منذ تحقيق الاستقلال الوطني لليمن الجنوبي في 30 نوفمبر 1967، وجلاء الاستعمار البريطاني، وإعلان قيام الدولة الوطنية، خاض الجنوب غمار صراعات متتالية ومعارك عدة تراوحت بين الرغبة في تأسيس الدولة والصراع على السلطة بين أجنحة الحزب، وفي خضم الصراعات والإخفاقات، التي كان سببها في الغالب هيمنة عقلية الإقصاء وسوء إدارة الاختلاف، نجد إنجازات جبارة تمسّ حياة الشعب، وأهم تلك المنجزات توفير التعليم العام المجاني والتطبيب العام. فعلى الرغم من محدودية إمكانيات الدولة آنذاك وتواضع التعليم المتوفر، فإن الدفاع عن التعليم العام وتكافؤ الفرص كان السمة الغالبة لتوجهات الدولة والقيادة آنذاك.
إننا هنا لا نتحدث عن طبيعة البرامج التعليمية، والاعتماد على فلسفة وإيديولوجية مغايرة لثقافة المجتمع، وإنما نتحدث عن التعليم في كونه صار أولوية من أولويات الدولة وقيادة البلد، فقد كان الإعلاء من شأن المصلحة العامة هاجسًا وطنيًّا يحرك الأفعال والقرارات، وهذا الفعل ترك أثرًا بالغًا في الوعي والواقع.
لقد نص دستور جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية على مجانية التعليم، وأن "جميع المواطنين لهم نفس الحق في التعليم، وتضمن الدولة هذا الحق من خلال ما تم تحقيقه من توسع في فرص التعليم لجميع أبناء الشعب ومن خلال خططها الهادفة إلى توسع المدارس والمعاهد..."، وفعلًا سعت الدولة إلى القضاء على الفوارق والطبقية وعدم المساواة التي تتفاقم ملامحها اليوم. كما نفذت الدولة برنامج محو الأمية الشامل، وقد حقّق معظم أهدافه في القضاء على الأمية.
وبعد تحقيق الوحدة اليمنية في عام 1990، وعلى الرغم من تسيس بعض الأحزاب للتعليم، ووجود فساد وبعض الإخفاقات، فإن التعليم شهد تطورًا ملحوظًا في الاهتمام بوضع المعلم المعيشي، وبناء عدد كبير من المدارس والفصول الجديدة في المدن والأرياف، وتوفر الكتاب المدرسي، وتوفر المعلم المؤهل في أغلب المدارس.
لقد تعرض منجز التعليم في الجنوب، واليمن عمومًا، في الفترة الأخيرة ومنذ 2011 للتدمير، وقد أسهمت عوامل عدة في انهياره؛ عوامل من خارج المنظومة التعليمية من الحكومة والسلطة في المحافظات المحررة، وعوامل من داخل المنظومة التعليمية نفسها.
إنّ أهم عامل أدّى إلى انهيار التعليم هو فساد حكومة الشرعية، وعدم اهتمامها بوضع المعلم المعيشي، فقد غدا المعلم وكل من يشتغل في سلك التدريس بكل مستوياته، أكثر الفئات تضررًا من الأزمة المعيشية وغلاء الأسعار، فصار راتب هذه الشريحة لا يلبي أبسط المتطلبات المعيشية، ولا شكّ في أن هذا الوضع المأساوي قد أثّر في نفسية المعلم ودوافعه ومن ثَمّ أثر سلبًا في طبيعة الأداء التدريسي.
واقع التعليم العام في الجنوب، واليمن عمومًا يثير الحسرة والألم، فقد كان من أهم مكتسبات الثورة والاستقلال. ويبدو أنه حتى الأثر في الوعي الذي تركته تجربة النظام الاشتراكي بأهمية التعليم العام ومجانيته والدفاع عنه والإعلاء من المصلحة العامة، يكاد ينمحي ويختفي. إننا لا نجتر الماضي، لكن -للأسف- بدلًا من أن نواكب التطور وروح العصر، نكاد نفقد ما كان موجودًا ومتاحًا.
ومن العوامل التي أسهمت في تدمير التعليم، عدم التوظيف الجديد للدماء الجديدة منذ سنوات، إذ إنّ أغلب المعلمين في الميدان قد تجاوزت خدماتهم 35 عامًا، ولا ريب أن وضع هؤلاء النفسي والظروف المعيشية قد حدت من عطائهم، ولجأ بعضهم إلى البحث عن مصادر دخل أخرى لِيَفِي بالتزاماته الأسرية ومتطلبات العيش الأساسية. ونتيجة لذلك، اعتمدت بعض المدارس على المعلمين البدائل، إذ تقوم بخصم جزء من راتب المعلم الموظف الأساسي، وإعطائه للمعلم البديل، وهو في الغالب يتفاوت بين 25-50 ألف ريال. وتبرز هنا إشكالية؛ إذ إنّ غالبية البدائل من الفتيات، مما يصعب تغطية النقص؛ لأن أغلب الخريجين الذكور قد التحقوا بالتشكيلات العسكرية والأمنية؛ لكون رواتبها أكثر بكثير من هذا الفتات، والأمر الآخر أن أغلب الخريجات والخريجين الجيّدين قد استقطبتهم المدارس الخاصة؛ لأنّ رواتبها أفضل من الرواتب في مدارس التعليم العام، وهذا ينعكس على طبيعة العمل التعليمي في مدارس التعليم العام؛ فلا محالة سيكون التعليم ضعيفًا وهشًّا، وهذه سياسية ممنهجة لتدمير التعليم العام؛ إذ نلاحظ في مقابل هذا التدمير للتعليم العام، انتعاشًا للتعليم الخاص والترويج له، فقد شهد التعليم الخاص توسعًا كبيرًا ومريبًا، في ظل الظروف الصعبة التي تعيشها البلاد.
