نستكمل في الحلقة السادسة من حوارنا مع عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، يحيى محمد الشامي، سرد أحداث 13 يناير 1986م، الدامية بين فرقاء الصراع في عدن على إثر انقسام الرفاق في مشوار بناء الدولة، وعن مصير الكثير من القادة الحزبيين. يتحدث فيها أيضًا عن حكاية مقتل الرئيس عبدالفتاح إسماعيل، وتفاصيل نجاة قائد سلاح المدرعات حينها ووزير دفاع دولة الوحدة لاحقًا، هيثم قاسم طاهر، من التصفية في واقعة استيلاء المقاتلين المؤيدين للرئيس علي ناصر محمد، على وزارة الدفاع. كما يعرّج على الملابسات التي قادت إلى إعدام واحد من أهم وألمع قيادات الحزب الاشتراكي، محمد صالح مطيع، ونختم حلقتنا بلقاءات الوحدة وتهديد الرئيس علي سالم البيض في اجتماع المكتب السياسي للحزب، بالاستقالة في حال رفض الرفاق فكرة الوحدة الاندماجية مع الشمال.
حاوره: سام أبو أصبع
- بداية حلقتنا، أستاذ يحيى، وقبل أن نستكمل رواية أحداث يوم 13 يناير 1986م، أودّ أن تقف بنا وبالقراء على ملابسات إعدام الرفيق محمد صالح مطيع؟
- على ما أتذكر، توفرت معلومات تتحدث عن ضبط رسالة، يتحدث فيها مطيع عن الأوضاع، إلى السعودية أو تحدث مع شخص له علاقة بالسعودية، وأعدم على هذه الشبهة. وهذا أثار علي عنتر؛ كيف يعدم مناضل وقيادي كبير بناء على شبهة! وكان علي عنتر حينها خارج البلد، في رحلة علاجية في الهند، كما تكلمنا سابقًا.
- تكلمت في الحلقة السابقة، عن عبارة قالها علي عنتر لصالح مصلح بعد إصابته في قاعة الاجتماع صبيحة الـ13 من يناير، حين قال له: "قد قلت لك بايعملها يا صالح"، وقلت إنك تعرف جيدًا لماذا قال ذلك؛ هل بإمكانك أن تطلعنا على سياق قوله بشيء من التفصيل؟
- قلت لك: طرح الرفيق علي عنتر في اجتماع ضمه مع صالح مصلح وبعض الرفاق، موضوع اعتقال علي ناصر محمد، لكن صالح مصلح رفض هذا المقترح بحجة أن ذلك سيعمل على انقسام الجيش، وأن هذا العمل يؤسس لانقلابات عسكرية، ولكن إذا ما قررت اللجنة المركزية بالأغلبية ذلك، فإنه سينفذ قرار اللجنة المركزية مهما كان هذا القرار ولصالح أي طرف كان، بمعنى أنه كان حزبيًّا ملتزمًا بقرار اللجنة المركزية.
