حوار/ سام أبو أصبع
في الحلقة الثانية من رحلة الذكريات، نقف فيها مع المناضل يحيى محمد الشامي، على أهم محطات ثورة 26 سبتمبر 1962، ومنعطفاتها الأخطر وتعرجات الصراع الجمهوري/ الملكي، وحصار السبعين، والصراع الجمهوري/ الجمهوري داخل معسكر الثورة، وصولًا إلى انقلاب 5 نوفمبر 1967، ولقاء الرئيس عبدالناصر وموقفه من دعم ثورة اليمن بعد نكسة حزيران/ يونيو.
أنا سأقوم بسرد ما حدث وأنت تصرف بما سأورده من أحداث. أتذكر قبل عودتنا إلى القاهرة وأنا خارج من مقر قيادة الثورة في العرضي في سيارة ضابط من ضباط الثورة من الصف الثاني كان اسمه حسن الشامي (توفي في تعز رحمه الله)، ومعنا ضابط آخر كان جريحًا، وأنا أحدثهم عن أن البيضاني أصدر أمرًا بعودتنا إلى القاهرة لمواصلة دراستنا. التفت نحوي الضابط وقال لي: "لا تزعل، قريبًا سيلحق بكم عبدالرحمن البيضاني، واستغربت حينها من جرأة هذا الضابط على نائب رئيس الجمهورية، والتفت إلى حسن، قائلًا له: من هذا؟ قال لي: هذا أحد ضباط الثورة الكبار، محمد مطهر زيد (استشهد).
وبعد أشهر من وصولنا القاهرة، وصل وفد يمني رفيع المستوى من ضمنهم نائب رئيس الجمهورية الدكتور عبدالرحمن البيضاني، وعرفت فيما بعد أن الوفد كان يحمل رسالة من الرئيس عبدالله السلال إلى الرئيس جمال عبدالناصر، تتضمن الإبقاء على الدكتور البيضاني في مصر وعدم عودته إلى اليمن، بناء على قرار الضباط الأحرار، وبسبب تحريض البيضاني الطائفي السابق لـ"الشوافع" على "الزيود" و"القحطانيين" ضد "العدنانيين"، والثورة لم تقم على هذا الأساس.
وبعد فترة من إقامته في القاهرة، عرف أنه لا يمكن له العودة إلى صنعاء، فقرر العودة إلى عدن، وبالفعل عاد إلى عدن، وظل يتعاطى مع الأوضاع في الشمال بعد الثورة بنفس المنطق الذي كان يدعو له من إذاعة صوت العرب قبل الثورة.
وكانت عدن تتميز في تلك الأيام بمزاج مدني حديث وبفكر لا يؤمن بالمذهبية والسلالية والمناطقية، ونتيجة لخطابه تعرض في إحدى المرات إلى الرمي بالأحذية من قبل المواطنين،
بعدها عاد إلى القاهرة، وظل فيها حتى عام 1967، حين عُين سفيرًا للجمهورية العربية اليمنية في لبنان.
هذا سؤال مهم جدًّا، ويذكرنا بالوضع الحاصل الآن، وأعود معك في الأحداث إلى عودتنا من القاهرة بعد ثورة 26 سبتمبر 1962، وكما قلت لك في وقت سابق، كنا تسعة طلاب، وكان معنا عبدالمجيد الزنداني، وعند مغادرتنا صنعاء إلى القاهرة مجددًا تنفيذًا لقرار استكمال دراستنا، تخلف عنا عبدالمجيد الزنداني وفضل البقاء في اليمن. وبعد ثلاث سنوات من ذلك، أتذكر بعد عودتي وعملي في وزارة التربية والتعليم، كان عبدالمجيد الزنداني رئيسًا لدائرة تابعة للوزارة لها صلة بالتربية الدينية، وكنا نعرف بعضنا، ولم أكن راضيًا عمّا يقوم به في مجال التربية الدينية، فكنت أحرض رجال دين أمثال العزي اليريمي و(فلان) الواسعي- لا أتذكر اسمه الأول. وفي لقاء ناقشنا فيه محتوى التربية الدينية وكنت حريصًا على التركيز على الأحاديث الدينية التي لها علاقة بالعدالة الاجتماعية، بينما عبدالمجيد الزنداني كان يتحسّس من هذا الطرح، لكني كلفت اليريمي والعزي بالعمل على ذلك، لكن عبدالمجيد الزنداني وأخاه عبدالواحد -الذي تغير مزاجه الآن- وقفا ضد توجهاتي آنذاك.