إنّ واقع التعليم العام في الجنوب، واليمن عمومًا، يثير الحسرة والألم، فقد كان من أهم مكتسبات الثورة والاستقلال. ويبدو أنه حتى الأثر في الوعي الذي تركته تجربة النظام الاشتراكي بأهمية التعليم العام ومجانيته والدفاع عنه والإعلاء من المصلحة العامة، يكاد ينمحي ويختفي. إننا لا نجتر الماضي، لكن -للأسف- بدلًا من أن نواكب التطور وروح العصر، نكاد نفقد ما كان موجودًا ومتاحًا.
إنّ واقع التعليم اليوم في الجنوب يشير إلى أنّ التعليم ليس من أولويات السلطات القائمة وساستها، مع أنّ التعليم أولوية ملحة؛ وهو أهم مقومات النهوض والتقدم في المجتمعات، والقيادات الوطنية هي تلك التي تهتم بتوفير التعليم المجاني وتكافؤ الفرص، وهي التي تهتم بمواطنيها وتوفير الخدمات الأساسية لهم، وهذا ما حققته الدولة في الجنوب بعد الاستقلال، إذ كانت القيادات الوطنية لها أولويات واهتمامات، وليس لها الطموح التجاري والنهم الرأسمالي، على الرغم من وجود بعض الأخطاء، وربما الكوارث التي رافقت مسيرة النضال والعمل، وهذا المكسب، كان ينبغي الحفاظ عليه والنضال من أجل الدفاع عنه.
ومن العوامل التي أسهمت في تدمير التعليم العام، تغلغلُ الفساد في المؤسسات التعليمية، وإفراغها من وظيفتها التربوية والتعليمية، وتبني شخصيات لا تعي المسؤولية الكبيرة التي تقع على عاتقها، وأدّى ذلك إلى تدمير العملية التعليمية، فالعملية التعليمية تقوم على أعمدة، وأهمها عماد النزاهة والإحساس بالمسؤولية، وترتب على هذا الأمر اعتماد المجاملة والمحاصصة في تعيين المدراء ورؤساء الأقسام، ووصل الأمر إلى اختيار شخصيات ركيكة في أقسام التوجيه التربوي، وهو القسم الذي ينبغي أن يكون نموذجًا للكفاءة والإلمام بالمادة التعليمية وطرق تدريسها وتقويمها، ومساعدة المعلمين في تذليل الصعوبات، وتقديم حصص نموذجية يقتدي بها المعلم. وكذلك الامتداد الخطير للفساد ووصوله إلى بعض الإدارات المدرسية.
ومن الإخفاقات الكبيرة في العملية التعليمية، أنّ البرامج التدريبية التي يقدّمها قطاع التأهيل والتدريب أو بعض المنظمات ويُرصد لتمويلها أموال كثيرة، لا تحقّق أهدافها، بل لها أثر سلبي؛ أولًا أنه لا يتم اختيار معلم المادة الفعلي في الميدان، بل يتم اختيار آخرين من أجل المخصص المالي، وهذا أفشلَ البرنامج التدريبي وأفرغَ هذه الدورات من أهدافها ومضامينها، وهي دعوة نوجهها هنا، للمختصين بضرورة التدقيق واستهداف العينات المستهدفة فعلًا، وفضلًا عن ذلك أن هذه البرنامج التدريبية لا يتم متابعة تطبيقها في الميدان، إذ تنتهي بانتهاء حضور الدورة واستلام المخصص المالي، فلا تطبق عمليًّا ولا أحد يتابع تطبيقها.
أما وضع التعليم الجامعي فليس بعيدًا عن هذا المآل، فقد صار وضع الأستاذ الجامعي صعبًا في هذه الأوضاع، وفضلًا عن ذلك حرمان الحاصلين على الدرجات العلمية من تسوياتهم المالية القانونية، والمماطلة في تسوية أوضاعهم لسنوات، ومقابل هذا هناك أموال تُهدر في جوانب أخرى بدون حسيب أو رقيب.
ونختم هذا المقال بتساؤل: هل منجزات الاستقلال الوطني ستضيع وتتلاشى؟! وهل ستختفي القيم والمفاهيم الوطنية، كالتعليم المجاني، وتكافؤ الفرص، والمصلحة العامة؟!
إنّ الحلول سهلة ولا تحتاج إلى عصا سحرية، وإنما تحتاج إلى إرادة صادقة ورؤية واضحة.