خرج عبدالفتاح إسماعيل من مقر اللجنة المركزية بمدرعة عسكرية عند الساعة السابعة من مساء الـ13 يناير، ومشيت إلى يمينها وأحمد علي السلامي على يسارها لحماية أنفسنا من إطلاق النار، وبعد أن وصلنا مقر قوات الشعب، سمعنا المدرعة تعرضت لكمين"
- نعود لنستكمل معك من حيث انتهينا في الحلقة السابقة؛ ما الذي حدث بعد لجوئك أنت وأحمد علي السلامي واحتمائكما بمقر قوات الشعب؟
- انتظرنا في مقر قوات الشعب حتى وصلتنا معلومات جديدة أفادت بأن مناطق الاشتباكات في مستشفى باصهيب وجوار وزارة الدفاع في التواهي، قد انتهت وتم حسم المعركة وتصفية جيوب الانقلاب، وأصبحت مناطق صديقة، فخرجنا أنا وأحمد علي السلامي عبر تسلق سور مقر قوات الشعب (كان عبارة عن حاجز من الزنك)، وساعدتنا شجرة مزروعة جوار السور على تسلقه والانتقال إلى الشارع الخلفي، حيث كان يوجد فيه أحد المنازل الآمنة. طرقنا بابه واحتمينا به لفترة بسيطة، بعدها أتى إلينا أحد الأشخاص قادمًا من مقر وزارة الدفاع، وبعد أن عرّفنا بنفسه، طلب منا أن نغادر معه إلى مقر وزارة الدفاع. ومع غموض الأحداث من حولنا، كان لديّ شكوكي الخاصة تجاه الرجل ولم أكن مطمئنًّا، وكنت أسمع حديث الرجل من داخل المنزل، وخرجت إلى خارج المنزل للتأكد من الرجل، خوفًا من أن يكون كمينًا من الطرف الآخر. تصفحت ملامح وجهه جيدًا ولمست فيها ملامح الصدق والجد، وقررنا أنا وأحمد علي السلامي، بعد التشاور، المضي قدمًا مع الرجل. غادرنا المنزل وأخذَنا من طريق دار الرئاسة، وعند وصولنا إلى مقر وزارة الدفاع، وجدنا هناك بعض العناصر الصديقة التي كانت في صف علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل ضد الحركة الانقلابية. عرفت منهم رفيق من ردفان للأسف لم يعد يحضرني اسمه الآن، وتبادلنا معه حديثًا قصيرًا أخبرنا خلاله بأني وأحمد علي السلامي مطلوبان للحضور من بعض الرفاق إلى مدينة الشعب. وعندما سألناه: كيف يمكن لنا أن ننتقل إلى مدينة الشعب في مثل هذه الظروف؟ أخبرنا بأنه سيتم نقلنا إلى هناك عبر الميناء على ظهر قارب. إجابته تلك أثارت في نفسينا الشكوك من جديد؛ لأن الميناء، حسب معلوماتنا، كان ما يزال تحت سيطرة القوات البحرية التي يوالي قائدها طرف علي ناصر محمد. وعندما سألنا عن سبب ترددنا، قلنا له: لكن الميناء تحت سيطرة أصحاب علي ناصر! ورد علينا أن المسيطر الحالي على الميناء "هم أصحابنا" بعد أن تمكنوا من هزيمة الانقلابين. لم يكن أمامنا غير الموافقة، وتحركنا من فورنا إلى الميناء، وصعدنا على ظهر القارب الذي أبحر بنا في اتجاه مدينة الشعب.
أتذكر في تلك الرحلة القصيرة فضول قائد القارب وحرصه الشديد على معرفة من نحن، وهذا الإصرار من قبله ولّد فينا بعض الشك تجاهه، فماطلناه في الإجابة حتى وصلنا البريقة. عندها أخبرناه بأسمائنا، وسألناه عن سبب إلحاحه في السؤال حول شخصيتينا؟ رد علينا أن ذلك بسبب الاهتمام الكبير والحرص من قبل مرؤوسيه علينا، فقلنا له: ارتح، معك فلان وفلان. المهم في الموضوع، حُسمت أحداث الـ13 من يناير بفشل الانقلاب، وبخسارة فادحة في أرواح الكثير من رفاقنا.
- ما مصير عبدالفتاح إسماعيل؟
- قلت لك: خرج عبدالفتاح إسماعيل من اللجنة، في المدرعة التي وصلت إلى اللجنة المركزية الساعة السابعة مساء، وقلت لك إننا رافقنا المدرعة؛ أنا على يمينها، وأحمد علي السلامي على يسارها، وتعرف حكاية وصولنا إلى مقر قوات الشعب، وأتذكر أننا عقب وصولنا مباشرة إلى المقر، سمعنا اشتباكات وقلنا حينها إن هذه الطلقات أكيد على المدرعة، وبعدها سمعنا أن المدرعة التي تقل عبدالفتاح تعرضت لكمين وإطلاق نار أدّى إلى انفجارها، وأن الرفيق عبدالفتاح إسماعيل قُتِل في انفجار المدرعة(1).
