أضحت حياة المواطنين اليمنيين في مهب العبث الذي يمارس من قبل صيادلة يقومون بدور الأطباء، في ظل غياب تام لدور الدولة والمؤسسات المهتمة بحقوق الإنسان.
وعلى وقع تردي النظام الصحي في اليمن، انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة خطيرة تمارس بحق المواطنين، حيث تحول بعض الصيادلة إلى أطباء يمارسون التشخيص والمعاينة وكتابة وصفات الأدوية، دون مراعاة لحياة الناس، وللقانون الذي يجرّم ويعاقب كل من يزاول المهنة بدون اختصاص علمي ودراسي.
تنص الفقرة (ل) من المادة (21) في قانون مزاولة المهن الطبية والصيدلانية، على أنه يحظر "صرف أدوية بدون وصفة طبية رسمية من قبل طبيب مرخص له ومسجل في سجلات المجلس [الطبي] ولا تكرر صرف تلك الأدوية إلا بوصفة جديدة". كما تنص الفقرة (د) من المادة (33) على "عقوبة الحبس لمدة لا تتجاوز ستة أشهر أو بغرامة لا تزيد عن مائة ألف ريال، لكل من خالف أحكام المواد (4 ، 9 ، 21) من هذا القانون". غير أن هذا القانون، مثل غيره من القوانين النافذة، لا تنفذ، ولم يعد يخشاها المخالفون.
الذهاب إلى الصيدلي
أم خالد (اسم مستعار) واحدة من ملايين اليمنيين الذين يعتمدون بشكل شبه دائم على الذهاب إلى أقرب صيدلية للحصول على وصفة دواء عندما تحتاج للرعاية الصحية أو بعض الأدوية للتخلص من مشكلة مرضية تعاني منها. هي لا تفكر بالمخاطر التي تترصدها مع كل خطوة نحو صيدلية الحيّ الذي تسكن فيه، وفي الجانب الآخر، لا يأبه الصيدلي بقانون المهن الطبية ولا بالمخاطر التي يمكن أن تصيب المريضة جراء وصف الدواء لها بدون تشخيص طبيب مختص.
وتقول أم خالد في حديثها لـ"خيوط": "شعرت بارتفاع الحرارة مصحوبة بآلام في بعض أجزاء الجسم واختناق خفيف، وقررت الذهاب إلى الصيدلاني في الحارة، وعندما شرحت له الأعراض، صرف لي "إبرة" مضاد حيوي ومغذيات"، مؤكدة أن صحتها لم تتحسن بعد تناول هذه الوصفة. لم تكتفِ أم خالد بذلك، فقررت الذهاب إلى صيدلي آخر في نفس الحيّ لعلها تجد الفائدة عنده، إلا أنها وجدت تشخيصًا أرعبها. إذ أخبرها الصيدلي بأنها مصابة بفيروس كورونا (كوفيد 19)، ووصف لها أدوية تناولتها لعدة أيام، وكانت النتيجة ظهور انتفاخ في جسدها، وعند ذلك فقط، قررت رمي التوقف عن تناول تلك الأدوية وعن الذهاب إلى الصيادلة لشراء أدوية بدون وصفة طبية.
تجارة لا خدمة
يرى الدكتور أحمد الدميني، أخصائي باطنية، أن "المجال الطبي هو مجال خاص جدًا لأنه يمس حياة الناس بصورة مباشرة، ويجب على السلطات ومن لهم شأن بالرقابة على الصيدليات والمختبرات أن يكثفوا من جهودهم بدور الرقابة"، وضبط "المخالفات الجسيمة" التي "تضر بأرواح الناس وتشكل خطرًا على حياتهم".
ويُرجع الدميني في حديثه لـ"خيوط"، أسباب انتشار ظاهرة صرف الدواء بدون وصفة طبية، إلى "غياب الخدمات الحكومية أو نقص إمكانيات المرافق الحكومية، أو عدم وجود بعض التخصصات الطبية"، وذلك في ظل الغلاء المعيشي الذي سحق أغلب الأُسر اليمنية.
وتظل حياة الملايين من اليمنيين تحت تهديد العشوائية والإهمال من قبل الأجهزة الصحية في ظل استمرار الحرب في البلاد، وفي هذا السياق يقول الدميني: "لو نظرنا للقضية من عدة أبعاد وزوايا، سنلاحظ خطأً كبيرًا بموضوع إعطاء التصاريح الرسمية لأشخاص ليسو فعلًا من يمتلك الصيدلية، وبدون أي متابعة لمن سيعمل بداخل هذه الصيدلية ومؤهلاته، وما إذا كان مخولًا بإعطاء وصفات طبية للمرضى".
