في خضم ما يُتداول في وسائل التواصل عن اعتزال الفنّانات اليمنيات وحجابهن، بين مؤيد ومعارض، وتحديدًا بين من يصف الوسط الفني بالمستنقع، وبين من يرفض هذا الوصف، واشتعال المنصات بالمصلحين الأخلاقيين الذين يقبعون بالساعات أمام المسلسلات والأفلام، ليتبرَّؤوا في نفس الوقت من الفن ومن يعمل فيه- استوقفني خبر فوز الممثلة الأمريكية ميريل ستريب بجائزة أميرة أستورياس عن "أدائها الذي لا ينسى"، لـ"الشخصيات النسائية المعقدة" طوال مسيرتها الفنية التي بدأت قبل أكثر من خمسين عامًا، واعتبرت لجنة التحكيم أنّ "الصدق والمسؤولية في اختيار ستريب أدوارها في خدمة قصص ملهمة ومثالية يتجاوز إطار الشاشة".
جاء هذا الخبر وسط ضجيج الناشطين اليمنيين في وسائط التواصل والمحتشدين في غالبيتهم لمهاجمة الممثلات، وخصلة الشعر التي ظهرت من حجاب إحداهن، والحط من قيمتها، ورفع قيمة من اختارت الستر والزواج والآخرة عن الفن الملطخ بالقاذورات، وكأن الزواج لا يرتبط عند المرأة إلا بحالة ما بعد الموت.
لم أجد في الآراء المتداولة بشأن الممثلات واعتزالهن المؤيد والمعارض، رأيًا يسلط الضوء أو يتحدث عن الفن كقيمة إنسانية تساهم في رفع الوعي وأنسنة التفكير، فالكثير ربط بين الفن والهبوط الأخلاقي، وأحدّد الفن هنا بالتمثيل، وأكثر دقة تمثيل المرأة اليمنية. ولكني أسأل هنا فقط عن قيمة الفن بالنسبة لمجتمع مثل مجتمعنا الغارق في تخلفه.
وما يجعلنا أكثر صدمة، أنّ أحد صناع الدراما يوافق رأي الفنانة المعتزلة بوصفها القبيح للفن ووسطه.
المسرح (أبو الفنون) عند الشعوب القديمة كاليونان، كان وسيلة لتطهير النفس، وتقديم العظة والعِبرة للناس، حتى يحدث التغيير الإيجابي في الوعي تمامًا مثل المَشاهد الدرامية الهادفة التي تُحدث بداخله توازنًا نفسيًّا، حتى يمكنه مواجهة أعباء الحياة ومُنغصاتها، والتغلب على ما يواجهه من عراقيل في دروبه الشائكة والملغومة.
التمثيل لا يختلف عن أيّ جنس فنيّ مثل الموسيقى والتشكيل، فهو رسم الشخصية المرغوب تجسيدها أمام الكاميرا، وهو بذلك ابتكار وخلق واعٍ يتفاعل مع المشاهد ويؤثر فيه، فليس من السهل أن تترك بصمتك الفنية في الحياة، وتصبح رمزًا في المجتمع إلّا إذا كنت مبدعًا وخلّاقًا. فالفن ومبذولاته المختلفة هو الطريق الأجمل لتكون إنسانًا أولًا وأخيرًا. والمتتبع لتاريخ البشرية يجد أنّ الإنسان كان يعبر عن انفعالاته ورغباته بواسطة الرسم والنحت على الأحجار والخشب والطين المحمى، لهذا كان الفن هو اللصيق لذلك التطور وصيرورته في الحياة.
هل تتجه اليمنيات للتمثيل عن وعي بأهمية الفن؟
لدى الإنسان رغبة متوهجة دومًا نحو التعبير عن الذات، وإثبات الوجود ومحاولة تبريره ومحاكاة واقعه، بواسطة أدوات أنتجها وعيه، لذلك سيبقى الإنسان يخترع أشكالًا فنية لا تخضع لمعايير وخصائص معينة وجامدة؛ لأنّ الفنّ قيمة تتطور بتطور الوعي وحركة المجتمع، لأنّه متداخل مع عناصر الحياة منذ القدم.