- وهل تعرض منزله للقصف حسب ما تم تداوله حينها؟
- نعم، كان منزله بين المنازل التي تقع فوق الميناء، وقد تعرض للضرب من قبل سلاح البحرية الذي كان ما يزال يتبع مجموعة علي ناصر محمد؛ ما أدى إلى احتراقه بالكامل.
عمومًا، الأحداث التي سبقتها والتحركات في المعسكرات، أنا -حتى الآن- ما أزال أعتقد أن ما حدث ليس تدبيرًا محليًّا.
- مثلًا: سيطر الطرف التابع لعلي ناصر على مقر وزارة الدفاع في التواهي، بعملية يبدو أنه أعدّ لها مبكرًا بتخطيط مدروس، وكانت المجموعة التي نفذت العملية بقيادة ضابط يدعى عبدالله عليوة، وكان هيثم قاسم طاهر -الذي عُيّن فيما بعد وزيرًا للدفاع، وكان محسوبًا على علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل- موجودًا في الوزارة قبل هذه العملية بوقت قليل، وكان من الأسماء المطروحة في قائمة التصفيات.
- كيف نجا هيثم قاسم من التصفية، في انقلاب وزارة الدفاع؟
- الفضل يعود في ذلك لأحد الرفاق من الشمال، والذي صادف أنْ عَلِم بخطة الانقلاب، وكان يعمل موظفًا صحيًّا في هيئة رئاسة الأركان، ليذهب من فوره إلى هيثم، مخبرًا إياه أنّ حياته في خطر، وأن هناك مخططًا للانقلاب والاستيلاء على الوزارة، وعندها تحرك هيثم وخرج من مقرّ قيادة الأركان ومعه موظف الصحة (للأسف الشديد، لم أعد أتذكر اسم هذا الرفيق، موظف الصحة) في سيارة أقلّتهم إلى التجمع العسكري الذي كان معدًّا لمواجهة مثل تلك الظروف في معسكر صلاح الدين، وهناك استنفر سلاح الدروع (الدَّبَّابات) وقوات المشاة، وسيطر على الكلية الحربية ومعسكر صلاح الدين، وبدأ بتحريك القوات باتجاه المدينة مع التعزيزات القادمة من لحج والمؤيدة لعلي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل، وقامت بالاشتباك مع القوات الموالية لعلي ناصر في أكثر من نقطة في المدينة، وقد تمكنت هذه القوات من تعديل موازين القوى على الأرض، وبدأت تستعيد زمام المبادرة من القوات الموالية لعلي ناصر.
- ما أبرز العوامل التي أدّت إلى فشل القوات الموالية لعلي ناصر في انقلابها، وكيف تمكّنت القوات الموالية لعلي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل من استعادة زمام المبادرة رغم استعدادات الطرف الآخر؟
- هناك جملة من العوامل؛ أبرزها قيام أطراف الانقلاب بإذاعة خبر إعدام عبدالفتاح وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شائع هادي، وكانوا يحظون بشعبية كبيرة. وحقيقة، فقد شكّل هذا الإعلان صدمة كبيرة لدى فئات واسعة من مؤيديهم، حملت السلاح في الضالع وردفان ولحج، واتجهت صوب مدينة عدن، وهناك أيضًا الدور الرئيسي والحاسم الذي قام به هيثم قاسم طاهر وسيطرته على سلاح المدرعات في معسكر صلاح الدين واستنفار الجنود، وبَدْء الهجوم على قوات علي ناصر محمد. ومِن خلفه أتت الإمدادات البشرية عبر لحج؛ بمعنى: كان طريق إمداداته مفتوحًا، وفي الوقت نفسه أصدر هيثم تعليماته لقواته بإغلاق منفذ عدن من اتجاه أبين، وبالفعل أُغلِق المنفذ بالدبابات وقطعت الطريق أمام أي إمدادات يمكن لها أن تأتي من أبين لدعم القوات الموالية لعلي ناصر محمد. كما أن هناك عاملًا حاسمًا إضافة إلى جملة العوامل السابقة، تمثّل في خروج علي ناصر محمد وبعض القيادات المحسوبة عليه إلى أبين، وتركه للمدينة قبل اندلاع المواجهات، وهذا أثّر على معنويات فريقه.