تيار الإخوان المسلمين لم يكن جديدًا على التعاطي مع الأوضاع في اليمن، منذ العام 1948. وكان للإخوان المسلمين في مصر صلة بحركة الأحرار في اليمن، وتحت تأثير هذه العلاقة تحرك الجزائري الفضيل الورتلاني إلى اليمن، أيام الإمام يحيى، وكان على صلة بالإخوان في مصر، ولكن عناصرهم في اليمن آنذاك كانت قليلة جدًّا. وأتذكر هنا عبده المخلافي، وكان من أفضل عناصر الإخوان المسلمين حسب معرفتي الشخصية به (رجل مبدئي)، وحقيقة أني بذلت معه محاولات لتنظيمه في صف البعث، وكان حينها يدرس في الأزهر، وعندما عاد إلى اليمن تصرف بروح الزهد وليس بروح دعيّة، واكتشفت بكل أسف، أنه قد تم تنظيمه في الإخوان المسلمين، وكان أسفي عليه أكثر عندما انتهى في نقيل سمارة.
نعم، حادث سيارة سقطت به من نقيل سمارة. وكان هناك شخص آخر، اسمه أحمد حسين السلامي، وتبين لي أنه لم يكن عنصرًا مهمًّا، ورجع معنا في سنوات لاحقة في الجبهة الوطنية، وقضى بقية حياته في محافظة صعدة أو الجوف (كان معه مَزارع هناك).
سألت مجموعة من الضباط في منزل أحمد الرحومي، حول ما الذي قصدتموه بـ"إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، وكانت إجابتهم متنوعة، بعضها ذات طابع علمي. ولفت نظري إجابة أحدهم بقوله: "كانت حالتنا زِفْت؛ قمنا بالثورة"، وكان هذا الكلام يدلل على توجه اجتماعي أيضًا
طوال القترة من عام 1962 إلى 1967، بدأ الصراع داخل معسكر ثورة 26 سبتمبر في اليمن، وتقديري أن الصراع بدأ يبرز نتيجة للإشكاليات بين قوى الثورة وطبقاتها المختلفة وغير المتجانسة، والذي كان يوحدها الاستياء من الإمامة وضرورة الخلاص منها. وعند قيام الثورة اعتمدت على العناصر الشابة التي لها علاقة بالحركة الوطنية الحديثة، وبعضها بحكم وضعها الاجتماعي، كان لديها توجه ذو طابع اجتماعي.
"استطراد"
وأتذكر أنه بعد عشرة أعوام من قيام ثورة سبتمبر، كُلفت بدعوة عدد من ضباط الثورة إلى نادي الطلاب الخريجين هنا في صنعاء، وجمعت بعضهم؛ منهم على ما أتذكر ناجي علي الأشول، أحمد الرحومي، علي قاسم المؤيد، عبدالله المؤيد، وعلي الشامي، وكلهم قد توفوا الآن. كلفني النادي بدعوتهم إلى الندوة، وأتذكر أسئلتهم في منزل أحمد الرحومي، حول ما الذي قصدتموه بـ"إزالة الفوارق والامتيازات بين الطبقات"، وكانت إجابتهم متنوعة، بعضها ذات طابع علمي. ولفت نظري إجابة أحدهم بقوله: "كانت حالتنا زِفْت؛ قمنا بالثورة"، وكان هذا الكلام يدلل على توجه اجتماعي أيضًا.
وبدأ الصراع يبرز بين أطراف الصف الجمهوري منذ وقت مبكر، وهذا يعود إلى أن المجموعة التقليدية، ومن أبرزها الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر والشيخ سنان أبو لحوم ومعهم شخصيات من حركة الأحرار، مثل الزبيري والنعمان والقاضي الإرياني، لم تكن راضية عن بروز التوجه الاجتماعي اليساري المرتكز على أهداف الثورة نفسها. وكما أتذكر أن أحد أسباب إبعادي إلى العمل الدبلوماسي في العام 1965، كان بسبب اعتراض القوى التقليدية المدعومة سعوديًّا على نشاطاتي في الداخل.
