"أربع سنوات لم أرَ فيها أطفالي الثلاثة، تعبت وأنا أخفي دموعي نهارًا، وأذرفها ليلًا، روحي تتمزق دون أن يشعر بي أحد، لقد اشتقت لأطفالي".
بهذه العبارات الموجعة قليلة الحيلة، تروي أنيسة صالح (اسم مستعار- 23 عامًا)، قصة حرمانها من حضانة أطفالها: أحمد (ثلاثة أعوام)، وصالح (عامان)، ونجوى (ثمانية أشهر)، انتُزِعوا منها بسبب طلاقها.
وبالرغم أنّ أطفالها في نفس قريتها (قرية ليئان، محافظة إب)، فإنها لا تستطيع اللقاء بهم بسبب مراقبة زوجها وأهله لهم طوال الوقت؛ لذلك تسترق النظر إليهم من بعيد وقلبها يتفجر ألمًا.
قانونيًّا، تنص المادة (138) من الدستور اليمني، على أنّ الحضانة هي حفظ الصغير الذي لا يستقل بأمر نفسه وتربيته ووقايته، مما يهلكه أو يضره، بما لا يتعارض مع حق وليه، والحضانة هي حق للصغير فلا يجوز النزول عنها، وإنما تمتنع بموانعها وتعود بزوالها.
وتحدد المادة (139) مدة الحضانة تسع سنوات للذكر، واثنتي عشرة سنة للأنثى، ما لم يقدّر القاضي خلافه طبقًا لمصلحة المحضون.
تحولت لمريضة نفسية بعد حرمانها من أطفالها، وبدأت حالتها بنوبات حزن وانطواء، وتدريجيًّا أصبحت تستخدم الأدوية والعقاقير النفسية التي لم تعد تجدي معها.
سقوط الحضانة
يسقط حق الأم في الحضانة بالتقادم، لكن الأم -خاصة في الريف اليمني- لا حق لها، إذ يستقوي الذكور (الأزواج) على الإناث (الزوجات) في ظلِّ استحالة وصول الزوجات إلى المحاكم، وبذلك يقعن بين مطرقة مجتمع ذي هيمنة ذكورية وسندان غياب القانون والإنصاف.
تمر على السيدات اليمنيات (المطلقات) سنوات من الوجع والقهر، تدمرهن نفسيًّا وجسديًّا، فيحترق شبابهن الغض، وتتحول القوة إلى ضعف لا تقوى على مقاومة سنوات العمر المتبقية، بينما تدخل بعض الأمهات في حالات نفسية يصل بعضها إلى الجنون بشكل كامل أو نسبي.
في هذا السياق، تتحدث أم أحمد، من منطقة القفر، محافظة إب، لـ"خيوط"، شارحة وضع ابنتها النفسي، الذي تفاقم إلى أن تحولت إلى مريضة نفسيًّا بعد حرمانها من أطفالها، وبدأت حالتها بنوبات حزن وانطواء، وتدريجيًّا أصبحت تستخدم الأدوية والعقاقير النفسية التي لم تعد تُجدي معها نفعًا.
الأطفال ضحايا
يعاني أطفال الأزواج المنفصلين، الذين يفتقرون للأجواء الأسرية المستقرة، من مشاكل نفسية وتربوية عدة؛ بسبب حرمانهم من أمهاتهم ومن الجو الأسري الصحي، تتعدى هذه المعاناة المشاكل النفسية والسلوكية إلى ما يتعرض له كثير من هؤلاء من تعنيف لفظي ومعنوي، يصل إلى التعذيب الجسدي، وبعض حالات التعذيب أودت بحياة الأطفال؛ الطفل علي الحمي (12 سنة)، مثال صارخ لهذا التعنيف الذي أودى بحياته، إذ تعرض علي للتعذيب من زوجة أبيه حتى فارق الحياة، وشيماء سيف غالب (ست سنوات)، منطقة حمير، قرية وحر، مديرية آنس- ذمار، تعرضت هي الأخرى، للضرب المبرح من أبيها وزوجته بدون أدنى رحمة، وبالمثل قصة مقتل الطفلة لقاء، وتعذيب شقيقتيها؛ القصة المشهورة التي حدثت لأطفال يمنيين في مصر وشغلت الرأي العام حينها، حيث قام عم الأطفال مع زوجة أبيهم بتعذيب الفتيات إلى أن فارقت الطفلة (لقاء) الحياةَ وانتهت الحكاية بفرار الجاني وتعليق أمر الآخر، هذه نماذج فقط لحالات من التعنيف الجسدي للأطفال بسبب انتزاع الأطفال من أمهاتهم، وما خفيَ كان أعظم.
