منذ بداية العام الحالي 2024، لوحظ تصاعد الصراع بين السلطات النقدية في كلٍّ من صنعاء وعدن. ومحور ارتكاز هذا الصراع كان انقسام البنك المركزي وما ترتب عليه من آثار على السياسات النقدية والمالية؛ أبرزها انقسام العملة الوطنية إلى ما يشبه عملتين، كلٌّ منهما لها سعرُ صرفٍ مختلف مقابل العملات الأجنبية، ومن ثم انهيار الوضع الاقتصادي والإنساني، وتفاقم حجم التقلبات الاقتصادية بصورة غير مسبوقة، إذ يشاهد ارتفاعٌ مستمرّ لنسب التضخم والركود الاقتصادي، وتآكل القوة الشرائية للريال اليمني.
كل ذلك قد حتم على البنك المركزي بعدن، اتخاذ جملةً من السياسات والإجراءات بهدف السيطرة على السوق النقدية في عموم أراضي الدولة، ومواجهة الانقسام المصرفي والأزمة الاقتصادية المتفاقمة، باعتباره بنك الدولة المعترف به دوليًّا.
أبرز السياسات والإجراءات التي اتخذها البنك والتي أثارت ردود أفعال واسعة في اليمن، تضمنت: إعداد شبكة مالية موحدة لكافة وحدات الجهاز المصرفي اليمني، واتخاذ الإجراءات القانونية اللازمة لدخولها في هذه الشبكة، لتصبح كافة هذه الوحدات تحت إشراف ورقابة بنك مركزي عدن، وتعمل بسياسة نقدية واحدة. وكذا إصدار قرار يقضي بنقل مراكز البنوك من صنعاء إلى عدن، لحمايتها من السياسات والإجراءات المزدوجة بسبب انقسام السلطات النقدية.
إضافة إلى قرار يقضي بسحب الطبعة النقدية القديمة لِمَا قبل عام 2016 خلال فترة 60 يومًا من تاريخ إصدار القرار، إذ إنّ هذه الطبعة متهالكة ومنتهية العمر الافتراضي، وتعتبر الطبعة المقبولة للتداول في مناطق سيطرة الحوثيين، وذلك كما ورد في قراره، بهدف مواجهة انقسام العملة الوطنية القائم.
خلق توافق بين السلطات النقدية في كلٍّ من صنعاء وعدن، يتضمن إدارة مركزية للبنك المركزي اليمني، يكون لها مقر مؤقت في مدينة عمان بالأردن بإشراف أممي، بحيث يدير هذا المركز مجلس إدارة مشترك يتم تأليفه من القيادات الإدارية في بنكي صنعاء وعدن، ويختص برسم السياسة النقدية وإدارة فروع البنك المركزي في عموم المحافظات اليمنية.
إلى جانب العمل على منع التحويلات المالية عبر البنوك الخارجة عن سلطة البنك المركزي بعدن، وهي البنوك والوحدات المصرفية التي مراكزها الرئيسية في صنعاء، وتمنع من اتباع السياسات والإجراءات النقدية المتخذة من بنك مركزي عدن. والتنسيق مع بعض وزارات الحكومة المعترف بها دوليًّا لسحب صلاحيات الوحدات التي تشرف على إدارتها بحجة كونها تشكّل مصادر دخل كبيرة ومتجددة للحوثيين، وهي كما يبدو للضغط عليهم لقبول السياسات والإجراءات التوحيدية المصرفية.
كما كانت هناك قرارات بتوقيف تراخيص عمل عدد من شركات الصرافة، بحجة مخالفتها لمهامها المحددة بتراخيص العمل الممنوحة لها من البنك المركزي.
إجراءات مضادّة
بالمقابل من ذلك، استنفرت سلطة الأمر الواقع في صنعاء ما لديها من النفوذ في المناطق التابعة لها باتخاذ جملة من ردود الفعل، لِمَا اعتبر سياسات وإجراءات تحدّ من سلطتها ونفوذها على المناطق التي تسيطر عليها.