وزاد توجس القوى التقليدية مع اندلاع معارك الدفاع عن ثورة 26 سبتمبر، ووقوف مصر مع الصف الجمهوري، وتدخل السعودية مع الصف الملكي. وعلى ضوء هذا الصراع، تم احتجاز الحكومة اليمنية برئاسة النعمان في القاهرة مع الكثير من الشخصيات، أمثال العيني وحسن مكي والإرياني، وغيرهم من شخصيات لا تحضرني أسماءهم الآن، وعاد الرئيس السلال الموقوف إلى صنعاء.
بعد التغيرات التي حدثت في الإقليم وحرب 1967، وهزيمة مصر وحرصها على سحب قواتها من اليمن، بدأ التفكير داخل الصف الجمهوري لتغيير الأوضاع، وقامت على إثر ذلك حركة 5 نوفمبر 67. أتذكر أني حينها كنت مبعدًا في السلك الدبلوماسي، وكان أول عمل دبلوماسي لي في سفارتنا في لبنان، وآخر عمل في ألمانيا، وعدت بعدها إلى اليمن ودعيت إلى اجتماع قيادي لمنظمة البعث العربي الاشتراكي، برئاسة المرحوم أحمد حسين الجرادي، ومن ضمن الحضور كان المرحوم محمد طربوش من العسكريين، وعبدالله الراعي من العسكريين أيضًا ومن ضباط الثورة. لم أكن في الصف القيادي حينها، ومع ذلك تم استدعائي، وتداول الاجتماع معلومات تتحدث عن قيام حركة في اليمن (سوف تقوم)، وأبديت بعض الملاحظات، كوني كنت مسافرًا في الخارج ولا توجد لدي التفاصيل الكافية، على كواليس ما يحدث في الداخل، وسمعت بعض الرفاق الحاضرين يقول: لماذا علينا أن نبقى مطاردين من السلطة؟ يجب علينا أن نتواصل مع الطرف الذي يحضّر للانقلاب، ليقولوا لنا ما الذي ينوون فعله، ما لم سنقف ضدها. اقترح البعض الاتصال بالقاضي عبدالرحمن الإرياني لاستكناه ما يحدث والتنسيق معه، وكلفت أنا (ولم أعد أتذكر من كُلف معي: الجرادي أو طربوش أو الراعي؟) للقاء القاضي الإرياني، وبالفعل ذهبنا للقائه، وطلبنا منه أن يوضح لنا طبيعة الحركة، لكنه أحالنا إلى الأستاذ محسن العيني قائلًا لنا: "شوفوا محسن العيني"، وكان من ضمن العائدين من الاحتجاز في القاهرة.
ذهبنا للقاء العيني في منزله الكائن في حيّ الطبري، ولاحظنا فور وصولنا خروج مجموعة من ضباط الثورة من منزله، وكانوا على صلة بموضوع الحركة.
استقبلنا الأستاذ العيني في منزله، وبادرناه بالسؤال عن الحركة وطبيعتها، فقال لنا: "حاولنا التفاهم مع السلال، لكنه تجاهل مقترحاتنا وسافر إلى الاتحاد السوفيتي في زيارة رسمية كانت معدة مسبقًا".
الحوار والعمل المشترك، وإيقاف الصراع مع الكل.
في بداية مساء 5 نوفمبر 1967، كنت في منزلي بحي "برُّوم" في صنعاء القديمة، عندما طرق بابي أحدهم ومعه رسالة تخبرني بحاجتهم لي لإذاعة بيان الحركة، وألقيت البيان من إذاعة صنعاء، ولم تعجبني صياغته المتشددة تجاه العناصر ذات النفس الناصري، وقمت بتعديله بموافقتهم
نعم، وهنا أحب أن أضيف وأوضح أنه من المحتمل أو ربما، أن الرئيس السلال كان لديه إحساس بأن هناك حركةً ما ترتب للإطاحة به، وبناء عليه لا يوجد داعٍ للاتفاق معهم "خاطِرْكُم بين أمشي" [بمعنى: مع السلامة، سوف أغادر]، وكلف القاضي عبدالرحمن الإرياني بتحمل مسؤولية رئاسة الدولة.
تصميمهم على المضي قدمًا في الحركة، وكنت حينها، وبنوع من الانضباط الحزبي، لم أعترض رغم تحفظي وإحساسي أن الظروف غير مناسبة، والملكيون يضغطون على الثورة ويتقدمون باتجاه صنعاء، في محاولات مستميتة لاستعادة النظام الملكي.