كما انقسم الرفاق في الجنوب، انقسم الرفاق في الشمال بين الجناحين؛ كان سلطان أحمد عمر والدكتور محمد قاسم الثور وحسن شكري ومجاهد القهالي وآخرون، محسوبين على جناح علي ناصر، وكنت وجارالله عمر وعبدالواحد المرادي وحسين الهمزة وآخرون، مع جناح علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل
- أين كان يقف الاتحاد السوفيتي من أحداث الـ13 من يناير 1986م، ومع أيّ طرف كان في الصراع الدائر يومها في عدن؟
- حاول السوفييت منذ اليوم الأول للقتال، رأبَ الصدع وإيجاد حلول وسط، رغم ميلهم في البداية مع جناح علي ناصر محمد، ومع احتدام القتال خلال الأيام التالية أبرقوا للقيادة الباقية في عدن بما يشبه الإنذار بإيقاف القتال فورًا، ولكن عندما حسم جناح علي عنتر وعبدالفتاح المعركة تغير موقفهم لصالح المنتصر.
- هل كانت هناك محاولات من أطراف أخرى للتدخل في الصراع؟
- حاول النظام في الشمال بقيادة علي عبدالله صالح، أن يتدخل في القتال الدائر، وحسب المعلومات أنه كان جاهزًا، وحشد قواته في ظاهر الأمر لإيقاف الصراع بين الإخوة في الجنوب وفضّ النزاع بين الطرفين، بل وحرّك بعض الوحدات العسكرية إلى مكيراس على الحدود مع أبين، حيث نزح إليها علي ناصر وبعض الرفاق، وكان رأينا، رغم الظروف الصعبة لرفاقنا في الجنوب، وما دام هناك مقاومة، ألَّا يسمحوا بمثل هذا التدخل الذي سيُفضي إلى سيطرة النظام في الشمال على مقاليد الأمور في عدن. وكان هناك الفلسطينيون، وتحديدًا الجبهة الشعبية بقيادة جورج حبش، الذي بذل الكثير من الجهد لمنع اندلاع الصراع في عدن.
- أين كنتم تقفون في حزب الوحدة الشعبية من هذا الصراع؟
- كما انقسم الرفاق في الجنوب، انقسم أيضًا الرفاق في الشمال بين الجناحين، وأتذكر أن الرفاق سلطان أحمد عمر والدكتور محمد قاسم الثور وحسن شكري ومجاهد القهالي وآخرون لم أعد أتذكر أسماءهم الآن، كانوا محسوبين على جناح علي ناصر، وكنت أنا وجار الله عمر وعبدالواحد المرادي وحسين الهمزة وآخرون مع جناح علي عنتر وعبدالفتاح إسماعيل.
عمومًا، والمهم في الموضوع أن أحداث الـ13 من يناير 1986، لعبت دورًا سلبيًّا في تاريخ الحزب الاشتراكي اليمني؛ أضعفته وسلبته قيادة شعبية كبيرة من الطرفين، منهم عبدالفتاح إسماعيل الذي كان يتمتع بحضور شعبي كبير وعلي عنتر وصالح مصلح وعلي شايع وآخرين، وظل الحزب يعاني منه حتى اليوم.
- ما الذي حدث في عدن وفي المحافظات الأخرى بعد حسم الصراع، وكيف أدار الطرفُ المنتصر الدولةَ؟
- استمرت الحرب 12 يومًا، حدثت أمور سيئة أثناء الحرب، وتراجعت مع حسم المعركة، ووجود شخصيات عقلانية داخل المكتب السياسي من الطرف المنتصر، لعب دورًا كبيرًا في تطبيع الأوضاع بعد أن استعاد الحزب السلطة وقام بتشكيل حكومة جديدة، وانتخب علي البيض أمينًا عامًّا للحزب الاشتراكي، وحيدر العطاس رئيسًا لمجلس الشعب، وعين الدكتور ياسين سعيد نعمان رئيسًا للوزراء.
