يشكو مزارعو البُنّ اليمني المشهور عالميًّا بجودته، من انخفاض أسعاره، نتيجة عوامل عدة ألقت بظلالها على معدل إنتاجيته، وتسبّبت بحالة من الركود والعجز لدى مزارعيه؛ مثل وفرة العرض وقلة الطلب، وهذا السبب بدوره مرتبط بآثار الحرب التي أتت تمامًا على القدرة الشرائية للمستهلكين، إلى جانب تأثير الحصار على عملية التصدير، علاوة على منافسة البن المستورد البرازيلي والإثيوبي؛ الأمر الذي انعكس سلبًا على إنتاجية هذا المحصول الذي ارتبط وجوده بالوجود القومي لليمنيين، إضافة إلى تأثر معيشة آلاف المزارعين العاملين في زراعته.
التآكل إلى النصف
مجاهد البخيتي (38 عامًا)، أحد مزارعي البُنّ، في مديرية عتمة بمحافظة ذمار، يكرّس جهده وكل أسرته في العمل بمزرعته طوال العام للاهتمام بأشجار البُنّ وتأمين مصدر دخل لحياة الأسرة المعيشية، لكن عائدات البُنّ تراجعت بشكلٍ كبير لدرجة أنّه عجز عن سدّ الفجوة بين نفقات رعاية المحصول من حراثة وسماد ووسائل وقاية وأجور العاملين الآخرين، وتفاصيل أخرى تتطلّبها زراعة البُنّ حتى موسم الحصاد -بحسب البخيتي- وبين العائد من بيعه.
وبنبرة ملؤها التعب والإحباط، يشرح البخيتي حاله لـ"خيوط"، قائلًا: "كنت أبيع قدح البُنّ بـ120 ألف ريال يمني، لكن عند تراجع أسعار البن، أصبحت أبيعه بـ60 ألف ريال يمني فقط، ما كبدني خسائر فادحة بلغت قرابة النصف، ونتيجة لهذا التقهقر الكبير في الأسعار، عجزتُ عن دفع أجور العاملين الذين يساعدونني".
يتراوح محصول البخيتي حاليًّا ما بين 10 و15 قدحًا سنويًّا، وهو أقل بكثير ممّا كان يجنيه قبل التراجع الكبير في أسعار البن، التي يعزوها تجار الجملة إلى تأثير البن المستورد، الذي يكتسح الأسواق اليمنية، ويحارب البُنّ اليمني ذائع الصيت في عقر داره، ويُبدي المزارعون والتجار استغرابهم واستهجانهم الشديد لتقاعس الجهات المعنية عن القيام بدورها في عدم السماح بدخول البُن المستورد للبلاد، الذي أثر بشكل مباشر على المنتج المحلي، ما قد يفاقم من متاعب المزارعين ويساهم في تراجع الإنتاج الوطني -المتدني أصلًا- أمام أصناف البن المنافس القادم من بلدان مختلفة، في مقدمتها البن البرازيلي والإثيوبي.
"في الوقت الذي كنا ننتظر فيه قرارات تساهم في إحداث ثورة تأخذ بيد زراعة البُنّ الأول عالميا من حيث الجودة، وتساهم في زيادة إنتاجيته ودعمه، فوجئنا بهذا القرار الذي قوض كل الآمال التي كنا نعلقها على عودة البن اليمني للتربع على العرش، كونه ما يزال يحمل كل مقومات التفوق والنجاح".
في ديسمبر/ كانون الأول الماضي، أصدر رشيد أبو لحوم، وزير المالية في حكومة صنعاء، قرارًا يسمح باستيراد البُنّ الأجنبي مع فرض التعريفة الجمركية بنسبة 55%، في خطوة غير مدروسة لاقت انتقادًا واسعًا بسبب تأثير هذا القرار على البُنّ المحلي.
"قرار مخيب للآمال!"؛ هكذا يصف مُزارِع البن، محمد عبدالحكيم السالمي، القرار الصادر من جهة كان يفترض ألّا تهتم بالجباية على حساب الرؤية بعيدة المدى لحاضر ومستقبل زراعة البن اليمني المعروف، الذي يواجه مشاكل بالجملة، مشيرًا إلى تبعات هذه الخطوة أيضًا، على حياة مئات الآلاف من المزارعين، من بينهم هو.
ويتابع السالمي قائلًا: "في الوقت الذي كنّا ننتظر قرارات تساهم في إحداث ثورة تأخذ بيد زراعة البُنّ الأول من حيث الجودة والسمعة على المستوى العالمي، وتساهم في زيادة إنتاجيته ودعمه أمام منافسة البن الخارجي، فوجئنا بهذا القرار الذي قوّض كل الآمال التي كنا نعلقها على عودة البن اليمني للتربع على عرش البن العالمي، كونه ما يزال يحمل كل مقومات التفوق والنجاح".
ويرى السالمي أنّ قرار فتح باب الاستيراد للبُنّ الخارجي، تحصيل حاصل أو مجرد إعلان خطوة علنية لحالة استيراد كانت قائمة، يتم التواطؤ معها من قبل الجهات المعنية مع تجار مستوردين ولكن بدون إعلان رسمي، إذ كانت تتم عمليات الاستيراد بالرغم من وجود قرارات سابقة تحظر استيراد البن، منها القرار الوزاري رقم 70 لسنة 2019، نصت المادة الأولى منه على منع استيراد البن وقشوره وغلاته لليمن، حيث كانت كميات الاستيراد حينها، تتجاوز الـ1000 طن في الشهر الواحد".