في المساء، وتحديدًا أول الليل، كنت في منزلي بحي "بَرُّوم" في صنعاء القديمة، عندما جاءني طارق ومعه رسالة تخبرني بقيام الحركة، وبحاجتهم لي لإذاعة بيان حركة 5 نوفمبر 1967.
اعتبرته تكليفا حزبيًّا من محسن العيني، الذي ضمّني إلى حزب البعث العربي الاشتراكي، وكان شخصية قيادية في تلك الفترة ويتمتع بنفوذ كبير في إطار حركة البعث في اليمن، سواء في عدن أيام الحركة العمالية، أو بعد عودته إلى صنعاء.
بعدها ألقيت البيان من إذاعة صنعاء دون أن أقتنع به وكان قد صاغه المرحوم حسين العيني ولم تعجبني صياغته المتشددة تجاه العناصر ذات النفس الناصري، وعملت على تعديله بمبرر وحدة الصف، وبأن الوقت ليس وقته، وهذا ما تم بعد موافقة الحاضرين، وحذفت المقاطع التي تهاجم كل من له علاقة بجمال عبدالناصر وبالمخابرات المصرية.
كان هناك ائتلاف يجمع مختلف القوى، وكان هناك إصرار مني على تواجد جميع القوى. صحيح أنه كان لدي حساسية من العناصر التقليدية منذ العام 1962، وأتذكر هنا حوارًا لي مع الشهيد عبداللطيف ضيف الله بعد الثورة عندما عدنا من القاهرة، تناولنا فيه شخصيات مشيخية وشخصيات من كبار القوم، وكان رأيي أن هؤلاء اختلفوا مع الإمام على السلطة وليس ضد الاستبداد. بمعنى لو تولى أحدهم مقاليد الحكم، لأداره بنفس طريقة الإمام. لكن هذا الكلام لم يكن مقبولًا حينها، حتى لدى ضباط الثورة؛ لأنهم كانوا يريدون حشد جميع الطاقات ضد سلطة الإمام. وحسب تعبيرهم آنذاك: "وبعدا بعدا"؛ أي نتخلص من الإمام أولًا، وبعدها سيكون هناك حلّ.
في إطار الحركة الوطنية الحديثة، وقد أصبحنا مطاردين وملاحقين مرة أخرى بعد 67، بدأنا نناقش ونقيم، لأول مرة، بشكل صريح حركة 5 نوفمبر؛ ماذا تعني؟ وكنت ممثلًا لحزب البعث العربي الاشتراكي، وأحمد جبران ممثلًا لاتحاد الشعب الديمقراطي، وعبدالحافظ قائدًا عن الحزب الديمقراطي الثوري، والذي أتى بديلًا عن النقابي عبده سلام على ما أعتقد، ووصلنا إلى خلاصة مفادها: أنها حركة رجعية إلى الخلف، ولكن وجود القوى الوطنية داخلها ساهم في الحفاظ على النظام الجمهوري، وكان القصد أن تواجد البعث في إطار الحركة هو الذي كبح جماح القوى التقليدية في الذهاب نحو تنفيذ اتفاق عقد في الرياض في العام 1965، يفيد بقيام دولة إسلامية في اليمن.
في عام 1967، حدث مؤتمر القمة العربية في الخرطوم، وعلى هامشها التقى الرئيس جمال عبدالناصر والملك فيصل بن عبدالعزيز، [واتفقا] على عقد مؤتمر للمصالحة في اليمن. كان الرئيس السلال حاضرًا في المؤتمر، وانبثق عن هذا الاتفاق تشكيل لجنة ثلاثية مشكّلة من العراق والسودان والمغرب، وكانت السودان والمغرب مع القوى التقليدية، باستثناء إسماعيل خير الله ممثل العراق في اللجنة.
ومن اليمن، تم الاتفاق على وفد يتشكل من: 5 جمهوريين في السلطة، و5 جمهوريين في المعارضة، و5 من الملكيين، وتم اختياري من ضمن القادمين من صنعاء رفقة عبده عثمان- الشاعر وليس عبده علي عثمان، وحسن مكي وزير الخارجية آنذاك، في رئاسة الوفد، والدكتور عبدالرحمن البيضاني، إضافة إلى عبده نعمان الحكيمي.