- هناك معلومة يتداولها البعض تتحدث عن أكثر من 12 ألف قتيل سقطوا ضحايا في تلك المعارك؛ ما مدى صحة المعلومة والرقم؟
- معلومة غير صحيحة، وفيها مبالغة في عدد الضحايا، وهذا لا يقلل من دموية وبشاعة ما جرى؛ كان عدد الضحايا في حدود الثلاثة آلاف قتيل، جُلُّهم من أعضاء الحزب الاشتراكي والجيش، ولم يكن هناك ضحايا بين المدنيين المحايدين؛ لأن كل طرف كان يعرف خصمه جيدًا.
- علي ناصر غادر اليمن بعد تحقيق الوحدة مباشرة، في استجابة من علي عبدالله صالح لرغبة جنوبية، وكأن علي ناصر قدر الموقف وغادر، وهذا تقديري الشخصي وليس تحليلَ حزبي، والتقينا به فيما بعد، بعد نزوحه إلى سوريا
- ما مصير الرفاق في حزب الوحدة الشعبية الذين حسبوا على جناح علي ناصر، ولم يتمكنوا من الهروب إلى الشمال؟
- على ما أتذكر أن الشهيد جار الله عمر بذل جهدًا كبيرًا في البحث عنهم، وقام بإخفائهم في منزله لمدة من الوقت حتى هدأت الأوضاع، منهم سلطان أحمد عمر وحسن شكري ومجاهد القهالي وآخرون.
- بعد كل ما حدث، أما زال الحزب الاشتراكي على صلة -بشكل أو بآخر- بعلي ناصر محمد بعد حرب 94، أو بعد 2011؟
- طبعًا، علي ناصر نزح من اليمن بعد تحقيق الوحدة مباشرة، في استجابة من علي عبدالله صالح لرغبة جنوبية، وكأن علي ناصر قدر الموقف وغادر، وهذا تقديري الشخصي وليس تحليل حزبي، والتقينا به فيما بعد، بعد نزوحه إلى سوريا.
- ألَا تجد في الأمر غرابة من طريقة تعاطيكم في الحزب الاشتراكي معه، بعد كل ما حدث من صراع؟
- حتى نحن في الحزب، رغم ما حصل من صراعات معه، لكن الأسلوب الهادئ الذي اتبعه علي ناصر وسماعه لنصائح بعض الرفاق في عمل مركز دراسات، (وأعتقد أنّ "مسدوس" هو من أشار إليه في هذا الأمر)، جعلنا نتعامل معه بشكل أقلّ حدية وبعيدًا عن صراعات الماضي، وكنا نراه في الخارج، خصوصًا بعد انتقاله إلى القاهرة.
- وما الذي كان يطرحه في لقاءاتكم معه؟
- هو صراحة لا يميل إلى الجدل الفكري، ولكن حتى بعد الوحدة كان يزور صنعاء، وكنا نلتقي به ونناقش معه بعض أحداث الصراع التي دارت، وحاول أن يتكلم عن هذه القضايا بعيدًا عن مظاهر الصراع التي كان هو طرفًا فيها في سنوات سابقة.
- بل كان طرفًا رئيسيًّا، حسب ما نعرف.
- لا نستطيع أن نقول إنه كان طرفًا رئيسيًّا، وإن كان على رأس الطرف الآخر، إلا أن محمد علي أحمد وأحمد مساعد حسين، هما من أدارا الصراع ضد الطرف الآخر بقيادة عبدالفتاح إسماعيل وعلي عنتر.