آثار نفسية
تشير أغلب الدراسات إلى أن الأطفال المحرومين من حضن أمهاتهم أكثر عرضة للمشاكل النفسية، إذ تبدأ علامات الاضطراب النفسي منذ الصغر على هيئةِ عصبيةٍ مفرطة، أو خوف من الظهور، إلى جانب اضطرابات في النوم، والقلق غير المبرر لحظيًّا، أما بعد تجاوز مرحلة الطفولة فإنّ هذه الأعراض تتطور إلى انحراف في السلوك وعدوانية تجاه الآخرين، وفقدان الثقة بالمحيطين، ويشير الطبيب النفسي، مايكل هرتز، في كتابه (الحرمان من الأم جزئية الانفصال الدائم)، إلى أن: "الانفصال الدائم أو الطويل عادة ما يكون بسبب وفاة أو طلاق الأم، بالنسبة للوفاة، فإنها تؤدّي إلى جنوح طفيف في سلوك الطفل نتيجة لحالة الأسى التي يعيشها الزوج، أما الانفصال الطويل بسبب الطلاق؛ فالأدلة تشير إلى أنه سبب جوهري لجنوح الطفل وانحرافه في المستقبل".
من جهتها كانت الباحثة النفسية، هبة الله محمد عوض، قد أوردت بعض الدراسات التي تؤكد وجود اضطرابات سلوكية ونفسية لدى الأطفال المحرومين من أمهاتهم؛ أولى هذه الدراسات، دراسة (نور الهدى، 1990)، التي کشفت أنّ أطفال الأسر المتصدعة بسبب الطلاق، أو تعدد الزوجات يعانون من مشکلات سلوکية، في مقابل أطفال الأسر الذين يعيشون في أسر مكونة من أب وأم فقط الذين يكونون أکثر توافقًا شخصيًّا واجتماعيًّا من أقرانهم الذين ينتمون للأسر المتصدعة.
فيما كشفت دراسة (رواية محمود، 1996) أنّ الإناث (المنفصل والديهن) يعانين من اضطراب في الشخصية وعدم التوافق الأسرى والصحي والانفعالي والاکتئاب والعصبية.
مع غياب العدالة وإعمال القوانين، يتم استنزاف الأمهات ماديًّا ونفسيًّا نتيجة حبال المحاكم الطويلة والملتوية، وفي المحاكم يجدن أنفسهن أمام قانون بكفة مائلة ذكوريًّا.
سلطة ذكورية
لا تستطيع المرأة (الأم) المطالبة بالحضانة لمجرد توجهها إلى المحكمة، فالغالبية العظمى ترضخ لقانون الأقوى والأكثر استفادة من العلاقات والمحسوبيات في أروقة المحاكم والنيابات. وبالمقابل، وبكثير من الأمل والحماس الكبير تذهب ثلة من الأمهات إلى المحاكم، وهن فئتين فقط؛ الأولى من سمحت لهن أسرهن بالذهاب إلى المحاكم مخالفين الأعراف المجتمعية التي تعيب وجود المرأة في الأماكن العامة مثل المحاكم، أما الفئة الثانية فهن نسوة يحاربن المجتمع لينتزعن بالقوة حقوقهن كونهن بشرًا، هاتان الفئتان هما من تتوجهان للمحاكم لاستعادة أبنائهن إلى أحضانهن، لكنهن للأسف مع غياب العدالة وإعمال القوانين يتم استنزاف الأمهات ماديًّا ونفسيًّا نتيجة حبال المحاكم الطويلة والملتوية، وفي المحاكم يجدن أنفسهن أمام قانون بكفة مائلة ذكوريًّا، وبين قاضٍ هو الآخر ذكر، ويميل لاستنقاص حق المرأة في الحضانة، أمام هذا المشهد المتكامل الذي يضم قاضيًا وحضورًا ومحاميًا لا يفعّل عقله في سبيل انتزاع حق مسلوب، تخوض الأم معركة شبه خاسرة، جيشها الألم، وسلاحها عاطفة الأم، وحدها تحارب رجلًا يحرك كل نفوذه المالي والقلبي لبقاء الأطفال بحوزته.