وما يسري على المرأة في الوسط الفني هو ما يسري عليها في الحياة بشكل عام، ومن ذلك الخروج والانخراط في العمل، ولكننا للأسف ننظر إلى فن التمثيل بنظرة احتقار، وخصوصًا تجاه المرأة، لهذا فقيمة الفنّ يحددها الوضع الأخلاقي والتربوي للمجتمع، فمجتمعنا -على سبيل المثال- ينظر إلى المشتغلين بمهنة الفنّ عمومًا، والتمثيل على وجه الخصوص بدونية، ويُخضعهم لمعيارية تفكيره المحافظ؛ لأنّه لا يدرك معنى الفن ورسالته الأخلاقية والجمالية، لهذا يسلط سيفه الأخلاقي على كل فنان، وعلى وجه أخص على الفنانة التي ينظر إلى مزاولتها لمثل هذه المهنة تجاوزًا أخلاقيًّا يتوجب العقاب والنبذ.
وفي منشور على الفيسبوك، قال فيه الدكتور قائد غيلان: "لا يمكن أن تتطور الفنون في مجتمع يحتقر الفن، وبعض من يحتقره هم من يمارسونه بجهل وعدم اقتناع، حتى الفنانون أنفسهم، يعتبرون ممارسته ذنبًا ومرحلة يجب أن تنتهي بالتوبة، وعندما يخرج أحدهم من تلك البيئة الفنية لا يتردد في وصفها بالمستنقع، هذا الوصف دليل إدانة لذاتك لا للبيئة، المستنقع هو الخيار الذي مارست فيه ما كنت تعتقد أنه فن، لا الفن ذاته، لا ينبغي أن تعمّم خطيئتك وتسقطها على الجميع، يجب أن تعترف أنك كنت مخطئًا، لا لأنك مارست الفن، بل لأنك أخطأت طريقك، فبدلًا من أن تذهب إلى واحة الفن، وجدت نفسك تذهب إلى مستنقع قذر".
السؤال الذي أثارته آراء مواقع التواصل بخصوص اعتزال إحدى الفنانات بعد زواجها وارتداء الحجاب، تمت صياغته على نحو:
هل اتجهت الفنانات اليمنيات للتمثيل عن حبّ الفن ووعي برسالته النبيلة؟ أم أنها الحاجة المادية لدى البعض، وبغرض الشهرة للبعض الآخر؟ والسؤال أيضًا يسري على الفنانين الذكور أيضًا.
بعض المعلقين على مثل سؤال كهذا، رأى أنه مصدر رزق للفنانات، فإن وجدن من يضمن لهن الحياة الكريمة فعليهن تركه، لينعمن بنعمة الستر. والبعض يرى أنّ الوسط الفني وسطٌ موبوء ومستنقع يجب على المرأة ألّا تنخرط فيه، وهناك طرف ثالث يتجه نحو وضع شروط وقيود لممارسة هذا العمل، من بوابة ما يعرف بالفنّ النظيف؛ غير أنّ غالبية الناشطين يطالبون باعتزال الفنّانات التمثيل! ولا أدري كيف يمكن لأمثال هؤلاء التفاعل مع المسلسلات والفن بشكل عام دون وجود المرأة! وهل يمكن الاستعاضة بالممثلين الذكور لتقمص أدوار المرأة؟
ضمن هذه التفاعلات، ظهرت أيضًا العديد من الآراء التي اهتمت بالجانب الاجتماعي للحجاب الذي لا صلة له بالدين، أو العفة والطهارة، ممّا يُنتِج بعدًا آخر للقضية تتصل بشرعية وفريضة الحجاب، ومنهم من أظهروا قبح ادعاء الفضيلة من خلال مظاهر ارتدائه، والحكم على الناس بالظاهر، بمقابل أصوات خافتة رأت فيه استعبادًا للمرأة، وأنه يعيق روح الإبداع والتطور، لا سيما في الفن.