أهم هذه القرارات تمثّلت في إيقاف أعمال البنوك التي مراكزها في عدن. وإخراج كميات من نقود الطبعة الجديدة الممنوع تداولها والمعتبرة نقود مصادرة؛ لسبب تجاوز منع تداولها وإعلان نقاط لشراء الفئات النقدية من الطبعة القديمة بأسعار تتجاوز ثلاث مرات قيمة الريال بطبعته الجديدة؛ وذلك في محاولة لإيهام الرأي العام الواقع تحت سيطرتها بقدرتها على حماية الطبعة المعمول بها في مناطق سيطرتها، للحفاظ على استمرار ثقة الناس بهذه الطبعة وعدم التأثر بقرار بنك مركزي عدن، القاضي بسحبها وإتلافها بعد أن يعلن انتهاء صلاحيتها من السلطات القانونية التي تتمتع بالاعتراف الدولي وحق الإصدار لأيّ طبعات جديدة.
كما أقدمت على فتح بعض الطرق الرسمية المعبدة في كلٍّ من مأرب وتعز بدعوى تسهيل عمليات الانتقال لدواعٍ إنسانية. وبرأينا أنّ ما وراء ذلك هو استباق أية تأثيرات لقرارات البنك المركزي في عدن، بحيث تيسر حركة التبادل التجاري والانتقال من جهة لأخرى، تمكن من إضعاف قرارات البنك المركزي وسلطات عدن الرامية لتجفيف مصادر تسريب العملات الأجنبية لمناطقها، إذ إنّ حركة التنقل والتبادل التجاري بيُسر، من شأنها التمكين في استمرار تدفق العملات الأجنبية من مناطق الشرعية لمناطق سيطرتها بحكم أنّ الانتقال والتبادل يتطلب تحويل الريال اليمني للعملات الأجنبية السائدة، وهي: الدولار الأمريكي والريال السعودي.
وكذا اعتقال العاملين مع المنظمات الدولية والسفارات الأجنبية بتهمة التجسس. وكما يبدو أنها ورقة ضغط لمواجهة قرار نقل المنظمات الدولية من صنعاء إلى عدن. واحتجاز أربع طائرات لشركة الخطوط الجوية اليمنية، وهي الناقل الوحيد من اليمن للخارج والعكس، حيث إنّ هذه الإجراءات -وفق اعتقادنا- تهدف لمنع تنفيذ ما أُعلن من إجراءات من وزارة النقل التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا.
مشكلات معقدة
كلُّ ما أشرنا إليه من السياسات والإجراءات التي اتخذتها سلطات عدن ممثلة بالبنك المركزي، وكذا السياسات والإجراءات المضادّة لها، قد أربكت الأوضاع المالية والنقدية، وعمّقت فجوة انقسام البنك المركزي والجهاز المصرفي والعملة الوطنية، وأدّت إلى المزيد من تنافر السياسات النقدية بين صنعاء وعدن.
في حين لا يبدو أنّ هناك آفاقًا مبشرة لتراجع التدهور الاقتصادي والإنساني، بل على العكس من ذلك؛ فقد ظهرت العديد من المشكلات التي تتضخم بشكل تصاعدي؛ أهمّها: أزمة سيولة نقدية تتفاقم في صنعاء والمناطق التابعة لها، يرافقها تدهور وأزمة اقتصادية كبيرة أثرت بشكل بالغ على مختلف الجوانب المعيشية والإنسانية.
إضافة إلى تسريب أكبر من ذي قبل للعملات الأجنبية من الداخل للخارج. بما يشير إلى هروب ما تبقى من الاستثمارات الوطنية للخارج. ويلاحظ ذلك بوضوح من خلال تنامي استثمارات اليمنيين في الدول الأخرى.
كما تبرز مشكلة مستعصية على الحل في هذا الخصوص، تتمثل في الانهيار المتسارع لسعر صرف الريال اليمني بطبعته الجديدة في المناطق التابعة للحكومة المعترف بها دوليًّا.
رؤية على الطاولة
بناء على ما سبق، نرى بأنّه لا يوجد حلّ للحالة اليمنية سوى وضع نهاية للحرب وتحقيق السلام. وتمهيدًا لتحقيق ذلك، هنا رؤية مقترحة، بما أنّ الأمر يقتضي اتخاذ قرارات جادّة من الطرفين:
أولًا: في مجال مواجهة انقسام البنك المركزي
نرى أن يتم خلق توافق بين السلطات النقدية في كلٍّ من صنعاء وعدن، يتضمن إدارة مركزية للبنك المركزي اليمني يكون لها مقر مؤقت في مدينة عمان بالأردن بإشراف أممي، بحيث يدير هذا المركز مجلس إدارة مشترك يتم تأليفه من القيادات الإدارية في بنكَي صنعاء وعدن، ويختص برسم السياسة النقدية وإدارة فروع البنك المركزي في عموم المحافظات اليمنية، بما فيها فرعَا صنعاء وعدن.