- ولكن كيف تم قبول هاتين الشخصيتين في إطار الحزب الاشتراكي بعد الوحدة، وهما من أذكى صراع الـ13 من يناير، بل إن محمد علي أحمد عاد كمحافظ لأبين قبل حرب 94؟
- كان هناك حرص من الحزب الاشتراكي على لملمة جراح أحداث 1986، وإعادة من تم فصلهم وإبعادهم عن صفوفه، كمقدمة لمعالجة آثار الصراع، لكن للأسف الشديد هناك من لم يستوعب هذه الخطوة. وأتذكر شخصيًّا أنه قبل أحداث 13 يناير، وفي لقاء جمع عبدالفتاح إسماعيل وأحمد مساعد حسين لاحتواء الخلاف، كان عبدالفتاح يتصرف بشعور عالٍ بالمسؤولية تجاه الوضع العام، في حين كان الطرف الآخر لا يشعر بتلك المسؤولية، وكنت أشعر بالأسى لعدم تفهمهم لما يقوله الرفيق عبدالفتاح إسماعيل في الطرف المقابل، وقلقه الحقيقي على وضع البلد والحزب.
زار الرئيس علي عبدالله صالح عدن في نوفمبر 1989، حاملًا مشروعًا لتوحيد اليمن على أساس فيدرالي، وتوحيد القوات المسلحة، وتوحيد تمثيل الدولة في الخارج، وبادر الرفيق علي سالم البيض إلى الأخذ بمفهوم الوحدة البسيطة (الاندماجية) على أساس تفعيل دستور 1981
- ما رأيك أستاذ يحيى، في القول بأنكم هربتم بعد أحداث 13 يناير 1986، إلى الوحدة؟
- بالنسبة لموضوع الوحدة، هناك من كان يطرح موضوع الوحدة داخل الحزب الاشتراكي ويرى أن الخطوات الثورية في الجنوب لم تعد ممكنة، ولذلك يجب أن نتحرك بشكل إيجابي نحو وحدة البلاد، نتحرك على الصعيد الوطني، وكان يمثل هذا الرأي قبل أحداث يناير 1986، الرفيقُ جار الله عمر، فيما بدا آخرون أنهم مع الفكرة، لكن بحذر، وعلى أساس وحدة كونفيدرالية، وكان النظام في الشمال يتعاطى مع مسألة الوحدة بضبابية، وكانت هناك قوى داخل النظام غير متحمسة للوحدة مع الجنوب، وخصوصًا التيار الذي عرف بعد تحقيق الوحدة بحزب الإصلاح، وكان اعتراضه على جوانب متعددة، وأحد أوجه اعتراضاتهم: "كيف نتوحد مع كفار؟!"، وأقاموا فعاليات ضد الوحدة، طبعًا كان لدينا شعور أن صنعاء غير جادة في مسألة الوحدة، ولكن بعض الرفاق طرح موضوع مسايرة النظام في صنعاء ومعرفة مدى جديته في موضوع الوحدة. وبحسب أحد الرفاق: "خليك مع الكذّاب حتى باب بيته". طبعًا كان هناك جدلٌ في الأيام الأخيرة قبل تحقيق الوحدة عن شكل ومضمون الوحدة؛ هل هي كونفدرالية أم وحدة بسيطة؟
والوحدة اليمنية، بالنسبة لنا في الحزب الاشتراكي، خيارٌ وهدف استراتيجي، خضنا في سبيله سنوات طويلة من النضال، قدمنا فيها الكثير من التضحيات، وكان الحزب، ومن خلال وثيقة الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الشامل، أوصى بالكونفدرالية وفترة انتقالية قبل الانتقال إلى الوحدة.
- ما الذي حدث في نوفمبر 1989، في عدن؟
- زار الرئيس علي عبدالله صالح عدن في نوفمبر 1989، حاملًا مشروعًا لتوحيد اليمن على أساس فيدرالي، وتوحيد القوات المسلحة، وتوحيد تمثيل الدولة في الخارج، وبادر الرفيق علي سالم البيض إلى الأخذ بمفهوم الوحدة البسيطة (الاندماجية) على أساس تفعيل دستور 1981، الذي أُنجز أيام حكم علي ناصر بمشاركة عدد من القيادات التاريخية لليمن، شمالًا وجنوبًا، وأن يكون هو دستور دولة الوحدة، وحقيقة كان هذا رأيه، وفوجئنا بذلك؛ لأننا لم نكن في قيادة الحزب الاشتراكي اليمني قد حسمنا موضوع شكل ومضمون الوحدة، وكان ما يزال موضع نقاش داخل هيئات الحزب، وفوجئنا بقرار تحقيق الوحدة طبقًا لمشروع الدستور الذي وضع قبل عدة سنوات، وعلى هذا الأساس تم إعلان الوحدة.