مدير إدارة الصيدلة بمكتب صحة تعز: الصيدلاني له الحق في صرف فئة من الأدوية تسمىOTC drugs، (أدوية الرفّ)، وتشمل مهدئات الآلام، وأدوية البرد والنزول، وأدوية السعال، وملطفات الحلق، وأدوية التقلصات، وبعض الفيتامينات وبعض المراهم
وأوضح الطبيب أحمد الدميني، أن هناك كثير من منتحلي صفة "صيدلاني" ومنهم أشخاص لم يكملوا حتى دراستهم، إضافة إلى أن هناك من يعمل بالخبرة ويتم تمكينه من العمل بصفة صيدلاني. وأشار الدميني إلى أن الحرب الدائرة منذ أكثر من ست سنوات، أدت إلى تعطيل بعض المؤسسات، كما حصل مع هيئة الأدوية، وأيضا مكتب الصحة بمحافظة تعز، وضعف الرقابة والتفتيش، وأن كل هذا التعطيل أدى بدوره إلى احتراف كثير من التجار لمهنة الصيدلة، بينما هم- كما يصفهم الدميني- "تجار ينتحلون مهنة الصيدلة أو الطب".
ولفت الدكتور الدميني إلى أن معالجة المرضى دون أي معرفة بالطب وإنما اعتمادًا على قراءة وصفات مشابهة لبعض الأطباء وتطبيقها على مرضى آخرين أو قراءة الروشتات، هو استهتار بحياة المرضى وانتهاك لهم وللمهنة، مؤكدًا أن "ذلك ينطبق على بعض الأطباء أنفسهم عندما يتعاملون مع صيدليات محددة، ويصفون للمرضى أدوية مصنّعة في شركات محددة غالبًا ما تكون باهضة الثمن، فقط، من أجل تحقيق مكسب مالي من وراء هذه الوصفات، وهذا استرخاص منهم بالمهنة".
وقال الدميني إن هناك أمراض من المعروف أنها لا تعالج أبدًا إلا برؤية طبيب مختص، وأنه من غير المنطقي أن يكشف الصيدلاني على مريض وهو لا يعرف أساسيات عن الطب السريري وفحص المريض إكلينيكيا.
وأضاف: "الصيدلاني هنا يجد نفسه بين خيارين: إما أن يعالج ويلمع نفسه أنه دكتور معالج، أو يخسر ماديًا لعدم شراء أدويته، لكنه ينسى أن الموضوع لا يقاس بهذه الطريقة، لأن ما يحدث لمريض سيحدث لآخر ومن ثم لآخرين، وسيصبح الأمر عادة تنعكس على أرواح الناس في حال تم صرف أدوية قد تضرّ بالمريض وتسبب له مضاعفات لا تحمد عقباها".
أدوية الرف
من جانبه يقول عادل الغوري، مدير إدارة الصيدلة بمكتب وزارة الصحة في تعز، التابعة للحكومة المعترف بها دوليًا، إنه لا يجب أن يقوم الصيدلي بدور الطبيب في التشخيص والمعاينة، ولا يحق له فتح عيادات أو مختبرات في داخل المنشأة الصيدلانية.
وأوضح الغوري في حديثه لـ"خيوط"، أن الصيدلية منشأة طبية خاصة يُمنح ترخيص افتتاحها لدكتور صيدلي حاصل على مؤهل بكالوريوس صيدلة، وترخيص مزاولة مهنة من نقابة الصيادلة، وكذلك الحال بالنسبة للمختبر والعيادة، حيث تُمنح التراخيص حسب كل تخصص، بما في ذلك تراخيص افتتاح المراكز الطبية والمستشفيات، التي غالبًا ما تكون استثمارية، لكن تحت إشراف طبيب كمدير فني للمنشأة.
ويشير الغوري إلى أن قانون المنشآت الطبية الخاصة رقم (٦٠) لعام ١٩٩٩، ولائحته التنفيذية رقم (٣٢) لعام ٢٠٠٤، تحدد مواصفات المنشآت الطبية الخاصة، سواء كانت صيدلية أو عيادة أو مختبر أو مركز طبي أو مستشفى، وتحدد تخصص كل منشأة والخدمات الطبية التي تقدمها للمرضى.