يتم بعد توحيد الجهاز المصرفي، العمل على تمكينه من التعافي، من خلال: تشديد الرقابة على شركات ومحلات الصرافة المنتشرة بصورة غير طبيعية في مختلف المحافظات اليمنية، بحيث تتقيد بأداء الوظائف التي حدّدت لها بتراخيص العمل، وتقفل فورًا أية محلات صرافة تمارس أية وظيفة من وظائف البنوك.
ثانيًا: في مجال توحيد العملة الوطنية
في هذا الجانب، يقتضي الأمر أن يتم سحب كافة الأوراق النقدية التالفة وإحراقها، بحيث تعتبر الطبعة النقدية الجديدة هي العملة الوطنية الوحيدة لعموم اليمن، مع أهمية العمل على بعض الخطوات والإجراءات بصورة ملحّة:
- مواكبة استبدال الفئات النقدية الصغيرة التالفة، وهي الفئات الصغيرة: (50 ريالًا، 100 ريال، 200 ريال، 250 ريالًا)، وأية فئات نقدية أخرى تالفة.
- تقييم الكتلة النقدية، بحيث يتم تحديد الكتلة النقدية المناسبة لحجم الاقتصاد اليمني، من خلال حسابات الناتج المحلي الإجمالي، ومِن ثَمّ الإبقاء على كتلة نقدية لا تتجاوز حجم الناتج المحلي الإجمالي.
- إعادة تقييم سعر صرف العملة الوطنية مقابل العملات الأجنبية، من خلال الأخذ بمتوسط أسعار الدولار الأمريكي واعتباره أعلى سقف لسعر صرف الريال اليمني مقابل العملات الأجنبية. ومن ثمّ اتخاذ التدابير اللازمة للحفاظ على سعر صرف مستقر للريال اليمني، مع أهمية استمرار رفع قيمته الشرائية في المستقبل، حتى تعود قيمة الريال إلى ما كانت عليه قبل الحرب.
ثالثًا: في مجال مواجهة انهيار الجهاز المصرفي
يتم بعد توحيد الجهاز المصرفي، العمل على تمكينه من التعافي من خلال: تشديد الرقابة على شركات ومحلات الصرافة المنتشرة بصورة غير طبيعية في مختلف المحافظات اليمنية، بحيث تتقيد بأداء الوظائف التي حدّدت لها بتراخيص العمل، وتقفل فورًا أية محلات صرافة تمارس أية وظيفة من وظائف البنوك أو ترتكب أية مخالفات من شأنها الأضرار بتوازن السوق النقدية وإرباك السياسة النقدية، مثل: المضاربات بأسعار الصرف علنًا أو سرًّا من أبواب خلفية.
رابعًا: في مجال إدارة الموارد المالية للدولة
لتمكين البنك المركزي من تعبئة أرصدته المالية بصورة مستمرة وتمكينه من السيطرة على السوق النقدية وتنفيذ سياساته النقدية بكفاءة، وبما يحقق القدرة على مواجهة التقلبات الاقتصادية، وتغطية نفقات الدولة، يتطلب العمل على:
- إلزام كافة السلطات المحلية بالمحافظات، بتوريد الموارد المالية المركزية لفروع البنك المركزي بصورة يومية ومستمرة، وبالأخص "عوائد النفط والغاز، والضرائب الجمركية، وضرائب كبار المكلفين".
- إلزام كافة الوحدات الإدارية والاقتصادية النابعة للدولة، بتوريد إيراداتها أولًا بأول لحساباتها في البنك المركزي وفروعه، مع أهمية منع فتح الحسابات الخاصة خارج إطار البنك المركزي وفروعه.
- إلزام كافة المنظمات الدولية العاملة في اليمن، بفتح حساباتها الخاصة في فروع البنك المركزي، بحيث تتدفق أموال المساعدات الإنسانية عبر البنك المركزي.
-العمل على تدفق أموال المغتربين اليمنيين في الخارج، وبالأخص المغتربين في السعودية عبر الشبكة الموحدة، حتى يسهل معرفة حجم التدفقات النقدية الخارجية، والعمل على ضبط توازن ميزان المدفوعات اليمني، لِمَا لذلك من أهمية للحفاظ على استقرار سعر صرف العملات الأجنبية مقابل الريال اليمني.