ندرك الفارق الزمني منذ مطلع السبعينات من القرن العشرين الماضي واليوم، كما ندرك التبدلات الشاملة والتغيرات التي طالت كل شيء: سقوط النظامين القائمين زمن تأسيس الاتحاد، وصدور مجلة «الحكمة»- لسان حال الاتحاد، وسقوط دولة الوحدة، والحروب المتطاولة منذ 94، ابتداءً بالحرب التي شُنَّت ضدًا على الجنوب، مرورًا بحروب صعدة الستة، والحرب القائمة منذ ستة أعوام؛ فما هو قائم اليوم مختلف عما كان عليه الحال في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، أو الجمهورية العربية اليمنية زمن تأسيس الاتحاد.
تبنى الاتحاد الأدبي الوحدة، وهو أول نقابة إبداعية موحدة علنية وديمقراطية في ظل دولتين شطريتين ترفضان التعددية والديمقراطية، ورؤيتهما حول الوحدة مختلفتان حد التصادم. ما نكتبه لا يعني اجترار الماضي أو محاولة استعادته؛ فالزمن واللحظة الاجتماعية لا تستعاد
أمس الذي مرّ على قربهِ يعجزُ أهلُ الأرض عن ردّهِ
كحكمة المعري العظيم. نعرف جيدًا ما صنعته الحروب الكاثرة، ومراد تُجارها وسماسرتها، وغايات ومطامع الصراع الإقليمي والدولي، وحالة الاحتراب والتفكك الذي تعيشه اليمن. ندرك أن الأهداف مختلفة حد التباين، وأنه خلال ما يقرب من نصف قرن نشأ جيل جديد من الأدباء والأديبات والكتاب والكاتبات والمبدعين والمبدعات في مختلف ألوان الإبداع، ولهم قراءاتهم المختلفة ورؤيتهم المغايرة، ولديهم أهداف ومطامح مشدودة للمستقبل أكثر.
دعوة الزملاء في «منصة خيوط» لإحياء ذكرى اتحاد الأدباء والكتاب الذي ضَمَّ ألوان الطيف الأدبي في عموم اليمن، وتجاوز الطبيعة الشطرية للنظامين في الشمال والجنوب، وقفز على الأبعاد الأيديولوجية والصراعات السياسية الكالحة والبنى المتخلفة- دعوة نبيلة. ما يهمنا من تجربة الاتحاد الأدبي قضية الدعوة للوحدة والديمقراطية التي دعا لها مبكرًا؛ فيومها كان الوطن مشطورًا بوجود نظامين سياسيين مختلفين، ولكن البنى الاجتماعية متآخية ومتعايشة، أما الوضع اليوم، فاليمن كله محروب، وتتحكم في مصائره مليشيات مسلحة تلقى السند والدعم من الصراع الإقليمي والدولي، ويغيب عنها أو يضعف التفكير السياسي والعقلاني.
الرائع في الدعوة النبيلة للاتحاد ربطها العميق بين الوحدة والديمقراطية وعبر السبل والوسائل السلمية، وكان الاتحاد نفسه القدوة والمثل في هذا المسار.
منذ البدء كان الاتحاد، وعبر قيادته ومجلته «الحكمة» وافتتاحياتها يدعو لتوحيد العمل الجماهيري عبر النقابات والمنظمات الإبداعية، وسعي الاتحاد لتأسيس نقابات ومنظمات موحدة في الوطن. وفي العام 1974، فتح الاتحاد نقاشًا واسعًا شارك فيه عدد من الأحزاب السياسية العلنية والسرية حينها، وشخصيات عامة، وقوى مختلفة حول رؤيتها للوحدة اليمنية، وسبل تحقيقها. كانت الرؤيتان السائدتان حينها إما تحقيق الوحدة سلميًّا أو بالقوة؛ فقد كان النظامان الشطريان- بحسب توصيف الاتحاد- أمْيَل إلى تحقيق الوحدة حربًا أو سلمًا، وهما أكثر جنوحًا واقتناعًا بالقوة التي يحكمان بها، ولا يريان من سبيل للوصول إلى السلطة غير امتشاق السلاح.
كانت مواقف قيادات الأحزاب غير بعيدة عن مواقف الحكام، بينما كانت الغالبية العظمى من قواعد الأحزاب العلنية والسرية والجماهير الشعبية مع تحقيق الوحدة سلمًا.
تحققت الوحدة في الـ22 مايو 1990، سلمًا لاعتبارات عديدة موضوعية وذاتية بعضها خارج إرادة الحكام، ورغم أن الوحدة تحققت وفق دعوة ونضال الأدباء والكتاب، إلا أن الاتحاد استُبعد من أي مشاركة، وجرت محاولة اغتيال الأب الروحي للاتحاد والمؤسس الحقيقي الفقيد عمر الجاوي بعد أشهر من قيام الوحدة، وقُتِلَ رفيق دربه حسن الحريبي- أول شهيد للديمقراطية.