وكان خروجنا من صنعاء عن طريق عدن، وكان الجنوب قد استقل عن الاستعمار البريطاني، ونقلنا لرفاقنا هناك صورة ما يدور في صنعاء، وما أزال أتذكر لقاء الرئيس قحطان الشعبي، وكنت أعرفه من قبل الاستقلال، وكنا معًا نطوف شوارع القاهرة، وفي لقائنا الأول بعد الاستقلال، عبّر الرئيس الشعبي عن تأييده المطلق لثورة 26 سبتمبر وللدفاع عنها في وجه عودة الملكية
من الجمهوريين المعارضين كان يتنافس على تمثيلها مجموعة كانت في بيروت؛ منهم النعمان وحسين المقدمي، ومن بغداد أتى عبدالغني علي وعلي السلال- نجل الرئيس السلال، ومن القاهرة أتى الأهنومي ويحيى بهران. وصلنا بيروت وهم يتزاحمون على تمثيل المعارضة الجمهورية، ومن صف الملكيين، أتى الأمير عبدالرحمن يحيى حميد الدين، وآخرون لم أعد أتذكر أسماءهم. أتذكر حينها أني قلت لهم: المهم الآن تنفيذ الاتفاق الذي تم بين عبدالناصر وفيصل؛ مصر توقف مساعداتها والسعودية توقف مساعداتها. ومصر حينذاك كانت قد انسحبت من اليمن، وكان علينا أن نلتقي اللجنة الثلاثية لفهم الموقف السعودي وما الذي عملوه في صدد إيقاف دعمها للملكيين. ورغم أني كنت أقلّهم من حيث الوظيفة (نائب وزير) والآخرين كلهم وزراء، إلا أن الجميع أخذ برأيي، وغادرنا إلى بيروت ومعنا الدكتور البيضاني وكان قد دخل في جدل حول تواجد الأمراء، وكان يرى أنه من الممكن التفاوض مع الملكيين، لكن ليس مع الأمراء. كان الوفد القادم من اليمن يحظى باحترام الجميع في الصف الجمهوري (سلطة ومعارضة)، وتفاجأ المعارضون المتنافسون على تمثيل المعارضة، والقادمون من بيروت والقاهرة وبغداد، أننا متطرفون أكثر منهم، فقرروا الانسحاب وإيكال تمثيل الصف الجمهوري لنا، وكان رأينا أن يظل معنا عبدالغني علي وعلي السلال في بيروت ضمن الوفد.
زرنا القاهرة بعد مؤتمر المصالحة، والتقينا الرئيس عبدالناصر في منزله، وكان الدكتور عبدالرحمن البيضاني حاضرًا، وبدأ بالحديث باعتباره مقربًا من مصر، ولم يعجب حديثه عبدالناصر فقاطعه قائلًا: "مش وقته"، دعنا نسمع القادمين من داخل اليمن
وتنفيذًا لاتفاقنا في الذهاب لرؤية اللجنة الثلاثية لاستفسارها حول موضوع إيقاف السعودية دعمها للملكيين، ذهبنا في المساء لزيارة وزير خارجية العراق إسماعيل خير الله -على ما أتذكر اسمه- وقلنا له: نحن الآن لسنا في مؤتمر للمصالحة، ونريد توضيحًا حول ماذا عملت اللجنة لإيقاف المساعدات السعودية للملكيين، تنفيذًا لاتفاق عبدالناصر وفيصل؛ لأن المصريين انسحبوا أو (سينسحبون، لأني لم أعد أتذكر في تلك الفترة هل تم الانسحاب كاملًا أم كان لا يزال هناك بعض من وحداتهم العسكرية)، فقال لنا وزير خارجية العراق: أنتم تتصرفون بثقة زائدة في أنفسكم. قلنا له: نعم، وهذا نابع من إحساسنا بأن الناس داخل اليمن مع الثورة من عدن إلى مختلف المناطق. وقلنا له أيضًا: عليك أن تبلغ اللجنة الثلاثية أن الوفد سيأتي للقائها، ولكن لمعلوماتك الشخصية، سيحضر رئيس الوفد وزير الخارجية حسن مكي فقط للقائكم.
وخرجنا من مقر إقامته بعد أن تم تحديد زمن ومكان اللقاء، وعندما ذهبنا للقاء اللجنة الثلاثية، كان في أذهانهم أنهم سيلتقون رئيس الوفد بمفرده وأمامهم سؤال: ما الذي أنجزتموه في موضوع الدعم السعودي بموجب اتفاق عبدالناصر وفيصل، وقد تحضروا على هذا الأساس. وكنا مصرّين على هذا الموقف؛ لأن مصر انسحبت والسعودية ما زالت تدعم الملكيين بسخاء، حتى أوصلتهم إلى محاصرة صنعاء.