لا إنصاف
في هذا الشأن، تسرد نصرية محمد (اسم مستعار)، لـ"خيوط"، معاناتها مع المحاكم، إذ تحول القاضي الذي استلم قضيتها في محكمة جنوب شرق العاصمة إلى خصم، تقول نصرية: "تعنت القاضي معي كثيرًا، وكان تعنته جليًّا في الأساليب التي اتبعها في إدارة قضية مطالبتي بحضانة أطفالي، إذ كان يعمد إلى تأجيل مواعيد الجلسات في كل مرة تعقد فيها جلسة، بل كان يتعمد الانتقاص مني، والاستهانة بي أمام الجميع، على الرغم من بساطة ووضوح دعوتي وأحقيتي الإنسانية والقانونية بها، استمرت القضية أمام المحكمة ما يقارب ثلاث سنوات، في حين يفترض أن تكون قضايا الحضانة من أسرع القضايا في البت، وإصدار الأحكام فيها".
فيما تقف شيمة محمد على أحد سلالم المحكمة تنتظر حضور القاضي الذي بيده ملف قضيتها منذ سنة وستة أشهر، تقول شيمة لـ"خيوط": "آتي إلى هنا بشكل شبه يومي على أمل أن أحصل على حضانة ابنتي ذات العامين، التي لم أرَها إلا مرة واحدة منذ أن أخذوها مني وهي في عمر خمسة أشهر".
وتتابع شيمة حديثها: "تتولى جدتها أم أبيها رعايتها، فيما قضيت كل هذا الوقت في أروقة المحاكم على أمل أن يعيد القانون ابنتي لحضني، لكن طليقي في كل مرة يقترب فيها الحكم لصالحي يدفع للقاضي؛ لأجل المماطلة، واستنزافي ماديًّا ومعنويًّا".
المحامي علي حاتم، محامٍ بمحكمة جنوب شرق صنعاء، يقول لـ"خيوط": "معاناة الأمهات مع الحضانة ستظل قائمة طالما استغل الطرف الآخر في القضية عدم قدرتهن المالية للترافع ورفع القضايا، علاوة على توفير الاستقرار المادي لأطفالهن في حال فزن بقضايا الحضانة؛ لذلك تتخلى بعض النساء عن أولادهن ويتنازلن عن حقهن في الحضانة، بسبب عجزهن وتجنبًا لتعرض أطفالهن للمخاطر والمشاكل الأسرية التي تؤثر على نفسياتهم".
ويختم حاتم حديثه قائلًا: "يسعى الأب للحصول على حضانة الصغير لأجل مصلحته، لا مصلحة الحاضنة أو الطفل، وعلى ذلك فإن تنازل الأم عن حضانة الصغير يدخل في باب التزام ما لا يلزم ولها حق الرجوع فيه، إذ يعتبر تنازلًا منها عن شيء لا تملكه".
"ما زلت أعيش الخوف من أن أحرم من طفلي مجددًا، بعد نزاع طويل في أروقة المحاكم، انتهى لصالحي، لدرجة أني اضطررت لتسجيلها هذه السنة للدراسة عن بعد".