دخان الحروب وغبارها وحالة التفكك والتمزق الوطني وانهيار الكيان يجعل نداء الوحدة حديث خرافة، ولكن الأجيال الجديدة من المبدعات والمبدعين هم وهن من سيصنع المستقبل الواعد
مقتل الشهيد المهندس حسن الحريبي كان مؤشرًا على أن قوى التوحيد بالقوة، خصوصًا القوى العسكرية والقبلية والإسلام السياسي الذي تحول إلى معارضة، غير مقتنعين بالوحدة السلمية وشراكة الجنوب، ويريدونها معمّدة بالدم. هذا الطرف كان يرفض الديمقراطية بالأساس، ويرى أن الوحدة لا تتحقق إلا عبر القوة، ويرى أن الشمال هو الأصل، والجنوب فرعًا، ولا يقبل بحال مشاركة الجنوب أو الأطراف السياسية الأخرى.
بُدِأَ الإعداد لحرب 1994، عبر الاغتيالات، ورفض الإصلاحات. حرب 1994، دمرت الوحدة السلمية والديمقراطية، وألغت عمليًا التعدد والتنوع، وكانت هذه الحرب بداية الحروب المتواصلة والمتناسلة حتى اليوم.
وضع الاتحاد اليوم هو وضع البلاد المحروبة المفككة والممزقة، والقضيتان الأساسيتان أو بالأحرى، التلازم بين خيار الوحدة السلمية والديمقراطية، كان هدفًا رئيسيًا للحرب، ولا يزال حتى اليوم هدفها وعدوها الحقيقي.
استشرافنا وموقفنا، كأدباء وكتاب، ينبغي أن يتركز حول وقف الحرب، وتسويد السلام في اليمن كلها؛ فهمُود قصف الطيران ودوي المدفع وأزيز الرصاص، وتحقيق المصالحة الوطنية والمجتمعية الشاملة يؤسس الأرضية الصلبة لإعادة بناء الوطن وخلق المواطنة التي تعلو على عصبيات ما قبل عصر الدولة.
كان الاتحاد أدبيًا بالأساس، أما الهمّ السياسي، فكان ينبغي أن يكون مضمرًا أو مستبعدًا، ولكن في ظل تجريم التعدد في الشمال والجنوب، تحول الاتحاد الأدبي إلى منبر سياسي وجبهة أدبية وثقافية وسياسية واسعة تتجاوز التشطير والتكوينات المختلفة والانتماءات الضيقة، وقام مقام الأحزاب المحظورة والمغيبة، واضطلعت قيادة الاتحاد بدور رائع في الموقف ضد حربي 72 و79، وحمَت الأدباء والكتاب في الشطرين.
تغيُّب دور الاتحاد ككيان وحدوي مرده في جانب معين إلى أن الوحدة كانت ولا تزال هدفًا لحرب 94، وإلى اليوم يتبنى الاتحاد نشر الإبداع والثقافة الوطنية في الحدود المتاحة، ودعوات الحداثة والتجديد والاستنارة، ورفض نهج العنف والحروب، لكن لغة الغلبة كانت المهيمنة في الشطرين.
حالة التخلف والركود والتحرك للخلف تجعل «الميثاق المقدس» ومطالبه حية؛ فما بالكم بقضية التلازم بين الوحدة السلمية والديمقراطية. دخان الحروب وغبارها وحالة التفكك والتمزق الوطني وانهيار الكيان يجعل نداء الوحدة حديث خرافة، ولكن الأجيال الجديدة من المبدعات والمبدعين هم وهن من سيصنع المستقبل الواعد والآتي بإبداعاتهن وإبداعهم؛ فهم وهن من يتحدون الموت ويقهرون المستحيل، وهن وهم جيل ثورة الربيع العربي وصناع مستقبل اليمن الجديد.
مهمتنا جميعًا التنادي لتلجيم وحوش الحرب وزبانيتها بمختلف صورهم وأشكالهم، وغرس شتلات السلام في الأرض المحروبة والمجدبة؛ فالحرب العدو الأول للحياة، ومن باب أولى للإنسان والإبداع والتفتح والازدهار كأهم معاني الحياة.
صحيح أن المبدعين والمبدعات استَطعْن واستطاعوا إبداع القصيدة والقصة والرواية في أرقى مستويات الإبداع، رغم أنف الحروب والمجاعات المميتة والأوبئة الفتاكة؛ وهو إنجاز عظيم، وتحدٍّ كبير.
في المناخات والظروف الطبيعية والحياة الآمنة يزدهر الإبداع، وتقوى أكثر فأكثر إرادة الخير والعطاء.