تُوْلِي منصّة "خيوط"، اهتمامًا خاصًّا بموضوع التعليم في اليمن، ليقينِها أنّ إصلاحَ التعليم هو المقدّمة الأهمّ لإصلاح منظومة الحياة المتعثِّرة في البلد المتهتك، بسبب الأزمات المتلاحقة، والتي أفضت منذ ثماني سنوات، إلى حربٍ طاحنة، كان أكثر المستهدفين فيها منظومة التعليم.
منذ انطلاقها، عملَت المنصة على تكثيف النشر في تفاصيل الحالة التعليمية في البلد المطحون، وهي منذ يناير 2021، تُراكِم على ملفٍ حيويّ يحمل عنوان (العودة إلى عصور الظلام.. هل خسر اليمن معركته ضدّ التجهيل؟)؛ لأنّها ترى، ومن موقع حضورها المهني والأخلاقي، "في الإعلام ومنصات الرأي المستقل، مسؤوليةً مضاعفة، في وضع مستقبل الأجيال اليمنية الحالية والقادمة ضمن أولويات عملها، للحيلولة دون مزيدٍ من الإهدار والدمار والتخريب الممنهج للعملية التعليمية".
المتتبع لمحتوى الملف المتراكم، والذي نُعيد التذكير به بمناسبة اليوم الدولي للتعليم، الذي يصادف 24 يناير/ كانون الثاني من كل عام، لن يقف فقط على حال التعليم اليومَ بكلِّ بؤسه، بل ستقوده القراءات إلى محطاتٍ غير بعيدة في تاريخ اليمن المعاصر، حين حاول اليمنيّون بمبادرات فرديّة وجماعيّة من الدلوف إلى العصر من بوابة التعليم، فكشفت أكثر من قراءة الالتحامَ المبكر مع التعليم الحديث، وكيف أنّ هجرة اليمنيّين ساهمت في ذلك من خلال نقل جزءٍ يسير من معارف العصر إلى الداخل اليمنيّ المنغلق، وكيف استطاعت الأندية القروية في مستعمرة عدن من المساهمة في تسيير مدارس خارج منظومة التعليم الإماميّ التقليديّ في القرى المعزولة، لأنّ انخراطهم في حياة التمدّن جعل المقارنة بين ما تعيشه بلدان العالم والبلد المعزول الذي ينتمون إليه وغادروه مكرَهين، تقوم على قاعدة التعليم الحديث دون سواها.
كان يخشى النظام الإماميّ من التعليم الحديث، وأنّه، فقط، تحت الضغط الشديد ابتعث مجموعة من أبناء الأسر الموثوقة للدراسة الحديثة خارج اليمن، ليكونوا في المستقبل جزءًا من منظومته الوظيفية، فصار هؤلاء المبتعثون رافعة التحول في اليمن الجمهوري وبناة مؤسساته الحديثة.
الضوء القليل المتسرّب هنا وهناك، صار في غضون سنوات قليلة في الزمن الجمهوري، كشَّافًا قويًّا للمقارنة بين زمنَين ووعيَين وعالمَين، صنع فوارقه التعليم الحديث، الذي ما أن بدأ يصير جزءًا من حاجة اليمنيين، مثله مثل الطعام والهواء، حتى بدأت قوى الظلام المتسربة إلى الجسم الجمهوري بإطفائه، ابتداءً من إنتاج نظامٍ تعليميّ دينيّ موازٍ برعاية رسمية، وصولًا إلى إفراغ المناهج التعليمية من محتواها الابتكاري ومن العصرنة، بذريعة اليَمْنَنَة، وانتهاء بتعظيم الازدراء لمهنة التعليم في الوعي العامّ وتشويه رسالتها، وتجويع العاملين في حقلها، وإفساد أدواتها.
أنموذج مدينة عدن ومحيطها في التعليم الحديث الذي بدأ باكرًا فيها، وتاليًا حملة محو الأمية الكبيرة في أرياف وقرى دولة ما بعد الاستقلال وقضت عليها منتصف الثمانينات، صار ماضيًا جميلًا يصعب استعادته، بعدما جرى تفكيكه وإغراق حواضنه بالتجهيل المركّب ليتساوى مع نظيره في كل شيء.
جاءت الحرب وحالُ التعليم بهذا الوضع البائس، فأضافت إليه بؤسًا مضاعفًا وقاتلًا، لأنّ المتحاربين في الأصل هم ضدّ الحياة التي يسكبها التعليم في أوردة الشعوب، فعملوا بأدوات تدمير أكثر صلابة وقسوة من تلك التي استخدمها من سبقهم من الحكام؛ فحوّلوا المدارس إلى ثكنات عسكرية ومتارس حرب، والطلاب الصغار إلى مجاهدين في الجبهات، والمعلِّمين إلى متسوّلين، والمرتبطين منهم بقيادات الميليشيات شمالًا وجنوبًا إلى قادة عسكريين ومشرفين، والمناهج الدراسية إلى ملازم سياسية، بعد تجريف محتواها لصالح خطابات التعبئة والتحشيد.
"صار التعليم بكل ضحالته، في زمن الحرب، غير مجانيّ، في تناقض صريح مع نصوص قانونية تقول بمجانية التعليم -خصوصًا في مراحل التكوين الأساسي- وتُرك للأموال الخاصة تسليع التعليم في مدارس انتشرت كالفطر في الأزقة والحواري، بدون رقابة حقيقية، بسبب الطلب المرتفع على التعليم الخاص كبديل عن التعليم في المدارس الحكومية التي هجرها معلموها، وصار المتطوعون، قليلو الخبرة والتأهيل، هم من يقومون بالتدريس. يستغل ملاك المدارس الخاصة حاجة المعلمين والخريجين الجدد بمنحهم مرتبات زهيدة مقابل تدريس طلاب متيقّنون سلفًا أنّهم سينجحون بتفوّق نظير الأموال التي تدفعها أسرهم مقابل هذه الخدمة".
وبعيدًا عن هذه الصورة المعتمة كُلّيّةً عن حال التعليم في زمن الحرب، هناك بقعٌ مضيئة للمقاومة، تتكثّف في الإصرار على مواصلة التعلم حتى في مدارس مدمَّرة وتحت الأشجار وفي الكهوف، وأسرٌ معدمة تقترض وتُضحّي بقوتها من أجل أن يتحصل أبناؤها على تعليمٍ مهما كان نوعه، ومعلمون يستضيئون بضمائره الحيّة لأداء واجبهم دون أن يتحصلوا على أيٍّ من حقوقهم الوظيفية، وأملٌ كبير يتمسّك به اليمنيّون لمغادرة مربع الحرب، ليبدؤوا حياةً جديدة بعيدًا عن رائحة البارود ومنغمسة برائحة الطباشير.
رابط ملف التعليم:
https://www.khuyut.com/issues/education-in-yemen