يرى الكثير من المواطنين أن ذهابهم إلى الصيادلة أمر طبيعي في ظل انتشار الفقر وتدهور الوضع الصحي الحكومي وارتفاع الأسعار في المستشفيات الخاصة والعامة
وعن الأدوية المسموح للصيدلي وصفها، يقول الغوري: "الصيدلاني له الحق في صرف فئة من الأدوية تسمى OTC drugs، (أدوية الرفّ)، وهي عبارة عن أدوية تصرف بناء على شكوى المريض كمهدئات الآلام، وأدوية البرد والنزول، وأدوية السعال، وملطفات الحلق، وأدوية التقلصات، وبعض الفيتامينات وبعض المراهم". ويضيف مدير إدارة الصيدلة بمكتب صحة تعز، أن "هذا أمر متعارف عليه في مهنة الصيدلة"، وأن "الصيدلاني المتخصص لديه الخبرة والعلم الكافي كخبير دواء، لتحديد الأدوية التي يمكن صرفها بدون رشته طبية"، وأن هذا (صرف أدوية الرف) يعتبر "من صميم اختصاصه ولا يعد ممارسة لمهنة الطب"- حسب تعبيره.
غير أن الغوري يؤكد بالمقابل، أن ممارسة الصيدلاني لمهنة الطب أو المختبرات داخل الصيدلية، تعتبر مخالفة قانونية واضحة، وأنه عند تلقي إدارته بلاغًا بحدوث مثل هذه الحالة، "يتم النزول لضبط المخالفة بمحضر ضبط وتتخذ ضده الإجراءات القانونية، وذلك بدفع غرامة، وإزالة المخالفة، وتعهد بعدم التكرار"، مشيرًا إلى أنه في حال تكرار المخالفة "يتم الرفع لنيابة المخالفات لإغلاق المنشأة الصيدلانية المخالفة".
غياب الثقة
أما الناشطة المجتمعية عايدة حميد، فتقول إن من أسباب اعتماد المرضى على وصفات الصيادلة، يرجع إلى "انعدام الثقة بالأطباء الموجودين في المستشفيات الحكومية، وكذلك ارتفاع أسعار التشخيص في العيادات الخاصة".
وتضيف عايدة في حديثها لـ"خيوط"، أن من ضمن أسباب لجوء المريض للصيدلي، أن "فاتورة الكشف والفحص غالية جدًا عند كثير من الأطباء، مقارنة بالوضع المالي لكثير من الناس"، الذين لا تكفيهم النقود المتوفرة لدفع قيمة التشخيص والفحوصات والأدوية. كما تصف اللجوء للصيادلة في وصف الأدوية بـ"المخاطرة الكبيرة".
وبحسب استبيان نفذه كاتب التقرير حول قيام بعض الصيادلة بدور الطبيب، فإن62,1% من المواطنين لا يقبلوا الحصول على تشخيص طبي عن طريق صيدلي، فيما 22,1% لا يمانعوا في ذلك، و15,5% يقولون إنه في حالة الضرورة، لا يترددون في الذهاب إلى الصيدلي.
ويقول 56,7% من الأشخاص الذين أجابوا على الاستبيان، إنه سبق لهم الذهاب إلى الصيادلة للحصول على تشخيص أو دواء، و26,8% لم يذهبوا، و16,5% أفادوا بأنهم تلقوا العلاج في حالة الضرورة لدى الصيدلي. وعن قيام القطاع الصحي بتقديم خدمات صحية جيدة للمواطنين، أجاب 63,9% بالنفي، و30,9% نعم، و5,6% محايد.
ويتضح من الاستبيان الذي نفذه كاتب التقرير على عينات عشوائية من المواطنين في مدينة تعز، أن 59,1% أفادوا بأنهم حصلوا على نتائج إيجابية من وصفات الأدوية التي حصلوا عليها من الصيادلة، فيما 40,9% أفادوا بأنهم لم يستفيدوا، وبحسب الاستبيان، فان 82,5% يعارضوا قيام الصيادلة بدور الأطباء، فيما 17,5% يؤيدون ذلك.
ووفق الاستبيان، يأتي الفقر، وارتفاع قيمة الرعاية الطبية في العيادات الخاصة، وغياب الوعي، على رأس الأسباب التي تؤدي إلى اعتماد الكثير من الأسر الذهاب إلى الصيادلة للحصول على خدمات صحية، خاصة أن معاناة القطاع الصحي تفاقمت مع انتشار جائحة كورونا، وشعور الناس بالخوف من الأخطاء الطبية والشائعات التي رافقت الجائحة.
وبحسب الاستبيان، يرى الكثير من المواطنين أن ذهابهم إلى الصيادلة أمر طبيعي في ظل انتشار الفقر وتدهور الوضع الصحي الحكومي وارتفاع الأسعار في المستشفيات الخاصة والعامة، وعدم قيام الجهاز الرقابي للدولة بدوره لوضع حد للصيادلة الذين ارتكبوا أخطاءً أودت بحياة الكثير من المواطنين، فيما أفاد بعض المشاركين في الاستبيان، بأن الصيادلة يستغلون قلة الوعي الصحي لدى المواطنين، ويوهمونهم بأنهم أكثر دراية ومعرفة من الأطباء.