسيم اليمن إلى عدة دول، وإما أن تضع نهاية لحالة الدولة، وتكوين دولة يمنية جديدة، ترضي كافة الأطراف المتصارعة.