- كلامك هذا أستاذ يحيى، يدل على غياب الحوار الداخلي والمؤسسي، وأن القرار فردي اتُّخِذ بمعزل عن هيئات الحزب الاشتراكي؟
- لا، كان هناك حوار داخل الحزب الاشتراكي، وتحفظ أعضاء في المكتب السياسي على فكرة علي البيض، واعتبروا أن الاتفاق مع علي عبدالله صالح يعارض الدستور، ويجب أن يسبق أيَّ اتفاق مؤتمرٌ حزبي تُناقَش فيه الطريقة المثلى لتحقيق الوحدة.
وكان هناك من طرح مفاجأته من قرار الوحدة البسيطة؛ أتذكر منهم الرفيق سعيد صالح الذي قال في اجتماع المكتب السياسي حينها: "ما الذي يحدث يا رفاق؟ مصيرنا واحد ولم نعطَ فرصة للمناقشة، وما نزال بحاجة للكثير من الحوار حول شكل ومضمون الوحدة".
وأتذكر أن علي البيض أصرّ على فكرته في وحدة اندماجية وهدّد بالاستقالة. ومع وجود تيار شعبي واسع وعريض، في الشارع وداخل الحزب، مع إعادة تحقيق الوحدة بأي شكل، رأى أنها فرصة للضغط على نظام صنعاء، وحتى إذا لم يكن جادًّا في تحقيق الوحدة، وتحويلها من مجرد كلام إلى حقيقة، وخصوصًا أن هذا التيار يعرف جيدًا أنه لم يعد بالإمكان اتخاذ خطوات تعزز العملية الثورية في الجنوب، لكن الإمكانية متاحة أمام الحزب الاشتراكي اليمني لاتخاذ خطوات إضافية على الصعيد الوطني وتحقيق الوحدة اليمنية الذي حمل لواءَها، وناضلت مكوناته، جنوبًا وشمالًا، لتحقيقها منذ نشأتها.
عمومًا، قامت الوحدة، وبدأ الحزب الاشتراكي اليمني يستعيد صورته ومكانته في الجنوب أكثر مما كان قبل الوحدة.
- لأنّ المواطنين في جنوب الوطن بدَؤُوا في المقارنة بين حكم الحزب وبين حكم دولة الوحدة وما رافقها من صعود للفساد عبر الموظفين القادمين من الشمال أو الجنوبيين الذين كان يكبح فسادهم الحزب قبل الوحدة، لكنهم وجدوا بعد الوحدة فرصة للإثراء غير المشروع من أموال الشعب.
بدأ الحزب يستعيد مكانته، وظهر ذلك بشكل واضح في الانتخابات الأولى، وانتخب الشعب في الجنوب كلَّ مرشحي الحزب الاشتراكي بلا استثناء، إلى مجلس النواب. وأتذكر حديث بعض المواطنين حينها؛ كانوا يقولون: "سوف ننتخب الذي كان يبيع لنا الحليب بسعر رخيص"، وأتذكر أن منظمة الحزب الاشتراكي في حضرموت، سمحت لشخص من خارج الحزب بالترشح، ولم ينزل أمامه مرشح منافس وفاز، وهي الدائرة الوحيدة في الجنوب التي فاز فيها شخص من خارج الحزب، وهو شخصية مشهورة ومناضل في وجه الاستعمار، للأسف لا يحضرني اسمه(2).
هامش:
(1) تشكلت لجنة للتحقيق في مقتل الرئيس عبدالفتاح إسماعيل، وتضمت اللجنة شخصيات موثوقة ومقربة من عبدالفتاح؛ منهم محمد سعيد عبدالله (محسن)، وأمين ناشر، وخلُص التحقيق الرسمي إلى احتراق المدرعة التي أقلت الرئيس عبدالفتاح. [المحاور].
(2) البرلماني فيصل بن شملان. [المحاور].