من ناحيته، يؤكّد التاجر، منصور الزارعي، من مديرية جبل الشرق بذمار، في حديث لـ"خيوط"، أنّ الاستيراد هو العامل الأهم وراء الانخفاض الكبير في أسعار البُن المحلي، إلى جانب توقف تصدير البن اليمني للخارج.
ويتابع الزراعي: "كنت أشتري ما يقارب 15 طنًّا سنويًّا من المزارعين المحليين، وكان سعر الكيلو البن أربعة آلاف ريال قبل أربع سنوات، هذا السعر تراجع ليصل إلى ألفَي ريال فقط، وهو أمر حطم قدرات ومعيشة المزارعين، ودفعهم عنوةً نحو استبدال زراعة البن بزراعة القات".
مقابل التشجيع والتحفيز الواسع للمزارعين، للتحول نحو زراعة البن، لم تضع الجهات ولا المبادرات، في الحسبان ما بعد هذا التحول، وتم إهمال مراحل ما بعد الإنتاج تقريبًا، وهذا كان واحدًا من العوامل الرئيسة التي سبّبت انخفاض أسعار البن.
غياب آليات التسويق
من جهته، يقدّم المحلل الاقتصادي، نبيل الشرعبي، قراءة حول الأسباب التي أدّت إلى تراجع أسعار البن، قائلًا: "إنّ التوجه الكبير للمزارعين خلال سنوات الحرب، في عددٍ من المناطق الزراعية اليمنية نحو التوسع في زراعة البن، إما بدافع نابع من ذات المزارعين لاستعادة مجد البُنّ اليمنيّ، أو بدعم من جهات ومبادرات متعددة، قدمت مغريات للمزارعين مقابل التحول نحو زراعة البُنّ بديلًا للقات، فضلًا عن تقديم شتلات بُنّ معالَجة زراعيًّا ومعدلة وراثيًّا لتسريع إنتاجها، ما ساهم في إعادة إنعاش الآمال، لكن هذا الحراك قابَلَه غيابٌ شبه تام في آليات التسويق".
ويتابع الشرعبي حديثه لـ"خيوط"، قائلًا: "فمقابل التشجيع والتحفيز الواسع للمزارعين للتحول نحو زراعة البن، لم تضع الجهات ولا المبادرات، في الحسبان، ما بعد هذا التحول، حيث توقفت الجهود عند تشجيع المزارع نحو الاتجاه للزراعة، وتم إهمال مراحل ما بعد الإنتاج تقريبًا، وهذا كان واحدًا من العوامل الرئيسة التي سبّبت انخفاض أسعار البن".
وفي مطلع ديسمبر/ كانون الأول المنصرم، كشف تقرير حكومي عن ارتفاع إنتاج البنّ في اليمن، من 17 ألف طن إلى 41 ألف طن، بزيادة تصل إلى 140%، متوقعًا ارتفاع الإنتاج من هذا المحصول النقدي خلال العامين المقبلين إلى 50 ألف طن.
وأشار التقرير الذي نشرته وكالة سبأ التابعة لحكومة صنعاء، إلى "ارتفاع صادرات البن اليمني خلال الفترة (2017-2022)، من 2500 طن إلى 12 ألف طن، بقيمة تقدر بـ480 مليون دولار"، متوقعًا ارتفاع هذا الرقم عام 2027 إلى اثنين مليار دولار.
ويتفق المحلل الاقتصادي مع رأي المزارعين والتجار، حول تأثير توقف التصدير في مفاقمة تدهور وضع البُنّ اليمني، ويضيف: "الحاصل الآن هو وفرة في العرض، وتدنٍّ كبير في الطلب".
ويواصل الشرعبي حديثه: "وبالرغم من توقف عملية التصدير، استمرّ استيراد البُنّ المنافس وبدائل القهوة، وتقديمها للمستهلك المحلي بأسعار رخيصة للغاية، وبنوعيات تناسب قدرات المستهلكين وأذواقهم المختلفة، خاصة أنّ هناك معالجات تجرى على بدائل القهوة خارجيًّا".
وفي سياق الإصلاح وإعادة دعم وتنمية زراعة البُنّ اليمني، يقترح المحلل الاقتصادي، رشيد الحداد، حلولًا لمعالجة تراجع الأسعار؛ منها "تنظيم عملية البيع في مزادات، وإنشاء تكتلات لمزارعي ومصدِّري البنّ، تهتم باقتراح الحلول المتعلقة بهذا الخصوص، إلى جانب عمل دراسات وأوراق بحثية تعمل على تطوير وتجويد الجينات النوعية".
ويضيف في حديثه لـ"خيوط": "المشكلة الأهم التي تقف حجر عثرة أمام ازدهار البُنّ اليمني واستقرار أسعاره، هي هذا الخلل في التسويق، إذ لا يستطيع المزارعون بمفردهم تجاوز هذه المعضلة ما لم يكن هناك اهتمام رسمي ولفتة اجتماعية جادّة تعمل على معالجة الاختلالات والوقوف بوجه غول الفساد الذي يكاد أن يقضي على وجود البُنّ اليمني بصفته مصدرَ دخلٍ قوميّ، وجزءًا من الهُوية والتاريخ الوطني".