نعم، خرجنا وصنعاء تحت الحصار؛ لذلك، أقول لك أن لدي بعض الالتباس بين هذا الموضوع وعقد المؤتمر في الخرطوم، وكذلك عندي لَبس؛ لأن اللجنة الثلاثية زارت صنعاء وخرجت مظاهرات حاشدة تطالب بطردها، وبالفعل غادرت صنعاء على الفور.
وفاتني أن أحدثك أنه قبل توجهنا إلى بيروت، زرنا القاهرة، والتقينا الرئيس جمال عبدالناصر في منزله، وكنا الخمسة أعضاء الوفد الجمهوري، وكان الدكتور عبدالرحمن البيضاني حاضرًا، وبدأ بالحديث باعتباره مقربًا من مصر، ولم يعجب حديثه عبدالناصر فقاطعه، وطلب منه التوقف عن طرحه غير المناسب: "مش وقته"، دعنا نسمع القادمين من داخل اليمن. وتكلمنا وكلنا ثقة واعتداد بالنفس، مسنودين بالمقاومة الشعبية وما تبقى من وحدات عسكرية في الداخل، ورفد هذه المقاومة بالمتطوعين من مختلف مناطق اليمن، شمالًا وجنوبًا، والصمود بوجه الملكيين.
كان المتحدث حسن مكي رئيس الوفد، ومن ضمن كلامه، أننا في حاجة لقليل من البنادق والذخيرة، وكنا قد طلبناها من السادات قبل لقائنا عبدالناصر. وبدأ الرئيس عبدالناصر كلامه معنا بقوله: "لدي علم بما تحتاجونه في الحرب ضد الملكية، وقد وجهت وزير الحربية بتزويدكم بكل ما طلبتموه". وأتذكر كلامًا له -[استدراك]: (عبدالناصر كان جبلًا)- قال فيه: لا يتصور الآخرون، لأننا هُزمنا أمام إسرائيل في 67، أننا سنترككم، لا، لن نترككم، وسندعمكم دائمًا بكل ما تحتاجونه.
حينها قال عبده عثمان: إن شاء الله سيادة الرئيس ألّا يكون الدعم عن طريق (فلان) الذي كان قد أُبعد من مصر، وكان مسؤولًا عسكريًّا أو مسؤول مخابرات، لم أعد أتذكر اسمه. وأتذكر من ذلك اللقاء نظرات عبدالناصر، فقد نظر نحوي ثلاث مرات، وكنت أصغر أعضاء الوفد سنًّا. وكنا قد اتفقنا في الوفد أن حسن مكي هو المتحدث الرئيسي، وإذا ما أغفل نقطة يتحدث أحدنا بها، ومع نظرات عبدالناصر لي وكأنه يريد أن يسمع كلامي، تذكرت حينها المزاج المصري الذي خبِرته في دراستي هناك، وكان عندما يتعارك شخصان يقول الضعيف منهم لخصمه الأقوى: "مَتِمْشي خلاص"، ويرد عليه الأقوى والبلطجي بالقول: "خلاص انتهى الموضوع"، وقلت في نفسي: "هذا الرجل على عظمته، إلا أنه أكيد غير بعيد عن المزاج الشعبي المصري".
قلت له: "سيادة الرئيس، نحن سننتصر، ولكن هل سننتصر بكلفة كبيرة أم قليلة؟"، أحسست أن كلامي أعجبه، وانتهى لقاؤنا به.
وبالعودة إلى لقاء اللجنة الثلاثية، أبلغتنا اللجنة أنها ستعود إلى عبدالناصر وفيصل، لحسم موضوع الدعم. وفي طريق عودتنا مررنا بدمشق، وكان يحكمها حزب البعث العربي الاشتراكي، وساهمت دمشق آنذاك في دعم الجمهورية بإرسال طيارين عقب زيارة قام بها بعض الضباط اليمنيين إلى سوريا، منهم عبدالله الراعي، وكان ضمن البعث العربي الاشتراكي، وحميد العذري. طلبوا فيها [الزيارة] من دمشق مد يد العون، ولم تتردد حينها في إرسال طيارين من حامية دمشق. مررنا بهم لتقديم شكرنا لهم، وأطلعناهم على صورة ما حدث في بيروت، وعدنا بعدها إلى صنعاء.