جذور المعاناة
تتضافر عوامل عدة لتشكل هذه العقبات أمام المرأة المطالِبة بحقها في حضانة أطفالها، على رأس قائمة هذه العقبات: الموقفُ الاجتماعي العام الذي يرى أن الرجل هو الأحق بأولاده من منطلق أن "الولد لأبوه"، مرورًا بالقصور القانوني، ثم موقف الأسرة، والزوج الذي يبذل كل الأسباب لتعذيب زوجته وإذلالها بهدف الانتقام منها، دون التفكير بعواقب ذلك على أطفاله، فهناك حالات يشب الأطفال فيها وهم يعتقدون أن أمهم ماتت، بسبب حرمان أمهم سنوات طويلة من رؤيتهم أو اللقاء بهم، ليكتشفوا لاحقًا أنهم خُدِعوا وأنّ أمهاتهم على قيد الحياة. إحدى هذه الحالات، ما حدث مع الشاب محمد طالب (17 سنة)، يدرس في ثانوية العلفي بصنعاء، الذي تحدث لـ"خيوط" بصوت مختنق بالأسى، قائلًا: "منذ طفولتي وأنا أعيش على حقيقة أن أمي متوفاة. وقبل سنة فقط، علمت أن أمي على قيد الحياة، وعرفت مع هذا الاكتشاف الذي زعزع كياني وثقتي بمن حولي، أني مُنعت منها كما مُنعَتْ مني، بأمر من أبي للأسف"، ويتابع محمد: "مؤخرًا بدأت أزورها أسبوعيًّا لكن -للأسف- إلى الآن لا أستطيع أن أناديها (أمي)، لقد أصبح الأمر صعبًا جدًّا بالنسبة لي".
أُسَر النساء المطلقات أيضًا تشكّل عقبة حين ترفض استقبال ابنتها المطلقة مع أطفالها، لأسباب، منها: الخوف من تحمل النفقات، ومنها ما يتعلق بالعيب المجتمعي، ومنها ما يتعلق بالتصنيف العنصري للأحفاد، إذ يعتبرون أبناءَ البنات أبناءَ الناس، لا ينتمون إلى شجرة العائلة، وبعض هذه الأسباب متعلق بالضغط على الرجل للتراجع عن قراره، لكن كل هذه الأسباب يذهب ضحيتها الأطفال وأمهم.
ثغرات قانونية
يمكن للمرأة أن تنجح بعد جهود وجلسات لا عدد لها في الحصول على أبنائها، لكن بقاء الأطفال في حضن أمهم أمر غير مؤكد مدى الحياة، إلا فيما ندر، إذ يمنح الدستور الأمَّ حق الحضانة حتى تسع سنوات للابن، واثنتي عشرة سنة للبنت، في حين تمتد فترة الحضانة في كثير من دول العالم الإسلامي لعمر 18 سنة، وهو العمر الذي يكون فيه الأطفال قد بلغوا، وأصبحوا قادرين على اتخاذ القرارات التي تناسب مصالحهم.
تقول إيمان العبسي، معلمة في مدرسة خاصة بصنعاء، لـ"خيوط": "ما زلت أعيش الخوف من أن أحرم من طفلي مجددًا، بعد نزاع طويل في أروقة المحاكم انتهى لصالحي، لدرجة أني اضطررت إلى تسجيل ابنتي هذه السنة للدراسة عن بعد (منازل)؛ لأنها بلغت 12 سنة، وقد بدأ أبوها يهددني إذا لم أسلمه البنت فسيقوم بخطفها مني، رافضًا اللجوء للمحكمة لتخييرها وأخذ رأيها مع من تعيش".
هكذا يتحالف كلُّ شيء ضد أمٍّ تبحث عن حضانة أطفالها، فتفشل، سواء بالعُرف، الذي لا يعترف سوى بأن الابن ابن أبيه، أو عن طريق المحاكم التي تستنزف كل الطاقات المعنوية أو المادية -إن وجدت- لدى المرأة، بينما ترضخ بعض الأمهات للتنازل عن الحضانة؛ لأنها تخشى الفقر على أبنائها بسبب عجزها المادي عن تحمل نفقة الأبناء وتوفير حاجياتهم من غذاء وملبس.