عبدالرقيب عبدالوهاب كان من العناصر العسكرية التي تولت رئاسة الأركان، وكان له دور محوري ومهم في الدفاع عن الثورة، وللأسف كان هناك بعض الخلافات في صفوف الضباط الكبار من جهة، والضباط الصغار من جهة أخرى، وصلت إلى اتهام بعضهم البعض بالخيانة
مع الأسف، وبعد كل هذا، حصل الخلاف مجددًا داخل صفوف الحركة الوطنية، وترتب على هذا الخلاف صراع مسلح داخل صنعاء فيما عرف بـ"أحداث أغسطس 1968"، وحينها تصرفت القوى التقليدية على طريقة إنهاء وحسم الازدواج في السلطة؛ لأن تشكيلة حركة 5 نوفمبر، كانت مكونة من قوى جمهورية تقليدية وحديثة، فاعتبرت القوى التقليدية أن الفرصة أصبحت متاحة أمامها للخلاص من الحركة الوطنية الحديثة، وقامت بالتخلص من أكثر من 50 ضابطًا بضربة واحدة.
كنت مع الأسف في ألمانيا لحضور ندوة عن مشكلات التعليم في البلدان المتخلفة، وأتذكر أن شخصًا سودانيًّا أبلغني بحدوث مشاكل في صنعاء، فتأكد لي أن الصراع انفجر في صنعاء، وكنا قبل مغادرتي صنعاء قد أعطينا أوامر لرفاقنا في إطار البعث العربي الاشتراكي من العسكريين في الوحدات العسكرية، بالانسحاب، ووصل التعميم للبعض والبعض الآخر لم يصلهم وبقوا في وحداتهم، وظهر الصراع كما لو أنه صراع بين الحركة والبعث العربي الاشتراكي، في حين أن جوهره كان صراعًا بين القوى الحديثة والقوى التقليدية التي حاولت الاستفادة ممّا حدث وحسم ازدواجية السلطة لمصلحتها، وهذا ما حدث. وبعد أغسطس 68، تم إبعاد كل من له علاقة بالحركة الوطنية، سواء عسكريين أو مدنيين، وأتذكر عندما بدأت الحركة الوطنية تناقش مستقبل البلاد بعد أحداث أغسطس.
عبدالرقيب عبدالوهاب، كان من العناصر العسكرية التي تولت رئاسة الأركان، وكان له دور محوري ومهم في الدفاع عن الثورة، وللأسف كان هناك بعض الخلافات في صفوف الضباط الكبار من جهة، والضباط الصغار من جهة أخرى، وصلت إلى حدود خطرة باتهام بعضهم البعض بالخيانة. وأتذكر خلال نقاشاتي مع بعضهم، وتحديدًا أمام البنك اليمني للإنشاء والتعمير في ميدان التحرير، وأتذكر ناصر السعيد* وكان في إطار حركة 5 نوفمبر، وكان يتّهم الضابط فلان والضابط فلان... بأنهم ملكيون، وسألته: من هم ضباط الثورة يا ناصر؟ ألا تدرك أنك تضع الأسماء نفسها؟ عليك أن تدرك أن تبعات هذه الاتهامات خطيرة، في حين أن البلد مقبل على معارك مع الملكيين، فسكت حينها ولم يردّ عليّ.
حسم صراع الضباط بإبعاد عدد منهم إلى الجزائر، وصادف أن كانت عودتي من ألمانيا عن طريق القاهرة، ووجدتهم قد انتقلوا إليها من منفاهم في الجزائر، وساكنين مع بعضهم. وكانت صلتنا في إطار الحركة الوطنية عادية، التقيت ببعضهم وكانوا يشكُون من معاملة الجزائر لهم، وأنهم لم يُستقبلوا فيها بشكل لائق، وأتذكر أني قلت لهم: لو كان خروجكم بعد حصار السبعين، لكان لكم كل الحق في هذا التبرّم، ولكنكم خرجتم بفضيحة وصراع بينيّ فيما بينكم، فطبيعي استقبالهم البارد لكم، وها أنتم جميعكم خارج البلد.
نواصل رحلة الذكريات في الأسبوع القادم.